تفسير الاصحاح الثامن عشر من سفر اللاويين للقمص تادري يعقوب ملطى
القداسة والعلاقات الجسدية
إفتتح حديثه هنا عن شرائع التقديس خاصة شريعة الزيجة المحرمة لا كأوامر تلتزم بها الجماعة قسرًا وإنما كطريق تتمتع فيه الجماعة بالحياة المقدسة التي لم ينعم بها الأمم، ولكي تتأهل الجماعة لأن تُحسب شعبًا لله القدوس، وأخيرًا حتى لا ينجسوا الأرض بالشر فتلفظهم عنها.1. مقدمة للشرائع [1-5].
2. الزيجات المحرمة [6-18].
3. الإنحرافات الجسدية [19-23].
4. نتائج الأباحية [24-30].
1. مقدمة للشرائع:
إن كان الرب يفتتح هذه الشرائع بشربعة "الزيجات المحرمة" فلئلا يظنوا في الشريعة أنها حرمان ومنع أعلن غايتها: "أنا الرب إلهكم، مثل عمل أرض مصر التي سكنتم فيها لا تعملوا ومثل عمل أرض كنعان التي أنا آت بكم إليها لا تعملوا، وحسب فرائضهم لا تسلكوا، أحكامي تعملون وفرائضي تحفظون لتسلكوا فيها، أنا الرب إلهكم، فتحفظون فرائضي وأحكامي التي إذا فعلها الإنسان يحيا بها. أنا الرب" [2-5].
يلاحظ في هذه الإفتتاحية الآتي:
أولاً: أنه يبدأها بقوله: "أنا الرب إلهكم"، ويختمها بقوله: "أنا الرب"، وفي المنتصف أيضًا يقول: "أنا الرب إلهكم"، مكررًا هذا التعبير أثناء حديثه في نص الشرائع ذاتها. وكأنه يود أن يقول أنا الرب إلهكم، أنا هو البداية، وأنا النهاية، وأنا هو طريقكم.. ما أقدمه لكم من شرائع ليس حرمانًا ولا تركًا لشيء إنما هو اقتناء ليّ أنا مشبعكم! الله هو غاية الوصية، نقبل وصيته وشريعته لكي نكتشفه ونقتنيه كسرّ حياتنا.
ثانيًا: أوضح في هذه الإفتتاحية أنه بهذه الشرائع أراد أن يفرزهم له، فإن كان قد أطلقهم من أرض العبودية ووهبهم كنعان ميراثًا فلا يليق بهم أن يسلكوا بذات سلوك من استعبدوهم ولا بسلوك من اقتنوا أرضهم. يليق بشعب الله، وبكل عضو فيه أن تكون له شريعته الروحية التي تميزه عن محبي العالم.
ثالثًا: يرى القديس أكليمندس الإسكندري[232] في هذه العبارة أن مصر تُشير إلى محبة العالم وأهل كنعان إلى الخداع، وقد جاءت الوصية الإلهية تحذرنا من محبة العالم كما من الخداع.
رابعًا: يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على العبارة "فتحفظون فرائضي وأحكامي التي إذا فعلها الإنسان يحيا بها" قائلاً: [لا يوجد طريق آخر به يكون الإنسان بارًا إلاَّ بحفظ الناموس كله، لكن هذا ليس في استطاعة أحد قط، فقد فشل اليهود في التمتع بهذا البر[233]]. لذلك كانت الحاجة إلى من يحفظ الناموس ولا يكسر وصيه منه، وهو ربنا يسوع المسيح، الذي انحنى تحت الناموس ليتممه بإرادته عاتقًا إيانا من لعنته التي حلت بنا خلال كسرنا وصياه. لهذا قال الرسول بطرس: "إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك؟!" (يو 6: 68).
2. الزيجات المحرمة:
بعد الإفتتاحية السابقة عرض للزيجات المحرمة، مانعًا الإقتراب إلى جسد الأقرباء، وكشف عورتهم بمعنى الإمتناع عن الإتحاد معهم في علاقة زوجية، وقد حدد الزيجات الممنوعة هكذا:
أ. الزواج من الأب أو الأم [7]، حتى لا يسقط أحد فيما فعله إبنتا لوط (تك 19: 30-38) فأنجبتا للعالم موآب وعمون اللذين أقاما أمتين مقاومتين لله.
