تفسير الاصحاح السابع من سفر القضاة للقمص تادري يعقوب ملطى
جدعون والمديانيون
اطمأن جدعون لمعية الله له، فبكر في محاربة المديانيين: ١. الله يخلص بالقليل [١-٨].٢. جدعون كرغيف شعير [٩-١٨].
٣. هزيمة المديانيين [١٩-٢٣].
٤. القبض على غراب وذئب [٢٤-٢٥].
١. الله يخلص بالقليل:
بكر جدعون ومعه الشعب إلى عين حرود بينما كان جيش المديانيين الذي قُدّرَ ﺒ ١٣٥ ألفًا من رجال الحرب عند تل مورة في الوادي.
"حرود" كلمة عبرية تعني (ارتعاد)، يبدو أنه دُعي هكذا بسبب ما حلّ بجيش المديانيين من رعدة واضطراب في هذه المعركة [١٩– ٢٢]. يُقال أنها "عين جلود" أو "عين جالوت" حُرفت من "حرود" خلال خطأ في السمع والنطق؛ تقع شمالي غرب جبل جلبوع أو جبل جلعاد، نحو ميل شرق جنوبي يزرعيل وبالقرب من بيسان. أما تل مورة فيبعد حوالي أربعة أميال من العين، ويسمى جبل الدوحى ارتفاعه ١٨١٥ قدمًا عن سطح البحر، وهو بين جبل تابور (الطور) شمالاً وجلبوع (جبل فرقوع أو فقوعة) جنوبًا. أما كلمة "مورة" فكنعانية تعني (معلم).
كانت المعركة في الوادي حيث جاء جدعون من عين حرود والكنعانيون من تل مورة، ولعل مجئ جدعون إلى هذه العين لم يكن بلا معنى، فسرّ النصرة هي الإمكانيات الإلهية التي يتمتع بها المؤمن خلال ينبوع المعمودية التي دعيت بحرود (إرتعاد) لأنها تمثل رعبًا لإبليس. وقد جاءت جميع ليتورچيات الكنيسة الأولى تحمل خطين إساسيين هما جحد الشيطان بكل طاقاته والتمتع بإمكانيات الثالوث القدوس.
يقول العلامة ترتليان: [في الكنيسة تحت يد الأسقف نشهد أننا نجحد الشيطان وكل موكبه وملائكته[85]]. ويقول القديس كيرلس الأورشليمي: [بعد ذلك تُمسحون على صدوركم لكي تلبسوا درع العدل وتثبتو ضد حيل الشيطان. وكما أن المسيح بعد المعمودية وحلول الروح القدس خرج وحارب المعاند، هكذا أنتم أيضًا بعد المعمودية المقدسة والمسحة السرية تثبتون ضد القوة المضادة، لابسين سلاح الروح القدس الكامل، وتحاربون قائلين مع الرسول: "إني أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (في ٤: ١٣)[86]].
كان عدد الشعب الذي خرج مع جدعون حوالي ٣٢ ألفًا، وقد اسكتثره الرب جدًا، قائلاً: "لئلا يفتخر عليّ إسرائيل قائلاً يدي خلصتني" [٢]. مع أنه عدد قليل جدًا بالنسبة لجيش المديانيين، لكن الله أراد تأكيد النصرة لا بكثرة العدد وإنما بعمله الإلهي في القلوب النقية. وكما يقول القديس غريغوريوس النيسي: [الله لا يُسر بالعدد[87]].
أول عمل قام به هو المناداة في آذان الشعب: "من كان خائفًا ومرتعدًا فليرجع وينصرف من جبل جلعاد" [٣]، وبالفعل رجع إثنان وعشرون ألفًا وبقى عشرة آلاف. للأسف كان الخائفون أكثر من ثلثي الجيش، هؤلاء يمثلون عددًا ليس بلا نفع فحسب وإنما بخوفهم ورعدتهم يفسدون القلة الشجاعة. وكما جاء في سفر التثنية: "من هو الرجل الخائف والضعيف القلب ليذهب ويرجع إلى بيته لئلا تذوب قلوب إخوته مثل قلبه" (تث ٢٠: ٨).
لم يكتفِ الرب بهذه التصفية، إذ يقول: "لم يزل الشعب كثيرًا" [٤]، طالبًا منه أن ينزل بهم إلى الماء، ليفرز من يلغ بلسانه من الماء كما يلغ الكلب عن الذين يجثون على ركبهم للشرب، فكان عدد الذين ولغوا بيدهم إلى فمهم فهم ثلاثمائة رجل، هؤلاء هم الذين استخدمهم في الحرب، أما بقية الشعب فرجع كل واحد إلى مكانه.
