تفسير الاصحاح الرابع من سفر يشوع للقمص تادري يعقوب ملطى
حجارة نهر الأردن
لما كان نهر الأردن يشير إلى سرّ المعمودية المقدسة في جانبها الإيجابي، لهذا انتخب يشوع إثنى عشر رجلاً من الشعب يحملون اثنى عشر حجرًا من أعماق الأردن ليقيموها في الجلجال إعلانًا عن قيام الكنيسة المقدسة خلال المعمودية.
1. الحجارة التذكارية [1-8].
2. الحجارة التي نصبت في القاع [9].
3. الإسراع في العبور [10-11].
4. عبور الجند المتجردين [12-13].
5. مهابة يشوع [14].
6. الصعود إلى الجلجال [15-24].
1. الحجارة التذكارية
"وكان لما انتهى جميع الشعب من عبور الأردن أن الرب كلم الشعب، قائلاً: انتخبوا من الشعب إثنى عشر رجلاً، رجلاً واحدًا من كل سبط وأمرهم قائلاً: احملوا هنا من وسط الأردن من موقف أرجل الكهنة راسخة إثني عش حجرًا وعبروها معكم وضعوها في المبيت الذي تبيتوا فيه الليلة" [1-3].
لقد أمر الله يشوع أن ينتخب من الشعب 12 رجلاً، هؤلاء الذين بحق إذ يحملون إثني عشر حجرًا من قاع الأردن من موقف الكهنة إنما يعلنون قيام الكنيسة بكونها جسد المسيح الخفي، الذي تمتع بوجوده خلال مياه المعمودية.
وكما يقول القديس أغسطينوس: [إن رقم 12 يشير إلى الكنيسة المقدسة هذه التي تجتمع من الأربع جهات المسكونة (مر 13: 27) خلال المعمودية باسم الثالوث المقدس (3 × 4)[90]]، أو يمكننا القول أن الثالوث القدوس يملك على البشرية في المشارق والمغارب والشمال والجنوب، فيكون رقم 12 إنما يشير إلى ملكوت الله على البشرية كلها، أي إلى الكنيسة التي تضم أعضاءً من كل الأمم والشعوب.
أُعلنت هذه الكنيسة خلال هذا الرقم في العهد القديم حيث كان عدد الأسباط الممثلين لشعب الله أو ملكوته على الأرض في ذلك الوقت إثني عشر (تك 35: 12)، وفي العهد الجديد إختار السيد إثني عشر تلميذًا يدينون الإثني عشر سبطًا (مت 19: 28)، حتى أورشليم السماوية التي في جوهرها تعني ملكوت الله فينا إلى الأبد، أو كما يلقبها معلمنا يوحنا "مسكن الله مع الناس" (رؤ 21: 3). لها إثنا عشر بابًا (رؤ 21: 12)، ثلاثة أبواب في كل اتجاه.
وفي إيليم وجد الشعب إثني عشر عين ماء (خر 15: 27)، إشارة إلى الكنيسة التي صار لها الروح القدس (عين الماء) سرّ حياتها وتعزيتها وسط برية هذا العالم، وإذ أقام موسى مذبحًا للرب أقام إثني عشر عمودًا (خر 24: 4). كشفًا عن أن الكنيسة إنما هي أعمدة حية في هيكل الرب السماوي ومذبحًا روحيًا عليه وفيه تقدم ذبيحة الصليب الفريدة الأبدية.
وبنفس الفكر أقام إيليا النبي مذبحًا من إثني عشر حجرًا عند تقديم الذبيحة (1 مل 18: 31). وفي الطقس اليهودي يضع رئيس الكهنة إثني عشر حجرًا كريمًا على الصدرية التي يلبسها عندما يقف في حضرة الله، وكأنه بيسوع المسيح رئيس الكهنة السماوي الحامل كنيسته في قلبه وعلى كتفيه، ويقدمها لدى الآب على الدوام. ويرى القديس إيريناؤس أن ملابس الكهنة في العهد القديم كانت تحمل إثنى عشر جرسًا (خر 28: 2)[91]]، نحن نعلم أن الثوب يُشير إلى الجسد، وكأن كاهننا يسوع المسيح إنما يرتدي كنيسته كثوب أبيض بلا دنس يُضيء كالنور (مت 17: 2)، تتحرك معه أينما تحرك لتعطي أصوات أجراس الفرح والتهليل لقديسيه والإنذار للمهملين خلاصهم!
