القائمة الأقباط اليوم أبحث
أهم الأخبار

«خبيئة بيكار».. في صُوانِ طفولتنا.. بقلم فاطمة ناعوت

بقلم فاطمة ناعوت

أن يقف وزيرُ ثقافة فى دولة عريقة فى الفنون الرفيعة والإرث الحضارى الهائل، ويقول أمام حشود المثقفين: أنا مَدينٌ لهذا الفنان المصرى العظيم، ووالدى مَدينٌ له. وكان اسم ذلك

«خبيئة بيكار».. في صُوانِ طفولتنا.. بقلم  فاطمة ناعوت

الفنان يتردد كثيرًا فى بيتنا منذ طفولتى وحتى دخلتُ عالمَ الفنون الجميلة....، حينما تُقال مثل تلك الكلمات العرفانية الجميلة، فى محفل ضخم يُقام على شرف الفن والجمال والميراث

الحضارى، فاعلمْ أنكَ فى مجتمع راقٍ رصين يُقدَّرُ فيه الفنُّ ويُعلِى صُنّاعُه من شأن عرّابيهم وأساتذتهم؛ خصوصًا حين يكون هذا الوزيرُ فنانًا تشكيليًّا فى فنون الحفر

والجرافيك، وأكاديمًّيا مرموقًا فى كليات الفنون الجميلة محليًّا ودوليًّا هو: الدكتور أحمد فؤاد هنّو، وابنًا لفنان تشكيلى فى فن التصوير هو الدكتور فؤاد عبدالسلام هنّو. وأما

الفنان العظيم الذى قدّم له الوزيرُ العرفانَ والتوقيرَ فهو الراحلُ الخالدُ العصىّ على النسيان: حسين بيكار، الرسامُ والموسيقىّ والشاعر، أو لنقل اختصارًا: هو الموسوعة الفنية الوطنية: حسين بيكار.

المكان: المسرح الصغير فى دولة الأوبرا المصرية الجميلة، والمناسبة: عيد الميلاد رقم 112 للعملاق المشرق: حسين بيكار. الحدث: افتتاح معرض خبيئة بيكار ومجموعة من أندر أعماله التى تُعرض للمرة الأولى فى

متحف الفن الحديث بدار الأوبرا المصرية، بعد تطويره وتحديث آليات العرض المتحفى به، ثم عرض الفيلم الوثائقى الخالد: العجيبة الثامنة فى المسرح الصغير. هذا الفيلم التاريخى النادر الذى فقدته مصرُ

أربعين عامًا، ولم يُستعد إلا منذ سنوات قليلة بعد جهود ثقافية مضنية، وهو من إخراج النيوزيلاندى جون فينى، والذى يُوثّق حكاية تشييد معبدىْ أبوسمبل، بالحفر فى الجبل Rock-Cut، ثم تقطيعهما ونقلهما، على

مدى ثمانية أعوام من الستينيات الماضية، من مكانه الأصلى فى النوبة إلى مكانه الحالى فى مأمن من الغرق بعد بناء السد العالى، فتم إنقاذه فى واحدة من أعقد وأصعب عمليات تفكيك الصخور وإعادة تركيبها على

نحو هندسى فائق الدقة، عرفها التاريخ، خاصةً حين نعلم أن أحجار المعبدين تجاوز وزنُها ربع المليون طنٍّ فى زمن لم يعرف بعد الروافعَ الحديثة ومناشير الليزر الدقيقة ولا برامج الأوتوكاد، بل مجرد قاطعة

كهربائية بدائية خُلِّدت بوضعها أمام المصنع الأوروبى الذى صنعها كأجمل دعايا لهذا المصنع. فهى الآلة التى مرّت نصالُها فى جسد معبد أبوسمبل المصرى الخالد. وأما وجه الملك العظيم رمسيس الثانى فقد قطّعه

منشارٌ يدوى اسمه: حسن، تخليدًا لاسم العامل المصرى العبقرى الذى صنعه وشحذه وقام بتعديل أسنانه، وضبط نتوءاته على إيقاع ملامح وجه التمثال الملكى؛ لئلا يُخدش جمالُه أو تُمسُّ أصالتُه. اعتمدت المادةُ

المصورة للفيلم التاريخى، وبشكل كامل، على لوحات فائقة الجمال والحياة، تكاد تنطق وتتكلم وتحكى، رسمتها ريشةُ بيكار الخالدة. تلك الريشة التى تخيّلت مراحلَ بناء المعبدين، حفرًا فى الجبل، على مدى 20

عامًا فى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ثم تُصوِّر مراحلَ قَصِّه وتقطيعه بالمناشير الكهربائية واليدوية ونقله من أسوان، ثم إعادة تركيبه فى مكانه الراهن، على مدى ثمان سنواتٍ منذ عام 1960 وحتى 1968.

تلكما معجزتان مصريتان تاريخيتان عالميتان خالدتان، إحداهما وقعت قبل التاريخ بثلاثة عشر قرنًا بأياد مصرية خالصة، والأخرى حدثت منذ ستين عامًا فى عهد وزير ثقافة نيّر اسمه الدكتور ثروت عكاشة، تكاتفت

فيه الأيادى المصرية الشريفة، مع منظمة اليونسكو التى تعنى بالحفاظ على الإرث الحضارى والتاريخى العالمى، بالتعاون مع شعوب العالم المتحضر التى تعرفُ قدرَ وقيمة كلِّ حجر صغير فى أى أثر مصرى خالد.

معجزتان كبريان دوّنتهما ذاكرةُ الأحجار فى معبدين مصريين خالدين، أحدهما: معبد أبوسمبل العظيم الذى تتعامد فيه الشمسُ على وجه الملك رمسيس الثانى مرتين كلَّ عام: مرةً وقت الاعتدال الربيعى والأخرى

وقت الاعتدال الخريفى، أما المعبد الثانى فقد شيده الملكُ رمسيس الثانى هديةً لزوجته الجميلة نفرتارى التى قال عنها: هى التى من أجلها تُشرق الشمس، فى واحدة من أروع وأبهى وأرقى عبارات الغزل والتمجيد فى التاريخ، مما قالها رجلٌ لزوجته.

شكرًا للوزير المثقف د. أحمد فؤاد هنّو الذى يثبت يومًا بعد يوم أن الإبداعَ لا يحتاج إلى شعاراتٍ، بل إلى خلق مساحة حقيقية للوجود، هو فاعلُها ومحققها. وشكرًا لسلفه العظيم الدكتور ثروت عكاشة أحد

خوالد مصر الراسخة فى ذاكرة الوطن. شكرًا للمهندس الفنان حمدى سطوحى الذى قدّم عرضًا مبهرًا وتعليقًا ملهمًا على الفيلم الوثائقى الخالد. وشكرًا لقطاع الفنون التشكيلية وصندوق التنمية الثقافية.

شكرًا لدار الأوبرا المصرية العظيمة وباليرينته الجميلة د لمياء زايد. والشكر لا ينقطع لفارس الريشة حسين بيكار أجمل خبيئة فى صوان طفولتنا، ذاك الذى استنطق الحجر وقدّم للتاريخ كلَّ هذا الجمال.

فاطمة ناعوت - المصرى اليوم
23 يناير 2025 |