ب. الزواج من إمرأة الأب [8] سواء في حياة والده أو بعد وفاته. لقد تمررت نفس يعقوب عندما سمع أن إبنه البكر رأوبين اضطجع مع سريته بلهة (تك 35: 22)، حاسبًا إياه أنه دنس مضطجع أبيه، وبسبب هذا فقد بكوريته (تك 48: 22). إرتكب إبشالوم نفس الخطأ عندما ثار على أبيه داود وأقام نفسه ملكًا واضطجع مع سراري أبيه (2 صم 16: 22)
ج. الزواج من الأخت [9].
د. الزواج من الحفيدة [10].
هـ. الزواج من بنت إمرأة الأب [11] متى كانت مولودة من أبيه.. ربما يقصد بهذا أن إبنة إمرأة أبيه حتى وإن كانت ليست من أمه ولا من أبيه، لكنها تحسب مولودة من أبيه لإرتباط أمها به كزوجة. بمعنى آخر لا يجوز الزواج بإبنة إمرأة الأب حتى وإن كانت من أب آخر لأنها هي إبنة لأبيه خلال اتحاد أمها معه.
و. الزواج بالعمة أو الخالة [12، 13].
ز. الزواج من زوجة العم [14].
ط. الزواج من الكنة [15].
س. الزواج من إمرأة وبنتها، أو من إمرأة وإبنة إبنها أو إبنة بنتها [17].
ش. الزواج من أخت كضرة لأختها [18]، بمعنى ألا يتزوج إنسان أخت زوجته بعد تطلق أختها حتى لا تشعر الأولى بالكراهية نحو أختها، وبالأولى أيضًا لا يتزوج إنسان أختين معًا في حياتهما كما فعل يعقوب حين تزوج ليئة وراحيل قبل الشريعة.
والآن: لماذا جاءت الشريعة تحرم الزواج من هؤلاء القريبات جسديًا؟
أولاً: جاء التحريم ليحفظ قدسية الحياة العائلية خاصة وقد عاشت العائلات تحت سقف واحد، فالشاب يتطلع إلى والديه وأخوته وعمه وخاله وزوجة العم أو الخال وبنات الخال والعم بقدسية، خاصة إنهم من لحمه ودمه.. فهو يدرك أنه لا يتزوح أحدًا منهم فيتعامل بحب أخوي أو بنوي طاهر، بنظرة بعيدة كل البعد عن أي فكر جسداني.
ثانيًا: من الناحية الصحية يرى علماء الوراثة أن الزواج من الأقرباء كأبناء العم يعرض النسل لأمراض وراثية أكثر مما لو تزوج الإنسان من غير الأقرباء.
ثالثًا: يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[234] أن الإمتناع عن الزواج من أهل الزوجة أو الزوج المقربين إنما يعني الدخول في رباطات حب قوية حتى يحسب الإنسان أهل زوجته أهله، فلا يلتصق بهم بالزواج لأنه التصق بهم خلال زوجته. وبنفس الفكر يرى القديس باسيليوس الكبير[235] أن الرجل لا يستطيع أن يتزوج أخت زوجته حتى بعد وفاتها، لأن الشريعة تمنع الزواج من الأقارب الملتصقين به. فبالزواج إذ صار الإنسان واحدًا مع زوجته لا يجوز له الزواج بأمها أو إبنتها بكونهما أمه وإبنته، وهكذا لا يجوز له الزواج بأختها بكونها قد صارت له أختًا.
رابعًا: هذه الزيجات المحرمة ربما توسع دائرة الإرتباط الأسري، فلا تتقوقع كل عائلة حول نفسها.. بل يأخذ الأبناء من عائلات أخرى فترتبط العائلات معًا.
3. الإنحرافات الجسدية:
بعد منعه من الزواج بالمقربات جدًا، حذرت الشريعة من الإنحرافات الجسدية التي كانت منتشرة في بعض الشعوب الوثنية مثل:
أولاً: "لا تقترب إلى امرأة في نجاسة طمثها لتكشف عورتها" [19]. تمنع الشريعة من معاشرة الرجل لإمرأته في أثناء مرضها الشهري أو إذا كان بها نزف دم.. فإن تم ذلك عمدًا يقطع الإثنان من الشعب (20: 18)، أما إن كان سهوًا يُحسب الرجل نجسًا سبعة أيام (15: 19).
المنع يقوم على أساس صحي، إذ غالبًا ما تكون الزوجة من الجانب الصحي والنفسي غير مستعدة للمعاشرة الزوجية. أما الأساس الروحي، فكما جاء في قوانين الرسل: [إنهم يفعلون هذا لا لإنجاب أطفال بل لأجل اللذة. يليق بمحب الله ألا يكون محبًا للذة[236]].
ثانيًا: الإمتناع عن الزنا [20]، وكان عقاب الرجل الذي يزني مع إمرأة رجل آخر الموت رجمًا هو والمرأة (20: 10، تث 22: 22).
ثالثًا: الإمتناع عن تقديم الأطفال كذبائح بشرية كملوك إله عمون، بإجازتهم في النار أما الصنم [21].
رابعًا: الإمتناع عن الشذوذ الجنسي كمعاشرة الذكور [22]، أو الحيوانات [23].
4. نتائج الإباحية:
إن كان الله في الإفتتاحية أعلن شوقه نحو شعبه أن يحيا مقدسًا ليتسم الشعب بما يليق بإلهه، وأن يكون له سمته الخاصة التي تفرزه عن الأمم الوثنية، الآن في نهاية هذه الشريعة يكشف عن الجانب السلبي، وهو ثمر الخطية خاصة الإباحية الجسدية:
أولاً: حينما يلهو الإنسان في الرجاسات تتنجس الأرض به، ثم تعود فتقذفه خارجًا، وكأنها تجازيه عما فعله بها [25]. إن كان الله قد خلق العالم من أجل الإنسان، فإذ يفسد الإنسان سيد الأرض يفسد الأرض فلا تطيقه بل تتقيأه.
في القديم أخطأ آدم وحواء، فسقطت الأرض تحت اللعنة تنبت شوكًا وحسكًا (تك 3: 17)، وحينما سفك قايين دم هابيل، قيل: "لا تعود تعطيك الأرض قوتها" (تك 4: 12).. ويقول الرسول: "فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معًا إلى الآن" (رو 8: 22). والآن إذ نرجع إلى الرب مقدسين في دمه تباركه الخليقة وتمجده!
ثانيًا: إن كانت الأرض أو الخليقة لا تطيق الفساد فتقذفه، فبالأولى لا تطيق كنيسة الله المقدسة الشرير المصرّ على شره بل تفرزه وتطرده من العضوية في الجسد المقدس: "كل من عمل شيئًا من جميع هذه الرجسات تقطع الأنفس التي تعملها من شعبها" [29].
كان القطع في العهد القديم غالبًا ما يكون بالرجم، أما في العهد الجديد فبالحرمان من الشركة، كقول الرسول بولس عن ذاك الذي صنع شرًا مع إمرأة أبيه: "فإنيّ أنا كأنيّ غائب بالجسد ولكن حاضر بالروح قد حكمت كأنيّ حاضر في الذي فعل هذا هكذا، باسم ربنا يسوع المسيح أن يُسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع" (1 كو 5: 3-4). إنه كمن يسلمه للشيطان بطرده من شركة الحياة، لا عن كرهية وإنما لكي إذ تتمرر حياته يرجع تائبًا فيسمع كلمات الرسول نفسه عن ذات الشخص: "تسامحونه بالحرى وتعزونه لئلا يبتلع مثل هذا الحزن المفرط" (2 كو 2: 7).
المراجع:
[232] Strom. 2:10.
[233] In Rom. hom 17.
[234] In I Cor. hom 34:6.
[235] Ep. 140 to Diodours.
[236] . ك6، ف28:5.