تفسير الاصحاح الخامس عشر من سفر اللاويين للقمص تادري يعقوب ملطى
شريعة ذي السيل
تُعالج هذه الشريعة الإنسان الذي يكون له سيل، ذكرًا كان أم أنثى. وقد جاءت الكلمة العبرية "زَغب" تعني "فيض"، فإن ذا السيل هو الرجل الذي يقذف الحيوان المنوي سواء خلال الطبيعة أو لإصابته بمرض تناسلي، وأيضًا المرأة التي تنزف دمًا سواء خلال الدورة الشهرية (الطمث) أو بسبب مرض، وقد ميزت الشريعة بين الحالات الطبيعية والحالات المرضية.1. مقدمة في ذي السيل
2. الحالات المرضية عند الرجل [1-15].
3. الحالة الطبيعية للرجل [16-18].
4. الحالة الطبيعية للمرأة [19-24].
5. الحالة المرضية للمرأة [25-33].
1. مقدمة في ذي السيل:
إن كانت الشريعة قد إهتمت بتقديم تطهير جسدي يخص السيل الذي يفيض من الرجل أو نزف الدم الذي للمرأة في مرضها الشهري أو كحالة مرضية، فإنه يليق بنا توضيح النقاط التالية:
أولاً: إن كانت الشريعة قد دعت السيل (الحيوانات المنوية) نجاسة [1]، وأيضًا دم المرأة في أيام طمثها أو عند نزفها.. فما عنته الشريعة هو إهتمام الإنسان بنظافة جسده لأجل سلامة صحته وصحة من هم حوله، فكما رأينا في الله أنه اهتم بكل ما يمس أولاده في العهد القديم حتى من جهة أنواع الأطعمة وسلامة الثياب والمسكن، فبالأكثر صحة جسده.
ثانيًا: ميزت الشريعة بطريقة واضحة وقاطعة بين ما يحدث للرجل والمرأة خلال الطبيعة وبين ما يتم كحالة مرضية، فالحلة الأولى لا تتطلب تقديم ذبائح ولا تكفير عن خطية وإنما يكتفي بغسل جسده وثيابه أو أي متاع اضطجع عليه الإنسان، أما الحالة الثانية فهي حالة مرضية تحتاج إلى تدقيق صحي لذا تطلبت الشريعة تقديم ذبائح للتكـفير عن الإنسان.
ثالثًا: السيل الذي يُصيب الرجل أو المرأة يحمل رمزًا للنفس التي بلا ضابط، الساقطة تحت الشهوات الدنسة.. لذا يحتاج الأمر إلى تلاق مع القدوس الذي لمسته المرأة نازفة الدم، هذا الذي لم يستنكف منها إذ لا يقدر الدنس أو النجاسة أن يلحق به إنما توقف الدم وبرئت المرأة خلال الإيمان به.
2. الحالة المرضية عند الرجل:
أ. تبدأ هذه الشريعة بالرجل المصاب بمرض تناسلي، فيحدث قذف مستمر للحيوانات المنوية أو احتقان.. فقد حذرت الشريعة حتى لا يمس أحد فراشه، ولا يجلس أحد على متاعة الذي يجلس عليه، ولا يمس الشخص نفسه أثناء مرضه، ولا حتى بصاقه، ولا يركب موضعه على دابة.. وإلاَّ حُسب الإنسان نجسًا حتى المساء ويلزمه أن يغسل ثيابه ويغتسل.
هذا الإجراء وقائي ضد العدوى من الأمراض التناسلية، إذ كما نعلم أن بعض هذه الأمراض شديدة العدوى، يمكن أن تنتقل خلال لمس المريض أو ثيابه أو الأدوات التي يستخدمها. أما بقاء الشخص نجسًا طوال اليوم حتى المساء، أي حتى يبدأ يومًا جديدًا، إنما يعني أن من يتلامس مع الخطية ويتدنس بالشر لن يتقدس طوال حياته مادام مرتبطًا بالدنس حتى يبدأ مع الرب يومًا جديدًا فيه يترك الماضي وينطلق نحو حياة أفضل. أما غسل ثيابه واغتسال جسده، فيعني حاجته إلى الطهارة الخارجية (الثياب) والطهارة الداخلية (الجسد المختفي في الثوب).
مادمنا في العالم، إذ نحيا في الجسد، نتعرض للتلامس مع الخيطة، لذا يليق بنا أن نتمتع بغسل ثيابنا وأجسادنا بدموع التوبة فنحيا في نقاوة الخارج مع الأعماق الداخلية.
