تفسير الاصحاح الثالث والعشرون من سفر يشوع للقمص تادري يعقوب ملطى
تسليم الوديعة
عمل الراعي الناجح يتمركز في تسليم وديعة الإيمان حية وعملية خلال خدمته، فتتسلم الأجيال منه روح الإيمان المستقيم مترجمًا في عبادة حية ملتهبة وسلوك عملي في الرب.. وها هو يشوع في نهاية حياته يدعو جميع إسرائيل وشيوخه ورؤساءه وقضاته وعرفاءه ليسلمهم وصايا وداعية جاءت مطابقة لإيمانه وعبادته وسلوكه العملي، لذا كان لهذه الوصايا فاعليتها.. حقًا إن رسالة الكنيسة هي الحفاظ على وديعة الإيمان لتسلمه عبر الأجيال فكرًا حيًا وعبادة روحية وسلوكًا في الرب.1. تذكيرهم بأعمال الرب [1-5].
2. تذكيرهم بوصايا الرب [6-8].
3. بعث روح الرجاء [9-11].
4. تحذيرهم من النكسة الروحية [12-16].
1. تذكيرهم بأعمال الرب
"وأنتم قد رأيتم ما عمل الرب إلهكم بجميع أولئك الشعوب من أجلكم، لأن الرب إلهكم هو المحارب عنكم، أنظروا قد قسمت لكم بالقرعة هؤلاء الشعوب الباقين مُلكًا حسب أسباطكم من الأردن وجميع الشعوب التي قرضتها والبحر العظيم حتى غروب الشمس.." [3-4].
ما أجمل أن ينسى الراعي نفسه حتى في اللحظات الأخيرة من عمره، فإن يشوع لم يذكرهم بأمانته في رعايته ولا احتماله أتعابهم ولا سهره عليهم، لكنه يركز أنظارهم في الله الصانع معهم العجائب، المحارب عنهم، والمهتم بتقديم الميراث لهم.
حين يلتهب قلب الراعي بخلاص إخوته، مشتاقًا أن يراهم في المجد الأبدي أعظم منه، لا يتحدث عن نفسه بل عن عمل الله الخلاصي ليلهب كل قلب بمحبة الله، وينطلق بكل نفس نحو السماويات تشتاق أن تنال نصيبها في الميراث الأبدي.
2. تذكيرهم بوصايا الرب
كانت كلمات الرب ليشوع عند إسلامه القيادة الروحية: "تشدد وتشجع.. إنما
كن متشددًا وتشجع جدًا.. أما أمرتك: تشدد وتشجع" (1: 6، 7، 9). وبقيت هذه الكلمات الإلهية تدوي في أذنيّ يشوع وتعمل في قلبه، يرددها على لسانه ويحفظها في فكره ويحتضنها في قلبه بكونه الكنز الإلهي الذي يحرص عليه، وها هو في لحظات خروجه من العالم لا يجد أثمن من تقديم الوديعة التي تسلمها كما هي، يقدمها بلسانه كما قدمها لهم خلال حياته، إذ يقول: "فتشددوا جدًا لتحفظوا وتعملوا كل المكتوب في سفر شريعة موسى حتى لا تحيدوا عنها يمينًا أو شمالاً" [6].
إن جوهر التقليد أو التسليم المقدس أن نقدم للجيل القادم كلمة الله بلا انحراف، كما تسلمناها وعشناها، كما تسلمتها الأجيال وعاشتها بطريقة حية. ها هو يشوع يُقدم ما تسلمه من موسى، سفر الشريعة، لتبعث فيهم روح الرجاء والقوة: "تشددوا جدًا".
هنا نود أن نؤكد أن التقليد الذي نتسلمه ونسلمه ليس شيئًا جديدًا بجانب الإنجيل، إنما في جوهره هو الإنجيل المقدس معلنًا في الكتاب الذي تسلمناه في الحياة التعبدية التي نمارسها وفي السلوك العملي ومعاملاتنا مع الآخرين.
3. بعث روح الرجاء
لا يقف عمل التقليد الكنسي أو التسليم المقدس عند تسليم الكتاب المقدس منعزلاً عن الحياة الكنسية التي تشهد للإنجيل، وإنما يليق تقديمه ككتاب موحي به من الروح، حيّ وفعّال، معلنًا في حياة الكنيسة، خاصة في روحها المملوء رجاء.
