تفسير الاصحاح الثامن عشر من سفر القضاة للقمص تادري يعقوب ملطى
اغتصاب التمثالين والكاهن
إن كانت قصة ميخا واستئجاره الغلام اللاوي كاهنًا تكشف عما أصاب إسرائيل من عمى روحي على مستوى الأفراد والعائلات، فإن اغتصاب سبط دان لتمثالي ميخا والكاهن المقيم عنده يكشف عما هو أمر وأقسى وهو أن هذا العمى أصابهم على مستوى الجماعة، على مستوى الأسباط، إذ أراد دان أن يقيم لنفسه إلهًا وكاهنًا ولو بالاغتصاب.
1. دان يطلب ميراثًا [1-2].
2. الرسل في بيت ميخا [3-6].
3. عودتهم إلى اشتاؤل [7-10].
4. اغتصابهم الأفود والكاهن [11-26].
5. استيلاؤهم على لايش [27-31].
1. دان يطلب ميراثًا:
"وفي تلك الأيام لم يكن مَلِكٌ في إسرائيل؛ وفي تلك الأيام كان سبط الدانيين يطلب له مُلْكًا (ميراثًا) للسكنى، لأنه إلى ذلك اليوم لم يقع له نصيب في وسط أسباط إسرائيل" [1-2].
"في تلك الأيام لم يكن مَلِكٌ في إسرائيل"، إذ كان ذلك بعد موت يشوع في بداية فترة القضاة حيث لم يكن لإسرائيل ملك. رفضوا الرب ملكًا لهم، ولم يكن لهم حتى ملك أرضي فصار الكل يعمل ما يحسن في عينيه (17: 6) على مستوى الأفراد أو العائلات أو الأسباط، ليس من قائد ولا من مدبر أو مشير! في هذه الآونة تطلع بنو دان فرأوا أن ما استلموه من أرض كميراث للسبط يُحسب كلا شيء بالنسبة لعددهم الضخم، وكأنهم بلا نصيب في وسط إسرائيل فاختاروا خمسة رجال من ذوي البأس كجواسيس يفحصون الأرض التي يطلبون امتلاكها.. انطلق هؤلاء الرجال للعمل، وفي الطريق مالوا إلى بيت ميخا في جبل أفرايم وباتوا هناك.
2. الرسل في بيت ميخا:
إذ أقم الجواسيس الخمسة في بيت ميخا عرفوا صوت الغلام اللاوي [3]، هل بسبب سابق معرفة إذ كان الغلام قبلاً في بيت لحم وكانت هناك خلطة بين سبطي يهوذا ودان ليست بقليلة، أم عرفوه من لهجته أنه لاوي، أو سمعوه يخدم فعرفوه ككاهن، أو أنه سبق فمرّ بهم أثناء تجوله يطلب عملاً.
بدأوا يسألونه عن سبب مجيئه وعمله بشيء من الاستغراب، ربما لأنهم لم يكونوا يتوقعون الالتقاء بلاوي كاهن في هذا الموقع. إذ عرفوا أنه كاهن سألوه أن يستشير الرب في أمرهم فكانت إجابته: "اذهبوا بسلام، أمام الرب طريقكم الذي تسيرون فيه" [6]، أي أن الله يكون حارسًا لطريقكم وحافظًا لكم يهتم بكم وينجح أعمالكم.
إنها صورة تكشف عن بساطة قلوب الكثيرين لكنها بغير حكمة ولا فهم روحي.. يشتاقون إلى التسليم في يدي الله ويتعطشون إلى الالتجاه إليه لكن شركتهم مع الوثنيين أفسدت أفكارهم.
3. عودتهم إلى أشتاؤل:
كانت كلمات الغلام وهي أشبه بدعاء للبركة والتشجيع في نظرهم مشورة إلهية ونبوة دفعتهم للانطلاق إلى لايش أو (لشم) وتسمى حاليًا "تل القاضي"، وهي مدينة كنعانية في أقصى شمال فلسطين في الوادي الذي لبيت رحوب. اسمها "لايش" معناه (أسد).
لقد وجد الجواسيس المدينة ضعيفة للغاية من الجانب العسكري، يسكنها جماعة من التجار هاجروا إليها من صيدون، يميلون إلى السلم حفاظًا على تجارتهم. وهى بعيدة عن صيدا، ولم تقم تحالفًا مع أحد، وبلا ملك.. وكأن كل العوامل تسندهم على الاستيلاء عليها.. لذلك رجع الجواسيس إلى اخوتهم يحثونهم على الانطلاق إليها بلا كسل.
إن كانت "لايش" تعني (أسدًا)، فإنها تمثل مملكة إبليس التي لها اسم الأسد المرعب لكنها في واقعها ضعيفة للغاية وبلا ملك حقيقي ولا من يسندها، يستطيع المؤمن الحقيقي أن يهاجم العدو ويغتصب موقعه ويملك! ليتنا لا نهاب إبليس ولا نضطرب منه فهو مرعب بإغراءاته وخداعاته، لكننا إن تمسكنا بربنا يسوع المصلوب نقتحم مملكته فنجده غاية في الضعف.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إبليس ليس هو السبب في آلامنا لو أخذنا حذرنا منه.. فإن ضعيفي الإرادة وغير المستعدين والكسالى يسقطون حتى ولو لم يوجد إبليس، يسقطون بأنفسهم في أعماق الشر..]. كما يقول: [لا نخاف الشيطان حتى ولو كان روحيًا بغير جسد، فليس شيء أضعف من ذاك الذي علاقته بنا هكذا (لا يسيطر علينا بغير سماح إلهي) [137]].
