لمّا الشتا يدق البيبان، شهور الشتاء تدق أبواب المنهكين الصابرين، وشهور الصيف مضت لافحة سلخت وجوهنا بلهيب من الإفك والكذب والاجتراء والافتراء على النصر العظيم، وتشتاق النفوس إلى ما يرطِّب أيامنا بنسمات الفَخَار، وتتملَّل الروح تودُّ لو تعود، وكما عادت من رحم الهزيمة تعود من رحم الفوضى، وتثبت حضورًا بعد غياب طال كدهر.
كتبت سابقًا، كم تحنُّ نفوسنا إلى فيلم سينمائى يصل بين أرواحنا الضائعة وأرواح الشهداء التائهة فى زمن الضياع، وقصدت فيلمًا ملحميًا عن أبطال العبور العظيم.
ضاع وقت لا نمتلكه بين أيدينا، ضاع الكثير من السنوات مضت على العبور العظيم (51 عامًا) ونحن ننتظر فيلمًا يعبِّر عن روح الانتصار العظيم.
لماذا تأخرت سينما البطولة عنا؟
لماذا تغيب الملحمة عن الشاشة؟
نقصِّر فى حق أنفسنا إن قصَّرنا فى تسجيل بطولات الشهداء الأبطال، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.
سينما الحرب فى تاريخ الأمم ليست رفاهية، ولا ترفًا، وحكى البطولات ليس من قبيل تزجية الفراغ، إزاء بطولات من لحم ودم وروح وإبداع، وإذا لم نتوفر على تسجيل هذه البطولات التى تعبر عن روح المقاتل المصرى نخطئ كثيرًا، أخشى أن زمن البطولات يفلت من بين أيدينا كأشعة شمس يعميها الظلام.
فى يوم ليس بعيدا، (قبيل جائحة كورونا)، أوصى الرئيس السيسى مشكورا، جمعا من الكتاب السينمائيين المحترمين على تسجيل بطولات العبور العظيم، وتحدث إليهم مطولًا، وعبَّر عن شوقه وأشواق المصريين إلى فيلم يجسِّد المعجزة، ويعيد الروح، ويستلهم البطولة، ويعيد الاعتبار، ويزيل الغبار، ويقشع الظلام الذى فيه يَعْمَهُ المرجفون.
فيلم يؤنسن البطولة المصرية، ويلمس جوانب عظمتها الإنسانية، وأوصى المؤتمنين على النصر فى قواتنا المسلحة (وقتئذ) بتقديم كل المعونة الخالصة للإنتاج، ليس فيلمًا بل ستة أفلام مهما بلغت كلفتها، تمناها هدية متواضعة لأبناء وأحفاد الأبطال الذين حوَّلوا ليل الوطن إلى نهار.. وجانا نهار.
ومعلوماتى البسيطة أن كتيبة من المضروبين بحب تراب هذا الوطن توفروا، كُلٌّ على حدة، على بطولاتٍ ستٍّ، بل قل معجزات ستّ، تولى كل منهم معجزته، وكانت باكورتها وقرأت صفحات منها ملحمة كبريت، ما تيسر من سيرة البطل إبراهيم عبدالتواب ورفاقه العظام، بعنوان 134 يوم.. توفر عليها وأتمها قبل رحيله بسنوات طيب الذكر الكاتب الوطنى الكبير وحيد حامد.
لن أذهب إلى التفاصيل، مسطورة فى أوراق الراحل الكبير، تمنيت يومها ولا أزال أرى هذا الفيلم الذى يخلد ذكرى استشهاد البطل العظيم إبراهيم عبدالتواب الذى كتب بشارة النصر بدمه، وترك وصيته لأحفاده، وثيقة محفوظة للأجيال، كفنونى بعلم مصر، وسلموا ابنتى (منى) المصحف والمسبحة.
تلك هى وصية العقيد إبراهيم عبد التواب التى تركها أمانة بين أيادى جنوده لحظة أن وطئت قدماه أرض موقعة (كبريت) فى التاسع من أكتوبر 1973.
وعشمى أن يرى أكتوبر المقبل ملحمة (نفحة) سينمائية طيبة ترد الروح، أخشى أن أعوامًا تمر وأجيالًا لا تعرف أنه كان هناك بطل مصرى من ضهر مصرى، أسد غشيته الهزيمة فلم ينسحق، وعاش الموت بقلب شجاع، وذاق حلاوة النصر قبل الشهادة، وإذ جاءته الشهادة أوصى جنوده بالأرض.