هذا ما نلمسه من كلمات يشوع بن نون الوداعية، إذ يبعث في سامعيه هذا الروح الذي اختبره وعاشه، قائلا: "قد طرد الر من أمامكم شعوبًا عظيمة وقوية. أما أنتم فلا يقف أحد قدامكم إلى هذا اليوم. رجل واحد منكم يطرد ألفًا، لأن الرب إلهكم هو المحارب عنكم كما كلمتكم، فاحتفظوا جدًا لأنفسكم أن تحبوا الرب إلهكم" [9-11].
يبعث فيهمروح الرجاء خلال الخبرة التي عاشوها أن الله قد طرد من أمامهم شعوبًا عظيمة وقوية.. حسن للإنسان أن أن يذكر ضعفاته التي لا تنقطع ليسلك بروح الاتضاع، لكنه في نفس الوقت لا يكن جاحدًا لأعمال الله معه، إذ طرد من أمامه خطايا عظيمة وقوية قد سيطرت عليه زمانًا! لنشكره من أجل احساناته علينا، حتى يكمله معنا. في هذا يقول الآب مار إسحق السرياني: [ليست عطية بلا زيادة إلاَّ التي بلا شكر].
لهذا يخطئ الكثيرون حينما يعترفون بخطاياهم وضعفاتهم دون أن يعترفوا بعمل الله معهم أيضًا! في هذا يؤكد القديس أغسطينوس أنه يليق بنا أن نعترف من زاويتين: نشكر الله على احساناته ونشكو أنفسنا، على ضعفاتنا. إنه يقول: [إننا نعترف في تسبيحنا له أو في إستذنابنا لأنفسنا، وكلاهما اعترف حسن، سواء في لومنا أنفسنا نحن الذين لسنا بلا خطية أو تسبيحنا لله الذي بلا خطية(250)]. يقول القديس أمبروسيوس: [احذروا لئلا تقاوموا وصاياه، فتسقطوا فيما سقط فيه اليهود العصاه.
الذين قال لهم: زمرنا لكم فلم ترقصوا، نحنا لكم فلم تبكوا](لو 7: 32)(251). إذن لنسمع مزمار الرب المفرح فنرقص روحيًا مسبحين إياه على كثرة إحساناته، هذا الذي طرد شعوبًا من قلوبنا الداخلية، ولنسمع نحيبه على خطايانا فنبكي لكي يتحنن علينا فيطرد كل بقية شاردة في داخل نفوسنا!
إذ قدم لنا يشوع صورة واقعية لعمل الله معنا ليعبث فينا الرجاء، عاد يؤكد: "وأما أنتم فلا يقف أحد قدامكم إلى هذا اليوم" [9]. وكأنه يردد وعد الله له في بدايةعمله القيادي: "لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك" (1: 5).
كان هذا الوعد الإلهي ليشوع لكنه في الحقيقة هو وعد لكل الشعب عبر كل الأجيال.. وعد إلهي يجدد رجاءنا في الرب، الذي يدافع عنا ولا يترك لأحد سلطانًا أن يقف في وجوهنا ما لم يأخذ من فوق، كقول السيد المسيح لبيلاطس: "لم يكن لك عليَّ سلطان البتة لو لم تكن قد أُعطيت من فوق" (يو 19: 11).
ماذا يعني: "رجل واحد يطرد ألفًا، لأن الرب إلهكم هو المحارب عنكم كما كلمتكم"؟ إن كان رقم 1000 كما سبق فقلنا يشير إلى السماويات أو الروحيات، فهو هنا يشير إلى ما عبر عنه بولس الرسول: "أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف 6: 12)، فإن كنا بسبب ضعفنا إن قورنا مع إمكانيات إبليس نُحسب كواحد أمام ألف، لكن بالرب لا تقدر الألف أن تقف أمامنا بل نطردها بالرب المدافع عنا.
هذ هو إيمان اليشع النبي الذذ قال لتلميذه جيحزي حينما ارسل ملك الذين معنا أكثر من الذن معهم" (2 مل 6: 16)، وصلة اليشع وقال: "يا رب افتح عينيه فيبصر. ففتح الرب عيني الغلام فابصر وإذا الجبل مملوء خبلاً ومركبات نار حول اليشع" (2 مل 6: 17). ليتنا لا نخاف إبليس وكل جنوده لأن الرب إلهنا يحارب عنا حتى يدخل بنا إلى كمال مجده الأبدي.
حقًا إن إبليس مرهب بعنف حيله وثقل خطاياه التي تضغط على الإنسان، لكنه بلا سلطان علينا إن كنا نسلك في الرب، ونحمل في داخلنا روح الله الناري، فنحمل السلطان أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوات العدو. يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن إمكانيات المؤمن في مواجهة إبليس وإغراءاتهوعنفه، قائلاً: [إن رآك الشيطان مرتبطًا بالسماء، ساهرًا، فأنه لن يجرؤ قط أن يحدق فيك(253)، [السيرة الطاهرة تسد فم الشيطان نفسه وتبكمه(254)].
