تفسير الاصحاح الثامن من سفر التكوين للقمص تادري يعقوب ملطى
خلاص نوح بالفلك :
إذ غرق العالم القديم بمياه الطوفان قام العالم الجديد ممثلاً في أشخاص نوح وعائلته. لقد اهتم الله نفسه بخلاصهم وتجديد الأرض وقبل ذبيحة الإنسان رائحة رضا ليدخل معه في عهد جديد.١. اجتياز ريح على الأرض : ١-٥
٢. إرسال غراب وحمامة : ٦-١٢
٣. كشف الغطاء عن الفلك : ١٣-١٤
٤. خروج نوح إلى الأرض الجديدة : ١٥-١٩
٥. إقامة نوح مذبحًا للرب : ٢٠ -٢٢
١. اجتياز ريح على الأرض:
"ثم ذكر الله نوحًا وكل الوحوش وكل البهائم التي معه في الفلك،وأجاز الله ريحًا على الأرض فهدأت المياه..
وفي العاشر في أول الشهر ظهرت رؤوس الجبال" [١، ٥].
إن كان الله قد أغلق على نوح فهو لا ينساه وسط المياه، إنما كالفخاري الذي يترقب الإناء الطيني داخل الفرن، يخرجه في الوقت المناسب إناءً للكرامة. من أجل نوح البار تفجرت ينابيع الغمر وانفتحت طاقات السماء لكي تغسل له الأرض وتجددها، فينعم بعالم جديد عوض القديم، ومن أجله أغلق عليه الرب حتى يكون محفوظًا من كل التيارات المحيطة به، ومن أجله أيضًا أرسل ريحًا على الأرض. نحن نعلم أن كلمة "ريح" وكلمة "روح" في العبرية هما كلمة واحدة.. وكأن الله وسط مياه المعمودية يهب بروحه القدوس لتقديس أرضنا، فنتهيأ كأعضاء لجسد السيد المسيح ونصير هيكلاً لروحه القدوس. يقول القديس أكليمنضس الاسكندري: [أن المربي يخلق الإنسان من تراب ويجدده بالماء وينميه بالروح[187]].
الآن إذ هدأت المياه ورجعت استقر الفلك في اليوم السابع عشر من الشهر السابع على جبل أراراط بأرمينيا، أسمه مشتق من الكلمة الأكادية "أرارطو" وتعني "مكان مرتفع"، ولعلها القمة التي تدعى حاليًا بالتركية "أغرى داع" أي "جبل شاهق" يبلغ ارتفاعها ١٦٩١٦ قدمًا فوق سطح البحر.
في اليوم الأول من الشهر العاشر بدأت تظهر رؤوس الجبال الأقل ارتفاعًا إن كان رقم ١٠ يشير إلى الناموس فإذ يبدأ الإنسان حياته بالوصية (الناموس الروحي) تظهر في داخله رؤوس جبال الفضيلة التي سبقت فتغطت واختفت بسبب خطايانا. إن كان الفلك أي السيد المسيح يستقر في داخلنا كما على جبل أراراط، جبله الشاهق الصلد، فإنه يتجلى في داخلنا وتتراءى الحياة التقوية في أعماقنا كرؤوس جبال حية حينما نقبل ناموسه الروحي فنكون كمن في اليوم الأول من الشهر العاشر.
