عبرت بنا ذاكرة التاريخ، يوم السبت الماضى 2/ 11/ 2024م، بالذكرى السابعة بعد المائة على وعد بلفور (2/ 11/ 1917م)، الذى وهب أرضًا لا يملكها لشعب شتته الله فى كل الأمم!!!، وقد سبق الحديث فى سلسلة من هذه
المقالات عن هذا الوعد ورفض الكيان الفلسطينى والعربى له، وما تبِعه من احتجاجات وإضرابات ونداءات لأجل إبطاله. وهنا أذكر بعض كلمات د. عدنان بدر، المنسق العام للمؤتمر الشعبىّ اللبنانىّ، فى تلك
الذكرى المؤلمة؛ فيقول إن ذلك الوعد قد سبقه عدد من الأحداث التى مهدت الطريق إليه، ومنها: مقالة الاستعادة العظمى العالمية لكاتبها Henry Finch المستشار القانونىّ للقصر الملكىّ البريطانىّ، ونشرها سنة
1621م، ثم سنة 1897م جاء المؤتمر الذى دعا إليه تيودور هرتزل الصهيونىّ اليهودى فى سويسرا، ثم مؤتمر كامبل بنرمان سنة 1907م الذى بعد عشر سنوات منه كان الوعد المشؤوم (وعد بلفور)، حيث تولت بريطانيا تساندها
فرنسا مهمة تنفيذ الوعد، وكانت نكبة قيام الكيان الإسرائيلى (15/ 5/ 1948). وتجدر الإشارة هنا فى البيان إلى أن كل المستعمرين والمستعمرات كانوا يومذاك يمتلكون أقل من خمسة بالمائة من عموم التراب الوطنىّ الفلسطينىّ.
وقد تحدثت المقالة السابقة عن السنوات من 1920 حتى 1948م، ودور المندوبين السامين البريطانيين فى إدارة شؤون فلسطين لتحقيق حُلم الوطن اليهودىّ، بإصدار القوانين التى تتيح الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وبتمليك اليهود الأرض الفلسطينية
وحصولهم على جنسيتها، إلا أن الجهود الفلسطينية لم تتوقف فى مقاومة سلب أراضيها بالتظاهرات التى بلغت ذروتها فى العصيان المدنىّ للفلسطينيين. ولم يتوقف الإضراب إلا سنة 1936م بعد نداءات الملوك والزعماء العرب، حتى اندلعت ثورة البُراق.
وقد كان هناك دائمًا نزاع كبير بين المسلمين واليهود على الجدار الغربىّ للحرم القدسىّ، إذ يعتقد المسلمون أنه يرتبط بأحداث ليلة الإسراء والمعراج، ويطلقون عليه حائط البُراق، فى حين
يعتقد اليهود أنه آخر ما تبقى من هيكل هيرودس الكبير، الذى كان قد بدأ فى ترميم الهيكل وتوسيعه فى السنة الثامنة عشرة من ولايته (20 ق. م.)؛ واكتمل بناؤه سنة 64م على يد هيرودس أغريباس- بحسب
يوسيفوس، المؤرخ اليهودى، ويطلق اليهود عليه حائط المبكى، حيث يبكون وينوحون على تدمير الهيكل ومدينة أورشليم. وهكذا صار الحائط سبب نزاع شديد بين المسلمين واليهود أدى إلى تأليف لجنة
تحكيم بين الجانبين من قِبَل بريطانيا فضًّا للتنازع وتهدئةً للاضطرابات؛ وحكمت اللجنة بأحقية المسلمين فى تملك كل المنطقة المحيطة بالجدار الغربيّ من الحرم، وباعتباره وقفًا إسلاميًّا.
ولم يتوقف النزاع بذلك الحكم، بل ازداد شراسة!!، خاصة بعد تجمع اليهود فى عيد الغفران اليهودىّ سنة 1928م بأعداد غفيرة عند الحائط، وأعدوا المكان لأداء طقوسهم، ونفخوا فى البوق، ورفعوا صورًا للهيكل؛ وانطلقت شرارة
الغضب فى أنحاء فلسطين كافة؛ وتدخل الجانب البريطانى لتهدئة الأمور، وحكمت اللجنة البريطانية بتملك المسلمين للجدار الغربى وما جاوره. وفى أغسطس 1929م، تظاهر اليهود وطافوا فى شوارع القدس حتى وصلوا قرب الحائط فرفعوا
عَلَمهم؛ ويذكر موقع القدس: وفى اليوم التالى، وكان يوم جمعة، حلت ذكرى المولد النبوىّ الشريف، فاحتشد المسلمون فى (الأقصى) من (القدس) والمناطق المجاورة، وساروا فى تظاهرة نحو الحائط موضع النزاع؛ وهناك ألقى خطيب
(المسجد الأقصى) خُطبة ألهبت حماس الجماهير، فأحرقوا بعض متعلقات اليهود عند الحائط. وفى الشهر التالى، حدث شجار بين شاب مسلم وآخر يهودىّ، وازدادت الأمور تعقيدًا بوفاة اليهودىّ، فتحولت جنازته إلى تظاهرة صهيونية سياسية.
انتشرت الأخبار فى القرى التى تحيط القدس بأن اليهود يُبيتون النية لمهاجمة حائط البُراق؛ فاحتشد المسلمون بـالقدس صباح الجمعة 23- 9، ثم هاجموا أحياء اليهود فيها؛ وكان حصاد
القتال فى (ثورة البُراق) مائة وستة عشر شهيدًا عربيًّا، ومائة وثلاثة وثلاثين قتيلًا صهيونيًّا، وجرحى من اليهود عددهم ثلاث مائة وتسعة وثلاثون، ومن المسلمين مائتان
واثنان وثلاثون. وألفت عُصبة الأمم سنة 1930 لجنة دولية للحكم فى النزاع بين المسلمين واليهود فى ملكية حائط البُراق، و.. وما يزال حديث القدس يأخذنا، والحديث فى مصر الحلوة لا ينتهى!.
* الأسقف العام
رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى