تفسير الاصحاح السابع عشر من سفر العدد للقمص تادري يعقوب ملطى
عصا هرون
إذ تذمر الشعب على موسى وهرون بسبب ما حدث لقورح وجماعته مغتصبي الكهنوت، أراد الله أن يؤكد للشعب بطريقة ملموسة اختياره هرون رئيسًا للكهنة، فارزًا إياه عن الكهنوت المزيف.1. عصا لكل سبط : 1-7. 2. ثمرة اللوز : 8-9. 3. عصا هرون والشهادة : 10-13.
1. عصا لكل سبط:
أراد الله أن يؤكد للكل أن اختيار الكهنة أمر يخصه هو شخصيًا، وكما يقول الرسول بولس: "لا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من الله كما هرون أيضًا" (عب 5: 4). لقد أخذ موسى عصا من كل سبط يكتب على كل منها اسم رئيس السبط، وكأنها تمثل عصا الرئاسة أو الأبوة للسبط، أما عصا سبط لاوي فكتب عليها اسم هرون، وإذ قدمت العصي أمام تابوت الشهادة في الخيمة وجدوا في الغد أن عصا هرون قد أفرخت وأزهرت بل وأثمرت لوزًا. يلاحظ في هذا العمل العجيب:أولاً: تشكيكات قورح وجماعته لم تهز هرون بل ثبتت عمله في عيني الله والناس، فإن التجارب تزيد الإنسان مجدًا، وكما يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [كما في حالة هرون، لقد ثاروا ضده، فأكدوا عظمته، إذ لم يعد أمرسيامته موضع تساؤل بل موضع إعجاب[124]].
ثانيًا: أكَّد الله اهتمامه باختيار الكهنة بنفسه، وكما يقول القدِّيس إمبروسيوس: [هكذا اختار الله بنفسه هرون كاهنًا حتى لا يكون للإرادة البشريّة موضع بل تقوم نعمة الله بالدور الأعظم في اختيار الكاهن. فلا يتقدم الإنسان من نفسه للكهنوت ولا بإلزام (من الناس) إنما يتقبله دعوة من السماء[125]]. هذا ما دفع الكنيسة أن تصلي في كل ليتورجية لله قائلة: "الذين يُفَصِّلون كلمة الحق باستقامة أنعم بهم على كنيستك[126]". هو وحده العارف القلوب المستقيمة يختار من يصلح لخدمته. وحينما أعلن الله لموسى أن وقت نياحته قد حان كانت طلبته الأخيرة عن شعبه: "ليوكل الرب إله أرواح جميع البشر رجلاً على الجماعة" (عد 27: 16). ولم يرد الشيخ النبي موسى صاحب الخبرة الطويلة في القيادة، والعارف بكل الرؤساء وذوي الاسم أن يختار، طالبًا من إله الأرواح العارف الأعماق الداخليّة أن يختار حسب إرداته الإلهيّة!
ثالثًا: يرمز هرون الذي أفرخت عصاه إلى السيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم، يقول العلامة أوريجينوس: [المسيح هو الكاهن الأعظم الحقيقي، وهو الوحيد الذي أفرخت عصاه التي هي الصليب، بل وأزهرت وأنتجت ثمارًا لكل المؤمنين[127]].
رابعًا: ترمز عصا هرون التي أفرخت إلى السيدة العذراء مريم التي أنجبت ابن الله المتجسد، إذ قدمت لنا ثمرة الحياة. فهي كالعصا في ذاتها لا تقدر أن تنجب، لكنها إذ دخلت في دائرة نعمة الله قدمت لنا ابن الله القدوس متجسدًا في أحشائها. لهذا تترنم الكنيسة في ثيؤطوكية الأحد قائلة:
"بالحقيقة أنت أعظم من عصا هرون،
أنت ممتلئة نعمة،
العصا رمز لبتوليتها.
لقد حبلت بابن العلي- الكلمة ذاته- وولدته بغير زرع بشر!".
بهذا صارت عصا هرون تشير إلى الكنيسة الجامعة والتي تمثل العذراء العضو الأمثل فيها، فقد صار المسيح ساكنًا فينا، حملناه كثمرة حياة في داخلنا نحن الذين كنا كعصي جافة بلا حياة. وما أقوله عن كل عضو في الكنيسة أقوله، بالأكثر عن الكاهن الذي يحمل ثمار إلهيّة في خدمته إن قَبِل العمل الكهنوتي من الله مستخدمًا الوسائط الإلهيّة في خدمته لا الطرق البشريّة.
2. ثمرة اللوز:
إذ تحولت العصا الجافة إلى غصن حيّ يحمل أوراقًا وزهورًا وثمر لوز ظهر غنى نعمة الله الفائقة في كنيسته من جوانب كثيرة، نذكر منها:أولاً: حملت شهادة ماديّة ملموسة عن سيامة هرون كاهنًا من السماء مباشرة. يقول القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص: [كانت النتيجة أن عصا واحدة قد صارت شهادة للسيامة السماويّة، إذ تميزت عن بقية العصي بمعجزة إلهيّة[128]].
