تفسير الاصحاح الرابع والعشرون من سفر يشوع للقمص تادري يعقوب ملطى
حجر الشهادة
بعد أن سلم القائد الروحي يشوع الوديعة خلال جهاده وفي لحظات انطلاقه من هذا العالم تقبل أيضًا الريالة الإلهية الوداعية ليسلها لشعب الله ويقيم حجر شهادة عند مقدس الرب الذي يذكرهم بأعمال ااه معهم قبل أن يرحل عنهم بالجسد.
1. معاملات الله معهم [1-13].
2. تقديس الإرادة البشرية [14-26].
3. إقامة حجر شهادة [27-28].
4. موت يشوع [29-33].
1. معاملات الله معهم
بعد أن تحدث يشوع مع رجاله بكل صراحة، مقدمًا لهم كل ما في جعبته قبل الرحيل، عاد أيضًا ليدعو شيوخ إسرائيل ورؤساءهم وقضاتهم وعرفائهم ليمتثلوا أمام الرب، وينطق يشوع لجميع الشعب بالكلمات الإلهية قبل رحيله مباشرة، فيها يؤكد الله أمانته في تحقيق مواعيده.
لقد سبق فوعد إبراهيم أب الآباء حين دعاه وصار به في كل أرض كنعان كغريب ونزيه مؤكدًا له أنه يهبه إياه في شخص نسله، وها هو اليوم يتحقق وعده.
لقد أخرجهم من أرض فرعون وعبر بهم بحر سوف الذي فيه غرق فرعون وجنوده وأنقذهم من أيدي الأموريين والفرزيين والكنعانيين والحثيين والجاجاشيين والحويين واليبوسيين إلخ..
لقد أبرز يشوع بن نون أن إبراهيم نال المواعيد مع أن أباه كان يعبد آلهة أخرى، وكأنه يريد أن يؤكد لهم أن انتسابهم لآباء القديسين أو أشرار لن يفيدهم أو يضرهم، إنما ما يفيدهم طاعتهم للرب ويضرهم عصيانهم عليه.
ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هذه النصيحة أقدمها لكم.. ليتنا لا نجعل من شر آبائنا حجة نتذرع بها، فإننا متى كنا حريصين لا يعوقنا شيء من هذا، فإنه حتى إبراهيم كان أبوه غير مؤمن لكنه لم يرث شره بل صار عزيزًا لدى الله!(256)].
يقو لهم الرب: "وأرسلت قدامكم الزنابير، وطردتهم من أمامكم أي ملكي الأموريين لا بسيفك ولا بقوسك. وأعطيتكم أرضًا لم تتعبوا عليها، ومدن لم تبنوها، وتسكنون بها، ومن كروم وزيتون لم تغرسوها تأكلون" [12-13].
ماذا يقصد بالزنابير التي أرسلها قدامكم؟ لعله قصد المصريين الذين هاجموا هذه المتطقة قبل العبرانيين إليهم بفترة حطمت قوى الملوك وهيأت لهم الطريق، إن التاريخ كله، بل والأحداث كلها إنما تسير بخطة إلهية غير منظورة تعمل لخلاصنا. رعاية الله فائقة وفوق كل إدراك! لقد سمح الله بهجوم فرعون، ولم يكن يعلم المؤمنون أن هذا لأجلهم، حتى يتمتعوا بالميراث بلا تعب!
2. تقديس الإرادة البشرية
إن كان سفر يشوع إنما يضم معاملات الله الفائقة مع شعبه لكي يرثوا ويملكوا، إنما لأنه يقدم الحب الإلهي حتى يقبلوه بالحب من جانبهم. إنه لا يطلب عبادتهم كفريضة إلزامية قسرية لكن طلب الحب الخارج خلال كمال حرية الإنسان، فإن الله يقدس الحرية الإنسانية بكونها صورة حية لله، وإعلانًا عن بر الله وحبه العملي.. فو يطلب الإنسان ليس كعبد بل كابن حرّ يلتصق بأبيه بفرح وسرور.
لهذا يؤكد يشوع بن نون لهم: "إن ساء في أعينكم أن تعبدوا الرب فاختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون.." [15]. وإذ قدم يشوع نفسه مثلاً، قائلاً: "أما أنا وبيتي فنعبد الرب"، أجابوا هم وقالوا: "حاشا لنا أن نترك الرب لنعبد آلهة أخرى" [16].