يرى البعض في الذين أخذوا الماء في أيديهم ولغوا بفمهم أكثر ضبطًا لأنفسهم من الذين شربوا من العين مباشرة وكأن الله انتقى ضابطي أنفسهم للعمل بهم. وكأن الله يعمل بالقلة القليلة جدًا ليحارب بهم من كانوا كالجراد في الكثرة وجمالهم لا عدد لها كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة [١٢].
ويرى القديس أغسطينوس[88] أن رقم ٣٠٠ يشير إلى الصليب، لأن حرف "T" الذي يحمل شكل الصليب يشير إلى رقم ٣٠٠ في اليونانية. ويقدم لنا القديس أمبروسيوس ذات التفسير إذ يقول: [اختار جدعون ٣٠٠ رجلاً للمعركة لكي يظهر أن العالم كان يجب أن يتحرر من هجمات العدو الخطيرة بسر الصليب، لا خلال الجماهير الغفيرة، فإن حرف "T" في اليونانية يستخدم لرقم ٣٠٠ ويحمل شكل الصليب[89]].
ينطلق حاملوا الصليب (الثلاثمائة) للجهاد الروحي تحت قيادة جدعون الحقيقي، أما الجمهور الغفير فيرجع كل واحد إلى مكانه أو إلى "الأنا"، إذ لا يصلح للعمل الروحي. بمعنى آخر من لا يحمل سرّ الصليب في حياته إنما يتقوقع حول الذات، ليعمل لا لحساب الله بل لحساب ذاته.
حمل هؤلاء الرجال في أيديهم زادًا مع أبواقهم، وجاء في الترجمة السبعينية أنهم أخذوا الزاد والأبواق من الشعب، أي من الباقين الراجعين إلى خيامهم.. ولعل هذا الزاد يُشير إلى الإيمان، والأبواق تُشير إلى كلمة الله، فإننا لا نستطيع أن ننزل إلى المعركة الروحية ضد إبليس وكل أعماله إلاّ بالإيمان والتمسك بكلمة الله، وكما يقول المرتل: "أتكلم بشهادتك قدام ملوك ولا أخزى.. لك أنا فخلصني لأني طلبت وصاياك" (مز ١١٩: ٤٦، ٩٤).
٢. جدعون كرغيف شعير:
لم يكن هينًا أن يرى جدعون الله يفرز له ٣٠٠ شخصًا فقط للعمل معه من حوالي ٣٢ ألف، ليحارب ١٣٥ ألفًا من رجال الحرب، خاصة وأن الحرب ستكون في السهل حيث لا توجد حصون طبيعية أو مغاير تمنع سهام العدو، هذا مع قلة الإمكانيات أو العدة الحربية بسبب سلب المديانيين ونهب كل ما كان لديهم خلال سبع سنوات الاستعباد. بالإضافه إلى هذا لم يتدرب رجاله على الحرب سنوات طويلة، فلا يحملون خبرة. بمعنى آخر كان جدعون يقود رجالاً قليلي العدد، ومسلوبي العدة، وبلا خبرة ولا حصون؛ لكن كان معه الرب يهبه وعدًا بالنصرة.
ولكي يثبت إيمانه سأله أن ينزل مع "فوره" غلامه أو خادمه، وربما كان حامل سلاحه، متنكرين وسط محلة المديانيين، إلى آخر المتجهزين [١١] أي إلى آخر صفوف جيشهم المتهيئ للحرب، ليسمع بنفسه ويلمس الرعب الحالّ وسطهم من جهته.
هناك سمع وسط الأعداء رجلاً يخبر صاحبه أنه رأى في حلم "رغيف خبز شعير" يتدحرج في محلة المديانيين ويجئ إلى الخيمة ليضربها فتسقط، ويقلبها إلى فوق، كما سمع جدعون تفسير الحلم من مدياني آخر إذ يقول لمن هذا الحلم: "ليس ذلك إلاّ سيف جدعون بن يوآش رجل إسرائيل، قد دفع الله إلى يده المديانيين وكل الجيش" [١٤].
الشعير هو أرخص أنواع الخبز في فلسطين، يأكله الفقراء ويُقدم للحيوانات، وكأن الله يعلن حتى للعدو، أنه يحطم المديانيين بجدعون الذي يبدو في الضعف والفقر كرغيف من الشعير بلا ثمن! كنا نتوقع أن يرى العدو صخرًا يتدحرج إلى الوادي فيحطم من ينزل إليه، أما رغيف خبز الشعير يتدحرج فيحطم الخيمة الملوكية ويقلبها رأسًا على عقب فهذا كما فسر المدياني نفسه أنه عمل إلهي.
في وقد الضيق، لا يختبر المؤمنون وحدهم عمل الله معهم خلال تعزياته السماوية الفائقة، إنما يقف حتى المقاومين مندهشين أمام عمل الله بأولاده الذين يظهرون كرغيف خبز من الشعير!