أما سر رجائنا فهو الرب إلهنا الذي لزمنا أن نرد له حب بالحب: "فاحتفظوا جدًا لأنفسكم أن تحبوا الرب إلهكم" [11].
4. تحذيرهم من النكسة الروحية
بعد أن تحدث عن الجوانب الإيجابية من كشفه عن محبة الله لهم المعلنة خلال أعماله معهم بغير انقطاع، ووصاياه الإلهية كسند لهم وسر رجائهم، صار يحدثهم من الجانب السلبي عن التزامهم بالحذر من النكسة الروحية، فتتحول نصرتهم الروحية في الرب إلى هزيمة شعة بسبب ارتباطهم بالخطايا والرجاسات عوض التصاقهم بالرب سرّ الغلبة.إنه يقول "ولكن إن رجعتم والتصقتم ببقية هؤلاء الشعوب أولئك الباقين معكم وصاهرتموهم، ودخلتم إليهم وهم إليكم، فاعلموا يقينًا أن الرب إلهكم لا يطرد أولئك الشعوب من أمامكم، فيكونون لكم فخًا وشركًا وسوطًا على جوانبهم وشوكًا في أعينكم حتى تبيدوا عن تلك الأرض الصالحة التي أعطاكم إياها الرب إلهكم" [12-13].
حين كانت هذه الشعوب برجاساتها العنيفة في كمال قوتها كان الشعب شعر بحاجته إلى رعاية الله وكان الرب محاربًا عنهم، إذ بقية الشعوب كعبيد ضعفاء في وسط يدفعون الجزية صار الخطأ محدقًا، حيث يدخلون معهم في علاقات زوجية فينحرف المؤمنون عن عبادة الله إلى الوثنية رجاساتها.
على هذا النحو نقول حين تهاجم الخطية إنسانًا بكل عنفها يلجأ الإنسان إلى الله فيحمل سلطانًا عليها، لكنها حيت تتسلل إليه متذللة تدخل خلال الضعف إلى قلبه كأمور بسيطة بلا سلطان، غالبًا ما ينخدع الإنسان ويفقد إمكانيات الله الغالبة! لنخف من الخطايا التي نُخالها بسيطة وهينة فإنها أكثر قدرة على أسر النفس مما نظنها كبيرة وحسيمة! ليتنا إذ نطرد بالرب الرجاسات لا نترك لها بقيو في القلب تخاتلنا وتخدعنا، فتحسب قلبنا عن الله، وتفقدنا سر حياتنا!
إذ نقبل الخطية وندخل معها في علاقات أشبه لالعلاقات الزوجية، يسلمنا الله نفسه لها لإذلالنا فتكون شهوة قلوبنا هي بعينها سرّ تحطيمنا. تكون لنا فخًا وشركًا نسقط فيه، ففيما نظن أننا ننال شيئا إذا بنا تحت الأسر، داخل الفخاخ لا قوة. وفيما نظن أنها تقدم لنا لذة وفرحًا إذ بها كالسياط تنزل على جوانبنا فلا نعرف الراحة على جنبنا اليمين أو اليسار، أخيرًا فإنها كالشوك في الأعين تفقد الإنسان بصيرته الروحية، وتنزع عنه معاينة النور الإلهي الداخلي.. إنها لا تتركنا حتى نبيد عن الأرض الصالحة التي وهبنا لله إياها، أي نفقد كل صلاح في الجسد، ونخسر كل طاقاته وأحاسيسه!
ولكي يشجعهم الرسول على الجهاد ليثبتوا فيما نالوه من أرض صالحة وتحطيم كل بقية باقية من الرجاسات، يقول لهم: "ها أنا اليوم ذاهب في طريق الأرض كلها" [14]. وكأنه يقول لهم إن الأيام المقصرة، ونحن جميعًا سنعبر من هذا العالم.. هذا هو طريق الأرض كلها. الشعور بالغربة يسند النفس في جهادها، إذ ندرك زوال كل شهوة ونهاية كل أمر زمني، فلا تعمل لحساب حياتنا الزمنية بقدر ما تعتم بخلاص نفسها والتمتع الباقية إلى الأبد. لهذا يقول القديس يوحنا الدرجي: [يقول أحدهم أنه لا يمكن أن نصرف يومًا واحدًا في عبادة صادقة ما لم نعتبرة نهاية حياتنا كلها(255)].