٢. إرسال غراب وحمامة:
مضى أربعون يومًا على ظهور رؤوس الجبال، عندئذ فتح نوح طاقة الفلك التي كان قد عملها وأرسل غرابًا، فكان الغراب مترددًا [٧]، ينطلق إلى حيث الجيف النتنة ليعود مرة أخرى إلى الفلك يقف خارجه، وهكذا كان يراه نوح مترددًا. عان نوح فأرسل حمامة وإذ لم تجد مقرًا لرجلها رجعت إليه إلى الفلك [٩]، فمد يده وأخذها عنده فلبثت أيضًا سبعة أيام وعاد فأرسلها فجاءته عند المساء معها ورقة زيتون خضراء في فمها. وبعد سبعة أيام أخر أرسلها فلم ترجع إليه.إن كان الفلك يشير إلى الكنيسة، فقد وجد فيه الغراب والحمامة، وكما يقول القديس أغسطينوس: [لقد أرسل نوح هذين النوعين من الطيور، كان لديه الغراب والحمامة أيضًا.. إن كان الفلك هو الكنيسة فبالحقيقة تُرى خلال طوفان العالم الحاضر وقد ضمت بالضرورة النوعين: الحمامة والغراب. ما هي الغربان؟ الذين يطلبون ما لذواتهم. ما هو الحمام؟ الذين يطلبون ما هو للمسيح (في ٢: ٢١)[188]]
الغراب يشير إلى الخطية التي يجب أن تُطرد، تنطلق فلا تعود تدخل إلى الفلك؛ بل تبقى مترددة بين الجيف الفاسدة والفلك من الخارج، ولا يمد نوح يده ليدخلها عنده كما فعل مع الحمامة. يقول القديس أمبروسيوس: [الغراب هو رمز الخطية التي تذهب ولا ترجع، إذ حُفظ فيكم البر في الداخل والخارج[189]]. كما يقول القديس چيروم: [أُرسل الغراب من الفلك ولم يرجع، وبعده أعلنت الحمامة السلام للأرض؛ هكذا في عماد الكنيسة يُطرد الشيطان، أدنس أنواع الطيور، وتعلن الحمامة الروح القدس السلام لأرضنا[190]]. كما يقول: [إذ سقط العالم في الخطية لا يقدر أن يغسله من جديد إلاَّ مياه الطوفان. طارت حمامة الروح القدس نحو نوح بعد أن خرج الغراب بعيدًا، وصار كما لو كانت متجهة نحو المسيح في الأردن (مت ٣: ١٦). جاءت تحمل في منقارها غصنًا يرمز للإصلاح والنور، لتبشر للعالم كله بالسلام[191]].
إن كان الغراب وجد له طعامًا ومستقرًا على الجيف الفاسدة، لكن الحمامة (النفس المؤمنة) لا تستريح إلاّ في يدي نوح.. خرجت من الفلك ثلاث مرات:
أ. في المرة الأولى لم تجد لرجلها مقرًا، إشارة إلى النفس الملتهبة بالروح القدس – الحمامة السماوية – التي لا يمكن أن تستقر أو تستريح على الجيف الفاسدة. إنها منجذبة في غربتها نحو الفلك، تجد يد مسيحها ممتدة لتحملها في حضنه كموضع راحة.
ب. في المرة الثانية خرجت إلى العالم لتعود تعلن سلام المسيح خلال العالم الجديد، بعد اختفاء الجيف ونزع الفساد بظهور الحياة الجديدة في المسيح يسوع. يرى القديس أغسطينوس في غصن الزيتون رمزًا للسلام من جوانب كثيرة منها أن شجرة الزيتون دائمة الاخضرار وكأنها تمثل الإنسان المملوء سلامًا لا تفقده العواصف اخضراره؛ ومن جانب آخر فإن زيت الزيتون متى سكب عليه سائل آخر كالماء ليس لا يفسد بل يطفو على الماء دون أن يمتزج به، وكأنه بالإنسان الذي متى صدمته مياه التجارب يعلو عليها ويطفو فوق الضيق.
ج. في المرة الثالثة خرجت من الفلك ولم تعد لا لتترك نوحًا وإنما إشارة لانطلاق الموكب كله إلى الأرض الجديدة، وكأنها تمثل الإنسان وقد انطلق إلى الأبدية كحياة جديدة، فلا يعود بعد بالجسد داخل الكنيسة المنظورة على الأرض، وإنما وهو عضو فيها انطلق إلى حيث يلتقي الموكب كله على السحاب ويدخل إلى الأمجاد.
