تفسير الاصحاح الثالث عشر من سفر يشوع للقمص تادري يعقوب ملطى
التقسيم شرق الأردن
ختم الوحي الإلهي الفصل السابق بتحديد الأراضي التي استولى عليها الشعب سواء تحت قيادة موسى أو يشوع، مظهرًا الملوك الذين طُردوا أو قتلوا لكي يحتل يشوع مواقعهم إشارة إلى تحول مملكة إبليس التي إِغتصبها في قلوبنا إلى مملكة يشوع الحقيقي، والآن إذ شاخ يشوع بدأ يُقسم الأراضي على الأسباط، مبتدئًا بتقسيم شرق الأردن بين السبطين ونصف:
1. شيخوخة يشوع [1].
2. الأرض الباقية للإمتلاك [1-6].
3. التقسيم بالقرعة [6-7].
4. نصيب السبطين ونصف [8-33].
1. شيخوخة يشوع
"وشاخ يشوع، تقدم في الأيام، فقال له الرب: أنت قد شخت. تقدمت في الأيام" [1].
إن كان يشوع رمزًا ليسوع المسيح، فلماذا قيل عن يشوع أنه قد شاخ وتقدم في الأيام، مع أن رب المجد يسوع لم يشخ قط؟ يمكننا أن نفهم الشيخوخة من جانبين:
أولاً: الشيخوخة بمعنى تقدم الأيام، ودخول الإنسان في حالة من القدم والضعف والعجز تنتهي بموته، هذه هي شيخوخة العجز التي لم تصب رب المجد يسوع، فإنه صعد وهو بعد رجل ناضج من جهة الجسد، حتى إِذ تتحد به كنيسته وتحمل سماته لا تحمل في داخلها شيخوخة روحية أو ضعفًا روحيًا.
إنها كعريسها تحمل نضوجًا لا يشيخ، يُجدد مثل النسر شبابها. بمعنى آخر المسيحي الحق، وإن شاخ في الجسد وضعف لكنه يبقى في روحه وقلبه شابًا حيًا بلا ضعف في المسيح يسوع الذي لا يشيخ.
ثانيًا: الشيخوخة بمعنى الحكمة.. "حكمة الشيوخ"، وهي لا ترتبط بالسن وإنما بنضوج الفكر والروح. لقد عاش آدم سنين طويلة على الأرض، لكنه بسبب إنحداره إلى إنحداره إلى الخطية لم ينل لقب "شيخ" ولا قيل عنه أنه "متقدم في الأيام"، لأنه لم يستفد من أيامه وإنما خسرها. أول من تمتع بهذا اللقب هما إبراهيم وسارة زوجته، إذ قيل "وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدمين في الأيام" (تك 18: 11) وذلك عندما استضافا كلمة الله والملاكين في خيمتهما، فصارت حياتهما سماء يقطن فيها الله وملائكته، تأهلا لينال الوعد بإسحق رمز المسيح يسوع.
وكأن الإنسان يصير بحق شيخًا ومتقدمًا في الأيام حينما يحمل في داخله الطبيعة السماوية، يستضيف الله ليملك فيه وينفتح على السمائيين كأحباء له! هنا أيضًا إذ يبدأ أيضًا يشوع في تقسم أرض الميراث، وكأنه خلال الرمز يقدم الميراث السماوي للمؤمنين، عندئذٍ يُقال عنه أنه شيخ ومتقدم في الأيام. في هذا يرمز يشوع ليسوع المسيح، ليس كشيخ في عجز، إنما كحكمة الله الذي يهبنا فيه الميراث الأبدي.
وللعلامة أوريجانوس تعليق جميل على عبارة "شاخ.. وتقدم في الأيام"، إذ يقول: [هنا نجد الروح القدس هو الذي يعلن أن يشوع شيخ ومتقدم في الأيام.. عبارة لا يمكن تطبيقها على خاطئ، لأن الخاطئ غير متقدم في الأيام، إذ لا يفعل هذا: ينسى ما هو وراء ويمتد إلى ما هو قدام (في 3: 13)، وإنما على الدوام ينظر إلى الوراء (لو 9: 62)، لهذا فهو لا يصلح لملكوت الله (لو 9: 62). على العكس إذ نمتد إلى قدام ساعين نحو الكمال نكون متقدمين في الأيام[207]].