2. الحجارة التي نصبت في القاع
"ونصب يشوع إثنى عشر حجرًا في وسط الأردن تحت موقف أرجل الكهنة حاملي تابوت العهد" [9]. في الوقت الذي فيه أخذ الرجال إثنى عشر حجرًا من القاع، جاءوا إلى القاع أيضًا بإثنى عشر حجرًا ونصبوها هناك.
ويرى الأسقف قيصريوس: [إن الإثنى عشر حجرًا الذين جاءوا بها إلى القاع إنما هي آباء العهد القديم، بينما الإثنى عشر حجرًا التي حملوها من القاع إنما تشير إلى تلاميذ المسيح[92]]. الحجارة المحمولة إلى القاع تُشير إلى اليهود الذين دفنوا في البرية واختفوا، أما الحجارة التي رُفعت من القاع فتٌشير إلى الأمم الذين انطلقوا إلى أرض الموعد خلال المعمودية.
في الواقع لا نستطيع أن نفصل بين الحجارة التي رُفعت إلى الجلجال على الأكتاف لتبنى في الجلجال، والحجارة التي أُقيمت في قاع الأردن، فالأولى إنما تُشير إلى الكنيسة بكونها جسد المسيح الذي اجتاز الأردن واحتمل الصليب والموت والدفن كل يوم ليقوم أيضًا مع رأسه ويختبر معه كل يوم الحياة الجديدة المقامة، أم الحجارة الأخرى فتُشير إلى استمرار الصليب مع المسيح.
كأن المؤمن الحقيقي يلزمه أن يقوم مع السيد ويختبر كل يوم الجلوس معه في السماويات ليحيا بفكر ملائكي في حياة علوية مقدسة، وفي نفس الوقت يقف على شاطئ الأردن ليرى نفسه مدفونًا في أعماقه مع مخلصه ليختبر معه القيامة.
والعجيب أن الكتاب المقدس يحدثنا عن الحجارة المرفوعة إلى الجلجال حيث الملكوت (أرض الموعد) قبل الحديث عن الحجارة التي تنصب في وسط الأردن، مع أن الدفن يسبق القيامة، والألم يسبق الرحة، والهوان يسبق المجد، لكن في الواقع الروحي لا انفصال بين الصليب والقيامة، والألم مع السيد المسيح والتمتع براحته، واحتمال الهوان من أجله لنوال مجده.
كان السيد معلقًا على الصليب وهو القيامة قبل أن تتحقق قيامته، وكان يدخل الآلام مع أن أمجاده أزلية! والمسيحي لا يقدر أن يقبل الدفن والألم والهوان ما لم يدرك بروح الله قيامة المسيح وراحته ومجده! لهذا يقول الرسول بولس: "لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبهًا بموته لعلى أبلغ إلى قيامة الأموات" (في 3: 10-11). فإنه لا يقدر أن يدخل إلى شركة آلامه ما لم يعرف قوة قيامته، وحينئذ يقبل الموت بفرح على رجاء يوم القيامة العظيم!
ليت قلبنا يجول كل يوم في الجلجال - أرض الموعد - ليجد لنفسه موضعًا بين الحجارة الحية، مدركًا قوة السيد العاملة فيه لترفعه من مجد إلى مجد، وتدخل به إلى أعماق السماويات، وعندئذ ينطلق إلى شاطئ الأردن ليدرك أنه لا يقدر أن ينطلق إلى الجلجال الحقيقي ما لم يدفن في أعماق الأردن! إنه يتهلل بقوة القيامة لكنها ليست خارج الصليب والدفن مع رب المجد يسوع!
أخيرًا يؤكد لنا الكتاب المقدس أنه لا تمتع بهذه الهبات الإلهية إلاَّ في يسوع المسيح، الذي قيل عنه: "وأما أنه صعد فما هو إلاَّ إنه نزل أيضًا إلى أقسام الأرض السفلى، الذي نزل هو الذي صعد أيضًا فوق جميع السموات لكي يملأ الكل" (أف 4: 9-10).