ثانيًا: قدمت هذه العصا صورة رمزيّة حيّة عن حياة الخادم، إنه يصير كاللوز من الخارج له غلاف خشبي خشن لكنه في الداخل يحمل عذوبة الأبوة وحنان الرعاية، مقدمًا طعامًا روحيًا شهيًا لأولاده. يقول القدِّيس إمبروسيوس[129] أن عصا هرون كانت من الخارج خشبة لكنها في الداخل حلوة. ويقول القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص: [من اللائق أن ندرك نوع الحياة التي تميز الكهنوت خلال الثمرة التي اتنجتها عصا هرون، أقصد بذلك الحياة المضبوطة الخشنة والجافة في المظهر، لكنها تحوي- بطريقة خفيّة وغير منظورة- في الداخل ما يمكن أكله. يصير ذلك ظاهرًا عندما تنضج الثمر وتكسر القشرة القاسية وينزع الغلاف الذي يشبه الخشب عن الطعام[130]].
ثالثًا: يرى العلامة أوريجينوس في ثمرة اللوز التي أنتجتها عصا هرون إشارة إلى تفسير كلمة الله التي يلتزم بها الكاهن. فاللوزة تحمل قشرة خارجيّة مُرَّة تجف وتسقط وهي على الشجرة، هذه القشرة تشير إلى التفسير الحرفي لكلمة الله، فإنه مُرّ وغير مفيد، لهذا يليق أن نتركه لندخل إلى أعماق كلمة الله في الداخل ونتعرف أسرارها.
وفي رأيه أن اليهود والهراطقة الغنوسيين تعثروا في السيد المسيح وفي العهد القديم لأنهم لم يتعدوا التفسير الحرفي لكلمة الله. يلي هذا الغلاف الصلب الذي نكسره لكي نأكل اللوزة وهو يمثل التفسير الأخلاقي أو السلوكي حيث فيه نمارس حياة الإماتة والأتعاب الجسديّة من أصوام وميطانيات.. الخ، أما اللوزة الداخليّة فتمثل التفسير الروحي أو الرمزي، الدخول إلى ما وراء الحروف لنلتقي بالسيد المسيح المأكل الحق، وسرّ حياتنا[131].
رابعًا: يرى القدِّيس إمبروسيوس في هذه العصا صورة لعمل الله في المؤمنين في كنيسة العهد الجديد، إذ يقول: [في تابوت العهد أفرخت عصا هرون، فإنه يسهل على الله أن ينبت زهرة في الكنيسة المقدَّسة منا نحن الذين كالحزم[132]]. أما العلامة أوريجينوس[133] فيرى فيها صورة رمزيّة لدرجات المؤمنين الأربعة:
أ. العصا الجافة صارت غصنًا رطبًا أي حملت حياة، إشارة إلى الاعتراف بالسيد المسيح، فبالإيمان تنطلق نفوسنا من حالة الموت إلى الحياة.
ب. أنتجت العصا أوراقًا إشارة إلى الميلاد الجديد ونعمة الله بروحه القدوس الذي يقدم لنا إمكانيّة الحياة الجديدة في المسيح يسوع ربنا خلال المعموديّة.
ج. قدمت زهورًا إشارة إلى حياة النمو الدائم بعد الميلاد الجديد في المعموديّة.
د. أعطت ثمار البرّ لا في حياته فقط وإنما أيضًا في حياة الآخرين، هذا هو اللوز، هذا هو ثمر الشهادة للسيد المسيح والعمل الكرازي.
ويرى العلامة أوريجينوس أن هذه الدرجات الأربع ظهرت في حديث القدِّيس يوحنا الحبيب، إذ دعى المؤمنين هكذا: "أيها الأولاد.. أيها الأحداث..أيها الشبان.. أيها الآباء" (1 يو 2).
3. عصا هرون والشهادة:
وضع عصا هرون أمام الشهادة باستمرار يُذَكِّر هرون وبنيه أن ما ناله من بركات للعمل الكهنوتي هو من الله، فلا يتكبروا. وأيضًا يُذكِّر الشعب بذلك فلا يتذمروا. هذا بجانب ما حملته العصا من نبوة عن التجسد الإلهي من القدِّيسة مريم العذراء، الأمر الذي ينبغي أن يكون نصب أعين الكنيسة على الدوام.المراجع:
[124] In Acts, hom 54.
[125] Epist. 63: 48.
[126] القداس الباسيلي القبطي.
[127] In Num., hom 9: 7.
[128] Life of Moses 2: 284.
[129] Epis. 41: 3.
[130] Life of Moses 2: 285.
[131] للتوسع في هذا الأمر راجع كتابنا: آباء مدرسة الإسكندرية، أوريجينوس (الكتاب المقدس)، طبعة 1979.
[132] Conc. Virgins 1: 1.
[133] In Num., hom 9: 7.