إن هذا اللقب الذي أُعطي ليشوع بن نون من الرب نفسه إنما هو بمثابة شهادة تكريم له، علامة إمتداده إلى قدام لا لينعم بالميراث فحسب وإنما ليقدم الميراث للآخرين. إنه ليس فقط يحمل الطبيعة السماوية إنما يقدمها لإخوته وأولاده.
هذا ومن جانب آخر فإن يشوع صار متقدمًا في الأيام، لأنه كرمز ليسوع شمس البر، كان في كل تصرف تشرق الشمس عليه فتعطيه يومًا جديدًا مقدسًا مليئًا بالأعمال المجيدة، وكأنه يقتني هذه الأيام الروحية العاملة بالرب لتصير لحسابه، فيدعى بالمتقدم في الأيام.
2. الأرض الباقية للإمتلاك
يقول الرب ليشوع: "قد بقيت أرض كثيرة جدًا للإمتلاك" [1].
كيف يقول الكتاب: "استراحت الأرض من الحرب" (يش 11: 23)، ليعود فيقول: "بقيت أرض كثيرة جدًا للإمتلاك"؟ الأرض التي وطأها يشوع بقدميه ملك عليها طاردًا المقاومين لتستريح من الحرب.
إنها جماعة المؤمنين التي قبلت دخول السيد المسيح إلى حياتهم الروحية والجسدية، فغفر كل خطاياها، وأعطاها سلامًا مع الآب، بل وسلامًا مع بعضهم البعض، وسلامًا داخل الإنسان نفسه بين الروح والجسد بتقديس الكل! هذه هي الراحة الحقيقية التي صارت لكل مؤمن حقيقي في علاقته بالله أبيه وإِخوته البشريين بل وفي علاقته حتى بجسده ومشاعره وأحاسيسه الداخلية.. إنه ينعم براحة فائقة في المسيح يسوع.
أما الإعلان عن وجود أرض كثيرة جدًا للإمتلاك، فهذا أمر طبيعي لأن أرض كثيرة لم يكن بعد قد دخلها يشوع.. لا يزال حتى الآن يوجد ملحدون كثيرون لم ينعمون بدخول الرب إلى حياتهم ليملك فيهم. يؤكد المرتل أنه يجب أن يملك السيد المسيح، قائلاً: "كل الأمم تتعبد له" (مز 72: 11)، وأيضًا: "ويملك من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض، أمامه تجثو أهل البرية" (مز 72: 8-9).
يمكننا أيضًا أن نقول أن السيد المسيح - يشوع الحقيقي- إذ إِرتفع على الصليب دخل الجحيم ليملك على الذين ماتوا على الرجاء منطلقًا بهم إلى فردوسه، بهذا نفهم العبارة: "استراحت الأرض من الحرب". لقد غلب المسيح الرأس نيابة عن البشرية كلها بصليبه.
لكن هذه الغلبة إنما هي الإمكانية التي قُدمت للكنيسة عبر الأجيال لكي بغلبته تغلب، وبنصرته تحطم الجحيم وتنطلق بكل نفس إلى الفردوس.. بهذا نفهم العبارة الثانية: "قد بقيت أرض كثيرة جدًا للإمتلاك". لقد ملك الرب حين كان بالجسد على الأرض، ولا يزال يملك وهو قائم وسط كنيسته عبر الأجيال مقدمًا النصرة للمؤمنين، فاتحًا باب الخلاص لكل الأجيال.
3. التقسيم بالقرعة
"إنما أقسمها بالقرعة لإسرائيل ملكًا كما أمرتك" [6].
أُستخدمت القرعة في الكتاب المقدس في العهدين القديم والجديد، ولم تكن تُمارس كحظ يُصيب الإنسان كيفما كان، وإنما تُمارس بعد صلوات مرفوعة لله، لكي تتوقف الإرادة البشرية وتنتظر الإرادة الإلهية. وينتقد العلامة أوريجانوس[208]. رجال عهده، أي رجال القرن الثاني الميلادي، لأنهم لا يستخدمونها في سيامات الأساقفة والكهنة والشمامسة، مقدمًا من العهدين دلائل على إستخدامها.