3. الإسراع في العبور
"وأسرع الشعب فعبروا، وكان لما انتهى كل الشعب من العبور أنه عبر تابوت الرب" [10-11]. يقدم لنا العلامة أوريجانوس صورة حية لمفهوم العبور السريع، إذ يقول: [يبدو ليّ أن الكلمات:
"وأسرع الشعب فعبروا" ليست إضافية وضعها الروح القدس بلا ضرورة، إنما يليق بنا نحن الذين نقبل إلى معمودية الخلاص ونتلقى أسرار كلمة الله ألا نسلك برخاوة أو تهاون، بل نسرع بالعمل حتى نعبر تمامًا. والعبور "تمامًا" إنما يعني تنفيذ كل الوصايا.
لنسرع بالعبور خلال تتميم ما هو مكتوب: "طوبى للمساكين بالروح" (مت 5: 3)، فإذ نترك كل كبرياء ونحتضن إتضاع يسوع نستحق التطويب الموعود به. وإذ تتمم هذه الوصية لا نتوقف بل نعبر إلى بقية الوصايا مثل: "طوبى للجياع والعطاش إلى البر" (مت 5: 6)، وطوبة للحزانى (الباكين) الآن في هذا العالم.. "طوبى للودعاء" (مت 5: 4)، "طوبى لصانعي السلام" (مت 5: 9).
وبهذا نستحق أن نسمع أننا أولاد الله (مت 5: 9). ولنسرع بالعبور خلال فضيلة الصبر واحتمال الاضطهادات. بهذا البحث النشط والحار للبلوغ إلى كل كمال غايته نصرة الفضيلة، يتم عبور الأردن بسرعة.. لكننا إذ ننتهي من هذا العبور نكون قد بلغنا مرامنا، وعندئذ يليق بنا أيضًا أن نكون في يقظة وحذر لئلا خلال الإهمال الزائد في سيرتنا نتعثر: "أما أنا فكادت تزل قدماي" (مز 73: 2). كأن النبي يقول يلزمنا ألا نكون أقل حمية في الاحتفاظ بالفضائل عنه عندما كنا نبحث عنها[93]].
إذن لنسرع بالعبور خلال الإيمان العامل، فنحيا مجاهدين في تتميم الوصايا الإلهية، وفي الاحتفاظ بما نلناه من عطايا وفضائل من قبل الله.
ففي القديم إذ تباطأ لوط وعائلته أمسك الملاكان "بيده وبيد إمرأته وبيد ابنتيه لشفقة الرب عليه وأخرجاه ووضعاه خارج المدينة. وكان لما أخرجهما إلى خارج أنه قال: أهرب لحياتك، لا تنظر إلى ورائك ولا تقف في كل الدائرة، أهرب إلى الجبل لئلا تهلك" (تك 19: 22). وبالفعل أسرع لوط وإمرأته وبنتاه وهربوا، ولكن إمرأة لوط لم تقدر أن تحتفظ بعطية الخلاص فبعدما أسرعت عادت بقلبها إلى الوراء فصارت عمود ملح!!
يحذرنا القديس يوحنا الدرجي من التباطؤ في العبور وعدم الإسراع، خاصة في بدء حياتنا الروحية، إذ يقول: [التباطؤ في بداية المعركة الروحية بالذات يؤكد موتنا العتيد أن يحدث، وهذا أمر مكروه وخطير. البداية الحازمة بالتأكيد تفيدنا، حتى وإن تراخينا فيما بعد. فالنفس القوية في بدايتها، عندما تتوانى تذكر حماسها السابق، الأمر الذي يدفعها إلى التقدم، وبهذا تحصل على أجنحة[94]].
والعجيب أن الكهنة حاملي تابوت العهد لم يخرجوا من القاع حتى يسرع كل الشعب بالعبور [11]. يا لها من أبوة حقة، فإن الراعي الصالح لا يطلب ما لنفسه بل ما للآخرين، فإن كان هو الذي يفتتح الطريق ويمهده لهم، لكنه يبقى محتملاً آخر الصفوف حتى يطمئن على أولاده جميعًا، لقد بدأ الكهنة بالعبور وختموا العبور، وكأنهم يحملون سمة سيدهم الذي وهو فوق الكل احتل آخر الصفوف ليحتضن كل البشرية، هذا الذي هو البداية والنهاية، الأول والآخر (رؤ 22: 13).