مرة أخرى اراد يشوع أن تنبع العبادة لله عن حرية كاملة، إذ يقول للشعب: "لا تقدرون ن تعبدوا الرلأنه إله قدوس وإله غيور هو، لا يغفر ذنوبكم وخطاياكم" [19]، مؤكدًا لهم إن عبدوه لكن في غير حياة مقدسة إنما يجلبون التأديب عليهم، وإن اختاروا الآلهة الغريبة نصيبهم.. وقد أكد الشعب مرة أخرى: "لا، بل الرب نعبد" [21].
يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم من حرية الإرادة، قائلاً: [لا يغصبنا الله ولا تلزم نعمة الروح إراداتنا، لكن الله ينادينا، وينتظرأن نتقدم إليه بكامل حريتنا، فإذا اقتربنا يهبنا كل عونه(257)]، [الله لا يلزم الذين لا يريدونه، يهبنا معونته على الدوام وهو يدرك ما هو خفي في أعماق القلب.
إنه يرجونا وينصحنا وينهانا ويحذرنا من التصرفات الشريرة، لكنه لا يفرض علينا شيئًا قسرًا. يعرض الأدوية المناسبة، تاركًا الأمركله لقرار المريض نفسه(259)].
3. إقامة حجر شهادة
إذ قطع يشوع عهدًا للشعب في ذلك اليوم، يؤكدون التزامهم بعبادة الرب وحده بكامل حريتهم واختيارهم: "أخذ حجرًا كبيرًا ونصبه هناك تحت البلوطة التي عند مقدس الرب" [26].
يقول القديس باسيليوس: [أقام يشوع بن نون حجرًا كشاهد على أقواله، وقد سبق يعقوب فأشهد كوم حجارة على كلامه (تك 31: 47).. ولربما كان يظن أن الحجارة ذاتها تنطق بقوة الله لخزي العصاه، أو على الأقل ليخز ضمير كل فرد بقوة التحذير(260)].
يرى القديس كيريانوس أن حجر الشهادة هنا إنما تشير إلى السيد المسيح نفسه(261). لقد حدثنا الكتاب المقدس كثيرًا عن السيد المسيح بكزنه الحجر الحيّ التي تقوم عليه كنيسته(261)، هذا الذي رفضه البناؤون وقد صار حجر الزاوية.. رآه دانيالالنبي وقد صار جبلاً (دا 2: 31-35)، هذا الذي يقول عنه أشعياء النبي أن يعلن في آخر الأيام فيأتي إليه الأمم ويصعد عليه الأبرار (أش 2: 2-4).
4. موت يشوع
أُفتتح هذا السفر بموت موسى حيث بدون موته لم يكن ممكنًا العبور والتمتع بالميراث، ويُختتم هذا السفر بموت يشوع إذ بدون موته وقيامته لن يتحقق الخلاص.
لقد أعلن السفر موت يشوع ودفن عظام يوسف وموت ألعازر رئيس الكهنة، إن كان يشوع يشير إلى يسوع المخلص فبموته استراحت عظام يوسف التي طال انظارها لذلك اليوم، إذ قال يوسف لإخوته: "أن أموت، ولكن الله سيفتقدكم ويصعدكم من هذه الأرض إلى الأرض التي حلف لإبراهيم ولإسحق ويعقوب"، واستحلف يوسف بني إسرائيل قائلاً: "الله سيفتقدكم، فتصعدون عظامي إلى أرض الميراث.
وكأنه يمث الكنيسة المتغربة هنا التي لن تستريح تمامًا إلا حين تصعد أجسادنا في اليوم العظيم لتقيم حيث يشوع الجديد قائم. لكن في طبيعة جديدة تليق بالأبدية. أما موت ألعازر، الذي يعني "إلهي يعين" وهو رئيس كهنة، إنما يشير إلى أنه بموت السيد المسيح انطلق كرئيس كهنة، إلهنا الذي يعيننا بدمه، يشفع فينا لدى أبيه، مقدمًا إيانا أعضاء جسده المقدس.