٣. كشف الغطاء عن الفلك:
"فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر وإذا وجه الأرض قد نشف" [١٣]. كان ذلك في السنة الواحدة والستمائة من عمر نوح، في اليوم الأول من الشهر الأول.. وكأن نوحًا ينهي الستمائة عامًا من عمره ليبدأ القرن السابع من عمره بكشف غطاء الفلك والتطلع إلى الأرض الجديدة من خلال الفلك. بهذا يشير إلى السيد المسيح – نوح الحقيقي– قائد الكنيسة والحال في وسطها لنياحتها، يعمل الأيام الستة (٦) من أجل خلاص قطيعه المئة (لو ١٥: ٤) كل أيام تغرب الكنيسة (٦ × ١٠٠ = ٦٠٠)، حتى متى انقضى الزمن وجاء اليوم السابع الذي هو يوم الراحة ينزع الرب كل غطاء لنلتقي معه وجهًا لوجه. وكما يقول الرسول بولس: "فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز، لكن حينئذ وجهًا لوجه؛ الآن أعرف بعض المعرفة، لكن حينئذ سأعرف كما عُرفت" (١ كو ١٣: ١٢). هكذا مع كل ما تمتع به الرسول هنا من إعلانات إلهية وشركة مع الله وتذوق للحياة السماوية، حسب نفسه في هذا كله كمن هو في مرآة أو في لغز إن قورن بما يناله في اللقاء الأبدي مع الله وجهًا لوجه. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن كان الله يسرع إلينا الآن لكي نلتصق به وعندئذ نعرف الكثير من الأمور التي تُحسب الآن سرًا، وننعم بالحياة المطوبة جدًا والحكمة[192]].٤. خروج نوح إلى الأرض الجديدة:
في اليوم السابع والعشرين من الشهر الثاني جفت الأرض تمامًا وصدر الأمر لنوح أن يخرج، وكان ذلك بعد ثمانية أسابيع من رفع الغطاء عن الفلك، وفي ختام الأسبوع الثالث والخمسين من بدء الطوفان. فيما يلي جدول مبسط لأحداث الطوفان.٥. إقامة نوح مذبحًا للرب:
أول ما صنعه نوح بعد خروجه من الفلك هو إقامة مذبح للرب على الأرض الجديدة التي غسلتها مياه الطوفان، وكأن الكنيسة لا تقدر أن تقدم ذبيحة السيد المسيح (الأفخارستيا) إلاّ بعد التمتع بالمعمودية. لهذا السبب أيضًا نجد الكتاب المقدس للمرة الأولى يعلن عن إقامة مذبحًا للرب، وإن كان بلا شك قد قدمت ذبائح للرب منذ الخروج من الفردوس..أعلن الله رضاه على الإنسان بعد أن تنسم رائحة سرور خلال ذبيحة المصالحة، مؤكدًا أنه لا يعود يهلك البشرية معًا بسبب ضعفها. عجيب هو الله في صفحه وعفوه!
بدأت الحياة الجديدة بالعبادة خلال الذبيحة كما خلال الصليب، فانتزعت اللعنة عن الأرض [٢١].. وعندئذ صار الإنسان يعمل لاحتياجاته اليومية.
أخيرًا ما قدمه نوح كان رمزًا لعمل السيد المسيح الذبيحي في كنيسته، وكما يقول الكاهن: [الذي أصعد ذاته ذبيحة مقبولة على الصليب عن خلاص جنسنا، فاشتمّه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة[193]].
المراجع :
"اضغط علي الرقم للعودة الي اعلى"
[187] للمؤلف: الحب الإلهي، ص ٨٦٦.
[188] In Ioan. Tr. 6: 2.
[189] In Mystr. 3.
[190] Dial. adv. Lucif 22.
[191] Ep. 96: 6.
[192] In 1 Cor. hom 34: 2.
[193] رفع البخور (القداس الإلهي).