٣. هزيمة المديانيين:
إن كان الله يستخدم أقل القليل ليعلن فضل القوة لله لا منا لكنه يقدس العمل الإنساني، ولا يحَّقر من الحكمة البشرية، ولا يتجاهل الطاقات والمواهب. ففي حرب جدعون ضد المديانيين إن كان قد أفرز ٣٠٠ رجلاً فقط للعمل لكنه وهب جدعون حكمة للعمل وتدبيرًا حسنًا، إذ قسّم الثلاثمائة إلى ثلاثة أقسام، كل قسم يحتل موقعًا في جانب من جوانب المحلة حول المديانيين، وجاء الكل ليلاً في الهزيع الثاني حيث كان الليل عند اليهود ينقسم إلى ثلاثة أقسام كل قسم ٤ ساعات يبدأ القسم الأول بالساعة السادسة مساءً.
وقد حمل كل رجل بوقًا ومعه جرة ومصباح. وفي الليل إذ كان الجيش المدياني في أغلبيته نائمًا عدا بعض الحراس، فوجئوا بأصوات أبواق من كل جانب دفعة واحدة، كما كسرّ الرجال الجرار ربما كل إنسان كسر جرته في جرة أخيه فأحدثت أصواتًا كأن العدد الحربية قد تشابكت معًا، هذا مع وجود المصابيح أو المشاعل من بُعد.. هذا كله جعل جنود المديانيين يقومون فجأة ويظن كل واحد أن المعركة قد دارت وتشابك الجيشان معًا، فصاروا يضربون بعضهم بعضًا بالسيوف إذ حسب كل منهم في الظلمة أن زميله من الجيش المضاد.
ووقف رجال جدعون كل واحد في مكانه بينما دارت المعركة بين المديانيين وهم لا يدرون أنهم يقاتلون أنفسهم بأنفسهم.
تطلع المديانيون إلى بعيد فرأوا رجال جدعون بمصابيحهم من كل جانب عن بُعد فحسبوا إمدادات جديدة غير التي بينهم تقاتلهم، فاضطروا وسط الظلام أن يتركوا المحلة ويهربوا إلى بيت شطة [٢٢] أو "بيت هشطة" التي تعني (بيت السنطة) حيث وجدت أشجار السنط، وهو موقع بين وادي يزرعيل وزراح في وادي الأردن.
ومن بيت شطة هربوا إلى صردة في سهل أفرايم في غور الأردن، اسمها يعني (مبرد) أو (بَرْد)، حاليًا ربما مدينة "صرتان" في وادي الأردن.
ومن هناك هربوا إلى حافة آبل محولة أي حدودها، إسمها يعني (حقل الرقص)، وتعرف حاليًا بتل المقلب بوادي الأردن، وإن كان البعض يرى أنها كانت غربي الأردن على بُعد ١٢ ميلاً جنوبي بيت شعان.
ومن حافة آبل محولة ذهبوا إلى طباه، وهي رأس أبو طابات. وكأن العدو كان هاربًا بلا مطاردة، لأن الرب نفسه كان يرعبهم، أو بمعنى آخر سلمهم لأعمالهم الشريرة التي تفقدهم سلامهم واستقرارهم ليعيشوا هاربين بلا توقف.
وكما يقول الحكيم: "الشرير يُطرد بشره" (أم ١٤: ٣٢)، "الشرير يهرب ولا طارد" (أم ٢٨: ١). هكذا يهرب الشرير تارة إلى بيت هشطة أي بيت السنط لعله يقدر أن يستظل تحت الإشجار كأبويه آدم وحواء الهاربين من وجه الله، وأخرى ينطلق إلى صردة أي البرد الذي يحطم فيه كل حرارة روح، ومرة ثالثة ينطلق إلى حافة آبل حودة أي إلى حافة بيت الرقص لعل خلاعة هذا العالم وملذاته تقدر أن تهبه فرحًا وسلامًا.. ولكنه في هذا كله يكون كطريد بلا راحة، إذ هو بعيد عن الله نفسه واهب السلام ومصدر الراحة الحقيقية.
والعجيب أنه وسط هذا الرعب الذي حل بالمديانيين وهروبهم بلا وعي من موقع إلى آخر طلب جدعون من ساكني جبل أفرايم أن ينطلقوا ليستولوا على كل مخاوض المياه من منطقة المديانيين حتى يبلغوا إلى بيت بارة إلى الأردن. و"بيت بارة" تعني (بيت بور) أو بيت الأراضي غير الصالحة للزراعة، تبعد حوالي ٣٠ ميلاً شمال شرقي أورشليم، غالبًا هي بيت عبرة (بيت العبور أو الخوض) أو جنوبها قليلاً. وكان القصد من الإستيلاء على المياه تحطيم المديانيين تمامًا ومنعهم من الهروب.