4. عبور الجند المتحاربين
"وعبر بنو رأوبين وبنو جاد ونصف سبط منسي متجهزين أمام بني إسرائيل كما كلمهم موسى نحو أربعين ألفًا متجردين للجند، عبروا أمام الرب للحرب إلى عربات أريحا [12-13].
في دراستنا لسفر العدد طلبت هذه الأسباط من موسى النبي أن تُترك لهم أرض جلعاد شرقي الأردن ميراثًا ولا يكون لهم نصيب غرب الأردن مع بقية الأسباط، ووافق موسى على ذلك بشرط أن ينزل الرجال مع إخوتهم (عد 32). وهنا يؤكد الوحي الإلهي أن نحو أربعين ألفًا من هذه الأسباط متجهزين ومتجردين للحرب خرجوا أمام الشعب وأمام الرب للعمل.
ويلاحظ في النص الذي بين أيدينا الآتي:
أولاً: أن عدد الخارجين للعمل أو الحرب من هذه الأسباط هو نحو أربعين ألفًا، فإن كان رقم 4 يُشير للجسد الذي هو من الأرض "أربع جهات المسكونة"، فإن رقم 1000 يُشير للحياة السماوية أو الروحية كما سبق فذكرنا في دراستنا السابقة. وكأن هؤلاء الرجال قد نزلوا لمشاركة الجماعة جسديًا وروحيًا، يشاركونهم في الأمور الزمنية والأمور السماوية.
ما أسهل أن نشارك الآخرين جسديًا بحضورنا أفراحهم أو مناسبات الحزن، لكن مع هذه المشاركة الجسدية يلزم أن نشاركهم روحيًا بالقلب والفكر. على سبيل المثال عند مشاركتي لإنسان في حفل نجاحه لا أكتفي بالحضور أو تقديم هدية ولكن ما هو أعظم أن أشاركه قلبيًا وروحيًا، مشتهيًا نجاحه الروحي وتمتعه بالعطايا الإلهية. لتكن شركتنا مع بقية الأعضاء خلال الرأس يسوع المسيح الذي يهتم بنا روحيًا وجسديًا ونفسانيًا وإجتماعيًا وثقافيًا.. إنه يريدنا ناجحين في كل جوانب حياتنا.
ثانيًا: يؤكد الوحي أنهم عبروا "أمام بني إسرائيل" وأيضًا "أمام الرب"، فلا يكفي أن نعمل لحساب الجماعة المقدسة لنموها روحيًا وغلبتها على ظلمة الشر، وإنما يلزم أن يكون عملنا داخليًا لحساب رب هذه الجماعة.
كثيرون يخدمون في الكنيسة ويعملون أعمالاً مجيدة "أمام بني إسرائيل"، لكنهم لا يقدمون العمل لحساب الله ولا يظهرون "أمام الرب".. إنما يخدمون الناس أو يخدمون كرمتهم ومجدهم الذاتي لا الله.
ثالثًا: يصفهم الكتاب "متجهزين" و"متجريدين للحرب". يقول العلامة أوريجانوس: [من هم هؤلاء الرجال الذين يقدمهم الكتاب كمتمنطقين أو متجهزين تجهيزًا خفيفًا؟ لا أستطيع أن أقدم من ذاتي شيئًا، لكننا نتعلم هذا من رسائل الرسول.. "ممنطقين أحقاءكم بالحق" (أف 6: 14).
أترى كيف أن بولس يعرف هؤلاء المتمنطقين أنهم يرتدون منطقة الحق؟! هكذا يليق بنا أن يكون "الحق" هو منطقتنا، إن كنا بالحق أمناء نحو هذا السر الممثل بهذا السلاح الحربي (الروحي). فإن كان الحق هو منطقة الجندية الخاصة بالمسيح ففي كل مرة نخطيء في الحديث وننطق بالكذب نكون قد خلعنا عنا منطقة جندية المسيح.
