تفسير الاصحاح السابع عشر من سفر اللاويين للقمص تادري يعقوب ملطى
المذبح والذبائح
في الأصحاح السابق إذ أعلنت الشريعة دور الذبيحة المقدسة في تقديس هرون أو رئيس الكهنة حتى يخترق الحجاب ويتمتع بالإقتراب من تابوت العهد ليشفع عن نفسه وكل شعب، أراد أن يعلن عن أهمية الذبيحة واربتاطها بالمذبح المقدس وقدسية الدم، حتى لا يحدث لبس بين الشعب.
1. المذبح والذبائح [1-9].
2. منع أكل الدم [10-12].
3. دم الصيد [13-14].
4. عدم أكل الميت أو الفريسة [15-16].
1. المذبح والذبائح:
كان الأمر الإلهي: "كل إنسان من بيت إسرائيل يذبح بقرًا أو غنمًا أو معزى في المحلة أو يذبح خارج المحلة وإلى باب خيمة الإجتماع لا يأتي به ليقرب قربانًا للرب أمام مسكن الرب يُحسب على ذلك الإنسان دم، قد سفك دمًا فيُقطع ذلك الإنسان من شعبه. لكي يأتي بنو إسرائيل بذبائحهم التي يذبحونها على وجه الصحراء للرب إلى باب خيمة الإجتماع إلى الكاهن ويذبحونها ذبائح سلامة للرب.." [3-5].
ماذا تعني هذه الشريعة؟ هل تحرم على شعب بني إسرائيل ذبح الحيوانات المحللة للأكل خارج باب خيمة الإجتماع، وتلزمهم بتقديم كل ذبائحهم كذبائح سلامة للرب [6]؟
هناك رأيان:
الرأي الأول: أن هذا النص يُفسر حرفيًا بالنسبة لشعب بني إسرائيل في البرية، فقد كان الله يهتم بأكلهم وشربهم وكل احتياجتهم، فيرسل لهم المن من السماء، فلم يصرح لهم بذبح حتى الحيوانات المحللة إلاَّ خلال الذبائح المقدمة للرب. ولعل كان غاية هذا تأكيد أن الله يعولهم حتى في أكلهم بطريقة فائقة أثناء تجوالهم في البرية. وما هم أهم أنه خشى عليهم من الذبح للأوثان، لذلك اشترك أن تقدم كل ما يذبح من الحيوانات الطاهرة باسم الرب عند باب خيمة الإجتماع ليكون للرب نصيب فيها. لعل بعض اليهود كان قد مارس الذبح لعجل أبيس في مصر أو كانت صورة الذبائح المصرية أمام عينيه فأراد الرب أن يمسح هذه الصورة حتى من ذهنهم فترة الأربعين سنة.
أما عند بلوغهم أرض كنعان وتقسيم الأراضي على الأسباط، إذ صاروا يأكلون من ثمار أرض الموعد ويذبحون سمح لهم بذبح الحيوانات الطاهرة وأكل لحمها (تث 12: 20-22)، بشرط أن يأتوا بذبائحهم التي للرب (غير الذبائح التي للأكل) وتقدماتهم وباكوراتهم إلى بيت الرب (تث 12: 11- 19، 26-27).
الرأي الثاني: إن ما ورد في هذا الأصحاح يقصد الذبح لا للطعام، وإنما كذبائح للرب، إذا أراد عدم تقديم ذبائح للعبادة خارج دائرة الخيمة أو الهيكل، أي بعيدًا عن مذبح الرب المقدس. هذه الشريعة يلتزم بها المؤمنون حتى لا ينحرفوا إلى الذبح للأوثان أو الإشتراك في العبادات الوثنية. وقد سمح الله لبعض رجال الله أن يقيموا مذبح لله وتقديم ذبائح لمقاصد إلهية إستثنائية كما فعل يشوع على جبل عيبال (يش 8: 20)، وجدعون الذي هدم هيكل البعل وساريته وقام ببناء مذبح الرب بأمر إلهي (قض 6: 25-27)، وصموئيل النبي حين قدم ذبيحة في المصفاة (1 صم 7: 5-11)، وداود النبي في بيدر أرونة اليبوسي (2 صم 24: 18-25)، وإيليا النبي حين قاوم كهنة البعل (1 مل 18: 19-40). هذه الحالات وأمثالها لم تكن ممارسات يومية عادية وإنما تحت ظروف معينة طلب الله من رجاله أن يقيموا له مذبحًا لتمجيدة أو مقاومة العبادة الوثنية أو لرفع غضبه عن شعبه في ظرف طارئ!
في العهد الجديد نتمتع بمذبح إلهي لا تقدم عليه ذبائح حيوانية ولا يرش عليه دم تيوس وعجول، إنما نراه مذبحًا سماويًا يقدم لنا الله الآب بروحه القدوس جسد الرب ودمه المبذولين لتقديسنا. يقول القديس القديس أغسطينوس: [يوجد مذبح غير منظور في الأعالي لا يقترب إليه الشرير.. خلال مقدس الله وخيمته وكنيسته إذهب إلي مذبح الله الذي هو في الأعالي[229]].
يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم على مهابة مذبح كنيسة العهد الجديد، قائلاً: [مهوبة حقًا هي أسرار الكنيسة! مهوبة حقًا هو المذبح! لقد خرج من الفردوس ينبوع يبعث أنهارًا مادية، أما هذه المائدة فأخرجت ينبوعًا يبعث أنهارًا روحية، لا يُزرع على جوانبها شجر الصفصاف غير المثمر بل تزرع أشجارًا تصل إلى السماء وتحمل ثمرًا دائمًا لا يفسد. إن كان أحد لفحة الحر فليقترب من الينبوع فتبرد حروقه وينطفئ ظمأه ويحمل راحة عوض الحروق التي سببتها السهام النارية لا الشمس. فإن بدايته في الأعالي ومصدره هناك، ومن السماء تفيض مياهه. كثيرة هي مجاري هذا الينبوع الذي يرسله المعزي. الإبن هو الشفيع، لا يمسك فأسًا ليمهد لنا الطريق، إنما يفتح أذهاننا. هذا الينبوع هو نور يبعث أشعة الحق، تقف بجواره القوات السمائية في الأعالي تتطلع إلى جمال مجاريه، إذ هم قادرون بالأكثر على إدراك قوة الأمور الموضوعة عليه والبهاء الذي لا يُقترب منه. من يشترك في هذا الدم يقف مع الملائكة ورؤساء الملائكة والقوات العلوية، ملتحفًا بثوب المسيح الملوكي، له أسلحة الروح، لا بل يلتحف بالملك نفسه[230]].
مرة أخرى يقول: [أتوسل إليكم، أنظروا، إنها مائدة ملوكية قد أعدت لنا! الملائكة تخدمها، والملك جالس بنفسه، فهل تقفوا متثائبين؟![231]].
2. منع أكل الدم:
إذ منع تقديم أي ذبيحة للعبادة خارج دائرة الطقس الإلهي حتى لا ينحرف اليهود إلى العبادات الوثنية، رابطًا شعبه كله - كهنة وشعبًا - بالمذبح، ليجتمع الكل معًا في الرب خلال الذبيحة، عاد ليؤكد منعه أكل الدم لا بالنسبة للأسرائيلين فحسب وإنما حتى للغرباء الذين ينزلون في وسطهم، وقد سبق لنا الحديث عن الحكمة من منع أكل الدم في دراستنا للأصحاح الثالث.
3. دم الصيد:
سمح للإسرائيلين وللنازلين في وسطهم إن اصطادوا صيدًا، سواء كان حيوانًا أو طائرًا - أن يأكلوا منه إن كان من الأطعمة المحللة، أما بالنسبة لدمها المسفوك فيقول "يغطيه بالتراب" [13]. ولعل الحكمة من تغطية الدم هنا بالتراب أن يذكر الإنسان أن هذه الحيوانات التي خرجت من الأرض (تك 1: 24)، تعود إليها.. أما الإنسان وقد حمل نسمة حياة خلال النفخة الإلهية فيليق به ألا يلتصق بعد بالتراب حتى لا يعود إلى التراب، إنما يلتصق بالله السماوي لينطلق إلى السماء أبديًا.
ولعل تغطية دم الصيد بالتراب فيه توقير الإنسان لكل كائن، حتى وإن كان حيوانًا أو طيرًا يأكل لحمه، فلا يليق به أن يطأ دمه بقدميه، إنما يغطي الدم بالتراب كمن يدفنه. هذا الفكر يهب للإنسان إتجاه لطف وترفق حتى بدم الصيد، فلا يعيش الإنسان متعجرفًا وعنيفًا.
وربما أيضًا أراد الله أن يقدم شريعة حتى عن تغطية دم الصيد حتى لا يستخدم هذا الدم في أغراض وثنية نجسة كسكبه للأصنام.
4. عدم أكل الميت أو الفريسة:
"وكل إنسان يأكل ميتة أو فريسة وطنيًا كان أو غريبًا يغسل ثيابه ويستحم بماء ويبقى نجسًا إلى المساء ثم يكون طاهرًا. وإن لم يغسل ولم يرحض جسده يحمل ذنبه" [15-16].
حرمت الشريعة أكل الحيوانات الميتة طبيعيًا أو خلال الأختناق، أي ما لم يكن مذبوحًا، كما حرمت أكل الحيوانات أو الطيور التي افترسها وحش.. من يفعل ذلك عمدًا كان يتعرض للجلد وأحيانًا للقطع من شعب الله. إنما هنا الشريعة لمن أكل سهوًا أي بدون معرفة، فإن عرف يلتزم أن يغسل ثيابه ويستحم ويبقى نجسًا لا يدخل المقدسات ولا يلمسها حتى المساء.
أما علة منع أكل الميت والفريسة، فهي أولاً لأسباب صحية، حتى لا يكون قد مات بمرض تنتقل عدواه إلى الإنسان، أو افترسه وحش بث فيه سم كالحيات أو حملت أسنانه ميكروبًا. والسبب الثاني إن أكل ما هو ليس مذبوحًا يحمل نوعًا من الشراهة والنهم خاصة وأنه يدرك أن اللحم خاص بميت أو هو فضلة من فضلات الوحوش. وربما كان المنع لأن الدم في الحالتين يحتمل أن يكون قد حبس في اللحم. وأخيرًا فإن الفريسة قد لمسها وحش دنس فتدنست لذلك لا يأكلها الإنسان حتى لا يتدنس.
في عصر الرسل قررت الكنيسة إمتناع الأمم عن أكل الدم والمخنوق وما ذبح للأوثان (أع 15).
المراجع:
[229] On Ps. 43.
[230] In Ioan. hom 64:4.
[231] القديس يوحنا الذهبي الفم، 1980، ص244.