ب. هذا بالنسبة لمن يلمس المريض أما بالنسبة لما يستخدمه المريض، فسريره يُحسب نجسًا لا يجوز أحد أن ينام عليه، ومتاعه الذي يجلس عليه دنسًا لا يجوز أن يجلس عليه إنسان طاهر، وبصاقه دنسًا، وما يوضع على حيواناته التي يمتطيها تحسب دنسه، والإناء الخزفي الذي يستخدمه يستحق الكسر، أما الخشبي فيُغسل بماء! هكذا تفعل بنا الخطية إذ تدنس حياتنا الداخلية وتصرفاتنا فيصير نومنا وجلوسنا وسيرنا وأدوات طعامنا دنسة!
الإنسان الطاهر حتى في نومه يقول: "أنا نائمة وقلبي مستيقظ" (نش 5: 2)، فإن
نام بجسده لكنه متيقظًا بقلبه وفكره، لا يستطيع الشرير أن يمسه بالدنس، أما الخاطئ فإنه وإن تيقظ جسديًا لكنه يكون دنسًا بفراشه الداخلي خلال اتحاده مع الشر وإرتباطه بالدنس.
ما نقوله عن سرير الشرير أو نومه، نقوله عن متاعه أو جلوسه وكل ممتلكاته وتصرفاته. فإن كان السرير يُشير إلى خمول الشرير روحيًا وإتحاده الخفي مع الشرير كما يتحد الرجل بإمرأته خلال سرير الزوجية، فإن المتاع الذي يجلس عليه يُشير إلى حب السلطة والتمتع بالكراسي الأولى، فإن نال الشرير مركزًا حتى ولو كان دينيًا فالمركز لا يشفع فيه بل يدينه. جلوسه على كراسي المسئولية والتعليم يعرضه لدينونة أعظم. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لا أستطيع أن أحمل الكهنوت مسئولية شرور الكهنة، وإلاَّ كان هذا جنونًا منيّ، فالعاقلون لا يلومون السيف الذي في يدّ المجرم ولا الخمر بالنسبة للسكير ولا القوة بالنسبة للمغتصب ولا الشجاعة بالنسبة للمتهور، بل يلقون باللوم على إساءة إستخدام العطايا الممنوحة لهم من قبل الله[206]].
أما عن بصاقه الذي يُحسب دنسًا فيُشير إلى تعليم الهراطقة الدنس، إذ ينبغي علينا أن نهرب منه كما من بصاق دنس، ونغتسل من أفكارهم المحطمة للإيمان. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يجب أن نحرم العاقد الهرطوقية التي نجدها عندهم، أما الأشخاص فيجب أن نرحمهم تمامًا ونصلي من أجل خلاصهم[207]].
أما ما يوضع على حيواناته التي يمتطيها مثل السرج والحداجة فتُشير إلى ما يتعلق بجسده من طاقات وأحاسيس، إذ تُحسب دنسة بسبب شره الداخلي.
الإناء الخزفي أو الخشبي الذي يأكل فيه يحسب نجسًا، فإن كان خزفيًا يكسر وإن كان خشبيًا يُغسل بماء فيطهر. كسر الإناء الخزفي يُشير إلى ضرورة إماتة الشهوات الجسدية، أما غسل الخشبي فيُشير إلى تقديس الجسد بطاقاته وعوطفه وأحاسيسه. فإن كان يجب أن نموت عن خزفنا أي فكرنا الترابي إنما لا ليهلك الجسد وإنما لكي يتقدس لحساب مملكة الرب، وكما يقول الرسول بولس: "لا تملكن الخطية في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواته، ولا تقدموا أعضاءكم آلات إثم للخطية" (رو 6: 12-13). إذن ليُكسر ما هو خزفي (ترابي) فينا، وليُغسل ما هو خشبي ليصير معينًا للنفس في جهادها الروحي.
في اختصار يمكننا أن نقول أن الرجل المصاب بهذا المرض يُشير إلى الخاطئ
الذي يفقد حياته ويدنس جسده بكل أحاسيسه وعواطفه وطاقاته ويكون سبب تعب لمن هم حوله، يرون في مرقده وفي مجلسه كما في أكله وشربه دنسًا فيهربون منه. إنه مع الفارق كيونان وهو هارب من الخدمة من وجه الرب، أساء إلى كل من حوله، بسببه اضطرب البحر وهاجت الأمواج وثارت الرياح وفقد النوتية مئونتهم وسلامهم.. وصار كل ما حوله في فقدان بسبب تحوله عن وجه الرب! وعلى العكس إذ كان يوسف مع الله كان بركة حتى لبيت سيده وفي وسط السجن وفي بيت فرعون وأنقذ والدهم وإخوته وتمجد في هذا العالم كما يتمجد في الحياة الأبدية.