أما إن كنا بالفعل نحيا في الحق فإننا نكون مسلحين للجهاد. إن كنا نسلك بالكذب فنحن عزل من السلاح! آه! ليتنا نمتثل بهؤلاء الأربعين ألفًا الممنطقين للحرب، الذين عبروا أمام الرب، فنكون ممنطقين بالحق، ليتنا أيضًا لا ننسى ما يقوله الكتاب "ممنطقين أمام الرب"، فلا يكفي أن نجعل الحق ظاهرًا أمام الناس، إذ يمكننا أن نخدع الناس ونبدو كصادقين، لكننا لا نُحسب ممنطقين بالحق إلاَّ إن حفظناه أمام الرب، لا أقصد الحق الذي يسمعه الناس في أقوالنا بل الذي يراه الله في أعماق قلوبنا.
فلا يكون في شفاهنا غشًا، ولا يكون في قلوبنا خداعًا، إذ يلوم النبي هؤلاء "المخاطبين أصحابهم بالسلام والشر في قلوبهم" (مز 28: 3)[95]].
5. مهابة يشوع
"فهابوه كما هابوا موسى كل أيام حياته" [14]. يقول العلامة أوريجانوس: [كل إنسان تحت الناموس يهاب موسى، لكنه متى انطلق من الناموس ليعبر إلى الإنجيل تتغير عبادته وتتغير مهابته، كقول الرسول: "لأنيّ مُت بالناموس للناموس لأحيا لله، مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ" (غل 2: 19)[96]].
الذين يعيشون تحت الحرف القاتل يهابون الناموس ويرتعبون، أما الذي يحيا في حرية الروح فيهاب يسوعنا الحيّ مخافة الابن الذي يخشى جرح مشاعر أبيه! إننا نهابه خلال الحب الذي يرفعنا من مخافة العبيد إلى مخافة البنين المقدسة. فقد قيل عن السيد المسيح نفسه: "ولّذته تكون في مخافة الرب" (أش 11: 3).
6. الصعود إلى الجلجال
كلم الرب يشوع أن يأمر الكهنة حاملي تابوت العهد أن يصعدوا الأردن بعد أن أطمأن أن جميع الشعب قد صعد أمامه، وعندئذ رجعت مياه الأردن إلى مكانها وجرت إلى كل شطوطه، وكان صعود الشعب من الأردن ليحلوا في الجلجال في اليوم العاشر في الشهر الأول، وهنا نلاحظ الآتي:
أولاً: أن الشعب قد صعد من الأردن إلى أرض الموعد في نفس الموعد الذي فيه اقتنى كل واحد شاه لتقديمها ذبيحة فصح للعبور (خر 12: 3).
وكأنه في اليوم الذي كانوا فيه يحتفلون بسر الفصح هو بعينه الذي فيه يتحقق صعودهم من الأردن لتطأ أقدامهم أرض الموعد؛ وكأن صعودهم إلى الميراث إنما يتحقق خلال الفصح، أي سر الصليب, فلا نصرة لنا ولا ميراث لنا خارج دائرة الصليب!
هذا وأن اليوم الذي فيه بدأ التحرك بالخروج من العبودية هو بعينه اليوم الذي فيه بدأ التحرك بالدخول إلى الحرية، وكأن الخروج والدخول يمثلان عملاً واحدًا متكاملاً لا يفصل بينهما زمن.
ففي الصليب كما في المعمودية أنطلق من عبودية فرعون الحقيقي لأدخل إلى حرية مجد أولاد الله في يشوع الحق؛ أخلع بالروح القدس الإنسان القديم بأعماله الشريرة التي ربطتني كل زمانيّ لألبس بالروح القدس الإنسان الجديد بطبيعته المقدسة في المسيح يسوع لأكمل أيام غربتي حرًا في الرب!
ثانيًا: تحقق ذلك أي الصعود إلى أرض الميراث في العاشر من الشهر الأول، ولما كان الشهر الأول يُشير إلى بداية سنة جديدة، فإن هذا الصعود يُشير إلى الدخول في الحياة الجديدة خلال تمتعنا بالإنسان الجديد الداخلي لنحيا بفكر المسيح (في 2: 5) ونحمل سماته فينا. أما رقم 10 فيُشير إلى الكمال الزمني كما يُشير إلى الوصايا العشر، وكأننا ندخل إلى الميراث في كماله حين نكمل جهادنا على الأرض ونعلن بالمسيح يسوع متمم الوصايا أننا غير كاسرين للناموس.. حقًا كنا قبلاً كاسرين الناموس، لكننا في المسيح يسوع الذي صار تحت الناموس (غل 4: 4) من أجلنا، صرنا غير كاسرين له. بالحياة الجديدة (الشهر الأول) نرتفع من تحت الناموس إلى فوق الناموس لنحيا في برّ الله بروحه القدوس!