أولاً: في العهد القديم: جاء في سفر اللاويين "ويلقي هرون على التيسين قرعتين، قرعة للرب وقرعة لعزازيل، ويقرب هرون التيس الذي خرجت عليه القرعة للرب ويعمله ذبيحة خطية، وأما التيس الذي خرجت عليه القرعة لعزازيل فيوقف حيًا أمام الرب ليكفر عنه ليرسله إلى عزازيل إلى البرية" (لا 16: 8-10). واستخدامها يشوع عند تقسم الأرض الذي أعطاها الرب لشعبه.
وفي سفر يونان إذ شعر الملاحون بالعجز التام عن التصرف صرخوا إلى آلهتهم وأخيرًا ألقوا قرعة، فعرفوا أنه بسبب يونان كانت هذه البلبلة (يونان 1: 7). وجاء في سفر الأمثال: "القرعة تبطل الخصومات وتفضل بين الأقوياء" (أم 18: 18)، وكأن إلقاء القرعة بين الأقوياء روحيًا يكشف عن الحق وينزع من بينهم كل خصومة أو إختلاف في الرأي.
ثانيًا: في العهد الجديد: إذ كان يجب إقامة واحد عوض يهوذا كرسول للرب، "أقام (الرجال) إثنين يوسف الذي يدعى بارسابا الملقب يوستس ومتياس، وصلوا قائلين: "أيها الرب العارف قلوب الجميع عيّن أنت من هذه الإثنين أيا اخترته ليأخذ قرعة هذه الخدمة والرسالة الذي تعداها يهوذا ليذهب إلى مكانه، ثم ألقوا قرعتهم فوقعت القرعة على متياس فحُسب مع الأحد عشر رسولاً" (أع 1: 23-26).
ويعلق العلامة أوريجانوس على ذلك بقوله: [إستخدام الرسل لها يبين أنه إذا استخدمناها بإيمان مطلق مع الرجوع إلى الصلاة، فإنها تكشف للناس عن إرادة الله الخفية بوضوح[209]]. لكن البعض يفترض بأن ذلك إنما تم قبل حلول الروح القدس الذي يُعطي الكنيسة روح التمييز وإدراك إرادة الله بالصلاة مع الحياة المقدسة دون الحاجة إلى قرعة، كما حدث في إِختيار الشمامسة (أع 9: 2-3) [210]].
لعل الله سمح باستخدام القرعة في تقسم الأرض حتى لا تتدخل العوامل الشخصية في التوزيع، لكي لا يشعر أحد الأسباط أن ما ناله هو بفضل إنسان، إنما هو هبة من الله نفسه، عطية الله المجانية، فلا يمكن لعظيم أو صغير أن يذل سبطًا بأنه قد وهبه شيئًا من عندياته.
4. نصيب السبطين والنصف
لم يكن ممكنًا للسبطين والنصف - الذين يمثلون رجال العهد القديم - أن يرثوا
قبلنا، وإنما يستلمون الميرث من يد يشوع نفسه، كما يقول الرسول بولس: "فهؤلاء كلهم مشهودًا لهم، بالإيمان لم ينالوا الموعد إذ سبق الله فنظر لنا شيئًا أفضل لكي لا يكملوا بدوننا" (عب 11: 39-40).
لقد تحدد ميراثهم في أيام موسى، لكنهم عبروا يحاربون مع بقية الأسباط حتى يملك الكل معًا في الوقت المحدد، حين يشيخ يشوع وتستريح الأرض من الحرب. في هذا - كما يقول العلامة أوريجانوس- [إشارة إلى جهاد أحبائنا الراقدين معنا خلال الصلاة عنا حتى نرث جميعًا [211]].
المراجع:
[207] In Jos hom. 16:1.
[208] Ibid 23:2.
[209] Ibid.
[210] الحب الرعوي: ص 233، 234.
[211] In Jos. Hom. 16: 5.