ماذا يعني حرمان المديانيين من المياه؟ ربما تشير المياه إلى عطايا الله ونعمه، فإن كان إبليس قد استخدم حتى عطايا الله لنا ومواهبنا وطاقاتنا التي خلقها الله فينا لحساب شره (أي شر إبليس)، فإننا إذ نرجع إلى الرب ننسحب من العدو بكل طاقاتنا ومواهبنا، فلا يكون له فينا موضع، ولا يعود يجد في طاقاتنا آلات تعمل لحسابه بفكره الشرير. وهكذا يهلك العدو تمامًا بالنسبة لنا، ولا تكون له رجعة إلينا ولا مطمع فينا.
٤. القبض على غراب وذئب:
"وأمسكوا أميري المديانيين غرابًا وذئبًا، وقتلوا غرابًا على صخرة غراب، وذئبًا في معصرة ذئب، وتبعوا المديانيين، وأتوا برأسي غراب وذئب إلى جدعون من عبر الأردن" [٢٥].
لم يقف الأمر عند حرمان المديانيين من المياه وإنما قتلوا إميريهم غرابًا وذئبًا، وأتوا برأسيهما إلى جدعون بعد أن تبعوا المديانيين في هروبهم، وقد دُعيت الصخرة التي قُتل عليها غراب بصخرة غراب، والمعصرة التي قُتل فيها ذئب بمعصرة ذئب.
إن كانت الحمامة تُشير إلى الروح القدس كما إلى الكنيسة المنقادة بالروح القدس، فالغراب يُشير إلى الروح الشرير كما إلى مملكة إبليس. ففي قصة نوح إنطلق الغراب من الفلك ليعيش على الجثث الميتة، بلا عودة إلى نوح، وكأنه بالروح الشرير الذي إنحدر من مركزه السماوي ونزل ليعيش على الفساد، ينتقل من جثة إلى جثة، متهللاً بموت الآخرين وفسادهم. وما يفعله الروح الشرير إنما يسكبه في حياة الأشرار الحاملين سماته والسالكين بفكره الدنس.
وكما يشير الحمل إلى السيد المسيح وإلى كل مؤمن اتحد به، هكذا يشير الذئب إلى عدو الخير إبليس الذي في طبعه الشراسة والافتراس، ساكبًا من هذا الروح على تابعيه، يفترسون الحملان الوديعة بلا ذنب.
بمعنى آخر فإن غرابًا وذئبًا أميري المديانيين يشيران إلى عدو الخير إبليس من جهة حبه للفساد (الغراب) والإفتراس (الذئب)، لكننا إذ نرتبط بجدعون الحقيقي ربنا يسوع المسيح، نقتل في داخلنا كل شوق للدنس وكل ميل للعنف والافتراس، وكأننا نقتل فينا غرابًا وذئبًا.
والعجيب أن غرابًا وذئبًا قد قُتلا على صخرة وفي معصرة على التوالي، فإن كانت الصخرة تُشير إلى السيد المسيح كقول الرسول (١ كو ١٠: ٤) والمعصرة تُشير إلى الكنيسة فإن عدو الخير إبليس بكل فساده وعنفه يفقد حياته وكيانه خلال إتحادنا بالسيد المسيح صخرتنا، وعضويتنا الروحية في الكنيسة.
في ختام هذه المعركة التي فيها غلب جدعون ورجاله غرابًا وذئبًا ورجالهما نستطيع أن نقول بين سرّ القوة يكمن في الطريق الروحي الذي إنتهجه جدعون من جوانب عديدة:
أولاً: كان رجاله ثلاثمائة نسمة، وكما قلنا أعلنوا بهذا أنهم حاملوا الصليب.
ثانيًا: انقسموا إلى ثلاث فرق تعمل في وقت واحد وبروح واحدة تحت قيادة جدعون، وكأنهم بالكنيسة الحاملة سمة القيامة، لأن رقم ٣ يشير إلى القيامة بعد الدفن في القبر مع السيد المسيح[90].
ثالثًا: حمل كل رجل بوقًا وهو كلمة الله المنذرة للنفس، وجرارًا تنكسر هي الأجساد المتنسكة خلال إماتتها عن شهواتها لتتقدس في الرب، ومصباحًا هو عمل نعمة الله التي تهب النفس إستنارة.
رابعًا: قتلهم لغراب وذئب أي رفضهم لروح الفساد والشراسة.
هذا هو طريق الغلبة الروحية تحت قيادة السيد المسيح – جدعون الحقيقي – واهب النصرة.
المراجع:
[85] Chaplet 3.
[86] Myst. Hom. 3:4.
[87] The Last Farewell 7.
[88] On Ps. 68
[89] Caesarius Ser. 117:3.
[90] راجع تفسير يشوع ٣: ٢.