ثالثًا: لقد دعى أول معسكر للشعب بعد عبورهم الأردن ودخولهم كنعان بالجلجال أي "متدحرج" أو "دائرة"، وجاء هذا الاسم يعلن عن دحرجة عار العبودية القديم (يش 5: 9). فمع أنهم انطلقوا من عبودية فرعون منذ حواليّ 40 عامًا لكنه لم يُنزع عنهم عار العبودية إلاَّ بوطأة أقدامهم أرض الجلجال (في كنعان)، وكأنه لا ينزع عنا عار الخطية إلاَّ بدخولنا "دائرة الأبدية"وتمتعنا بعربون الميراث الأبدي في داخلنا.
في حديث الله عن أعماله مع شعبه يتحدث عن تحريرهم من أرض العبودية والانطلاق بهم إلى الجلجال (في 6: 5) وكأنها آخر موضع يستقر فيه الشعب، مع أنه من الجانب الجغرافي هي أول موقع داخل كنعان استقروا فيه.. فبنوالهم الجلجال حسبهم الله كأنهم تمتعوا بكل كنعان. وللجلجال ذكريات كثيرة تكشف عن أعمال الله معهم في هذه الأرض الجديدة، منها:
أ. كان الجلجال مركز عمليات يشوع، فيه أقام الإثنى عشر حجرًا تذكاريًا (يش 4: 19)، وفيه اختتن الشعب ثانية (يش 5: 9).. وهكذا إذ نعبر إلى الحياة السماوية (الدائرة) يتسلم يسوعنا حياتنا ويدبر كل أمورنا حتى يكمل انتصارنا به.
ب. يظهر الجلجال كموضع مقدس حتى أيام صموئيل (1 صم 7: 6)، فيه أُقيم شاول ملكًا (1 صم 10: 8، 11: 14 إلخ)، وغالبًا ما كان به هيكل[97]. هكذا يصير قلبنا الجلجال الحق الذي يقدسه روح الله، فيجعل منه هيكلاً له، ويقيمنا ملوكًا متحدين بملك الملوك، لنا سلطان روحي على قوات الظلمة (الشياطين) وكل أعمالهم.
ج. كان الجلجال أيضًا مركز لعمليات شاول الحربية ضد الأمم خاصة عماليق.. فحينما يتقدس القلب يتحول إلى موقع حربي روحي ضد الشر والخطية، لحساب الله!
أخيرًا هناك أحداث كثيرة حدثت في الجلجال، فإليه ذهب رجال يهوذا لمقابلة داود عندما رجع من جلعاد (2 صم 19: 16).. وللأسف تحول هذا الموضع فيما بعد كمركز للعبادة الوثنية أيام الملوك الذين تولوا الحكم بعد يربعام، فهجاه الأنبياء ولعنوه (هو 4: 15، 9: 15؛ 12: 11؛ عا 4: 4؛ 5: 5).
يحتمل أن تكون هي بيت الجلجال المُشار إليه بعد السبي (نح 12: 29). أما موقع الجلجال فغير معروف بدقة، يرى البعض أنه قرابة النتلة (خرابة الأثلة) بجوار بركة جلجولة على بعد حوالي ثلاثة أميال وعن جنوب شرق عين السلطان، ويقترح آخرون أنها خرابة مفجير على بعد ميل وربع شمال شرق أريحا القديمة (عين سلطان)[98].
المراجع:
[90] On Ps. 87.
[91] Adv. Haer. 1:18.
[92] Sermon 115:3, 4.
[93] In Jos Hom 5:1.
[94] Ladder, step 1:11.
[95] Jos. Hom. 5:2.
[96] Ibid 5:4.
[97] Mckenzie. P. 311.
[98] New Westminister Dict. Of Bible, p 332.