ج. إن شفى الإنسان من هذا المرض يبقى تحت الفحص سبعة أيام حتى يتأكد الكاهن من شفائه، ثم "يغسل ثيابه ويرحض جسده بماء حيّ فيطهر، وفي اليوم الثامن يأخذ لنفسه يمامتين أو فرخي حمام ويأتي إلى الرب إلى باب خيمة الإجتماع ويعطيهما للكاهن فيعملهما الكاهن الواحد ذبيحة خطية والآخر محرقة ويكفر عنه الكاهن أمام الرب من سيله" [14]. هذا الطقس التطهيري كثيرًا ما تحدثنا عنه في الأصحاحات السابقة، لهذا أكتفى هنا بإبراز الخطوط الرئيسية لهذا الطقس، وهي:
أولاً: الحاجة إلى إغتسال الثياب كما الجسد بالماء الحيّ أي ماء جارٍ من نهر أو من ينبوع أو بئر مستخدمة غير راكدة.. إشارة إلى حاجتنا للتقديس الداخلي (الجسد) والخارجي، وغسلنا في مياه المعمودية لنوال تجديد طبيعتنا بالروح القدس.
ثانيًا: مادمنا في الأيام السبعة الأولى لا نقدر أن نقدم الذبيحة، إنما ننتظر اليوم الثامن، بمعنى أننا مادمنا نعيش خاضعين للزمن (سبعة أيام) لا نقدر أن ننعم بذبيحة ربنا يسوع، لكي إذ يرفعنا الروح القدس إلى اليوم الثامن أي إلى الحياة المقامة في الرب ننعم بالذبيحة السماوية ونتمتع بالدخول إلى حضرة الرب وسكني بيته السماوي.
ثالثًا: إن كان الإنسان يتمتع بالتطهير كعطية شخصية توهب له من قبل ربنا، لكنه ينالها خلال عضويته الكنسية، إذ قيل "يأتي إلى الرب إلى باب خيمة الإجتماع"، فما يناله من تطهير أو تقديس إنما يفرح الجماعة كلها بكونه عضوًا فيها، آلامه آلامها وأفراحه أفراحها!
رابعًا: يقدم الكاهن عنه ذبيحة خطية وذبيحة محرقة معًا.. فلا يكفي لطهارته من دنس السيل أن يتمتع بذبيحة الخطية حيث ينال الغفران عن خطاياه إنما يجب أيضًا أن ينعم بذبيحة المحرقة حيث يقدم حياته ذبيحة طاعة ومحرقة حب للآب في المسيح يسوع. بمعنى آخر إن كانت ذبيحة الخطية تعني الجانب السلبي وهو انتزاع الشر، فذبيحة المحرقة تمثل الجانب الإيجابي وهو ممارسة البر. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [تنقسم الفضيلة إلى أمرين: ترك الشر وعمل الخير. الإنسحاب من الشر ليس كافيًا لبلوغ الفضيلة، وإنما هو بداية الطريق الذي يقود إليها. لا تزال تبقى هناك حاجة لنشاط عظيم[208]].
3. الحالة الطبيعية للرجل:
بعد أن عالج تطهير الحالة المرضية عند الرجل تحدث عن حالتين طبيعيتين عند الرجل أيضًا:أولاً: الإحتلام أو "عارض الليل" (تث 33: 10)، والأمر لا يحتاج إلى تقديم ذبائح تكفير إنما فقط إغتساله وغسل ثيابه والمتاع الذي كان مضطجعًا عليه [16-17]. والكنيسة تعتبر الإحتلام فطرًا فلا يجوز للشخص المحتلم التمتع بسرّ التناول في ذلك اليوم.
ثانيًا: المعاشرة الزوجية، والأمر لا يحتاج إلى استحمامهما، ويحسبان نجسان طوال النهار كالمحتلم فلا يدخلان بيت الرب ولا يمسان المقدسات.
4. الحالة الطبيعية للمرأة:
يقصد بالسيل هنا المرض الشهري "فترة الطمث".. وقد حسبها نجسة لمدة سبعة أيام لكي تتمتع بفترة راحة جسدية، وقد منع العلاقات الزوجية في تلك الفترة، ربما لسببين: أولاً لأجل راحة الزوجة في فترة تعبها، وثانيًا لكي يقدس العلاقات الزوجية فلا تكون عن شهوة غير مضبوطة خاصة وأن المرأة لا تحمل في هذه الفترة، فتكون العلاقة خارج هدف الإنجاب.5. الحالة المرضية للمرأة:
يقصد بها النزف المستمر.. وقد حسبها نجسة مادامت تنزف، حتى تدرك خطورة الموقف وتهتم بالعلاج.إذا شفيت تبقى تحت الفحص سبعة أيام وتقدم ما يقدمه الرجل عند التطهير من سيله، وفي اليوم الثامن (راجع الحالة الأولى).
المراجع:
[206] الحب الرعوي، ص193.
[207] Anatole Moulard: Sainte Jean chrysostome, so vio, son oeurre, 1949, p. 138.
[208] In Thess, hom. 5.