4. اغتصابهم الأفود والكاهن:
انطلق ستمائة رجل حرب من عشيرة الدانيين ومعهم نسائهم وأولادهم وأمتعتهم [21]، وكأنهم منطلقون لا للحرب بل ليملكوا، إذ عادة رجال الحرب أن يخرجوا للحرب حتى يغلبوا وعندئذ إذ يستولون على الأرض يأتون بعائلاتهم، لكن هؤلاء الرجال استهانوا جدًا بسكان لايش وحسبوا امتلاكها أمرًا لا يحتاج إلى مجهود كبير وهو أمر محقق، لذا أخذوا نساءهم وأولادهم وأمتعتهم معهم ليملكوا.
إنها صورة حية للجهاد الروحي فينطق الإنسان كرجل حرب (روح قوية) ومعه امرأته (جسده) وأولاده (ثماره الروحية) وكل أمتعته (أي طاقاته).. حتى إذ يستولى على موقع كان قد احتله إبليس يستقر ليملك بروحه وجسده وثماره الروحية وكل إمكانياته المقدسة في الرب.
صعدوا وحلوا في "قرية يعاريم" أي (قرية الغابات)، وهى إحدى مدن الجبعونيين الأربع (يش 9: 17) على تخم يهوذا وبنيامين (يش 15: 9-10 ؛ 18: 14-15) وتدعى "قرية بعل"، من نصيب يهوذا. يُرجح أنها قرية العنب التي تسمى أباغوش تبعد حوالي 9 أميال غربي أورشليم.
حلوا بالقرية مدة ليست بقليلة حتى دعيت "محلة دان" [12]، وربما كانت إقامتهم على حدود القرية من ورائهم [12]، أي غربها، إذ اعتاد الكتاب أن يسمي الشرق أمام والغرب "وراء" والشمال "شماله" والجنوب "يمينه".
انطلقوا من قرية يعاريم إلى جبل أفرايم حيث جاءوا إلى بيت ميخا، وإذ أخبرهم الجواسيس بوجود أفود وترافيم وتمثال منحوت وآخر مسبوك وكاهن وكأنها مقدسات للرب، أصر الرجال على اغتصابها لنوال بركتها.. فاغتصبوها بلا عائق، ولما حاول الكاهن الاعتراض، قالوا له: "اخرس، ضع يدك على فمك واذهب معنا وكن لنا أبًا وكاهنًا. أهو خير لك أن تكون كاهنًا لبيت رجل واحد أم تكون كاهنًا لسبط ولعشيرة في إسرائيل؟!" [19].
صورة مؤلمة لمفاهيم الشعب في ذلك الحين وأيضًا الكاهن إذ طاب قلبه [20] عندما عرف أنه سيكون كاهنًا لجماعة كبيرة عوض تخصصه لبيت واحد. حمل الكاهن الأفود والترافيم والتمثال المنحوت لأنها أشياء خفيفة يمكن حملها أما التمثال المسبوك فتركه لهم لكي يحملونه.. ودخل في وسط الشعب ليحتمي بهم من بيت ميخا. لقد وجد ما يشبع مطامعه ومن يحميه من الناس، لكنه لم يجد ما يشبع أعماقه ولا من ينزع منه خزيه!
انطلقوا من بيت ميخا وكان الأطفال والماشية والثقل قدامهم [21]. إنهم سلكوا كجسديين، أما الإنسان الروحي فينطلق بروحه متقدمًا الجسد (امرأته) ومواهبه (الأطفال)، إذ يسلك الجسد بالروح القدس خاضعًا لعمل الروح، لا أن يتقدمه الجسد فتحيا الروح خاضعة لشهوات الجسد وملذاته ولا متكبرة بالمواهب (الأطفال).
حاول ميخا وأهل بيته أن يستردوا معبوداتهم وكاهنهم حاسبًا أنهم كل رأسماله، إذ قال ميخا: "آلهتي التي عملت قد أخذتموها مع الكاهن وذهبتم، فماذا ليّ بعد؟! وماذا تقولون ليّ: مالك؟!" [24]. فهددوهم بنو دان.. عندئذ رجع ميخا إلى بيته إذ رآهم أشد منه.
5. استيلاؤهم على لايش:
انطلقوا إلى "لايش" أي (الأسد) كما في عرينه حتى يحطموا قوته، وليس من يعينه!
حطموا المدينة واحرقوها بالنار وأعادوا بناؤها من جديد، ودعوها دان.. وكأنهم يمثلون المؤمن الذي ينزل إلى مياه المعمودية ليحطم بالسيد المسيح المصلوب قوته ويخلع أعماله الشريرة عنه، كمن يحرقها بالنار، ليحمل الإنسان الجديد على صورة خالقه. وعوض لايش التي لإبليس تقوم دان التي تعني إدانة الخطية بالصليب وخلال الدفن مع ربنا يسوع.
كان يليق ببني دان وقد أحرقوا لايش وأقاموا دان أن يعيشوا للرب، لكنهم للأسف أٌقاموا لأنفسهم التمثال المنحوت.. وكأنهم يمثلون المؤمنين الذين بعدما تمتعوا بالإنسان الجديد عادوا إلى الخطية وانحرفوا عن الحياة الإيمانية التقوية ليعيشوا حسب أهوائهم.
المراجع:
[137] هل للشيطان سلطان عليك؟، ١٩٧٢، ص ٥٦، ٥٧.