تفسير الاصحاح الثلاثون من سفر التكوين للقمص تادري يعقوب ملطى
صراع في حياة يعقوب
إن كان يعقوب قد دخل مع أخيه عيسو في صراع وهما بعد في الأحشاء (٢٥: ٢٢)، فقد قضى حياته كلها سلسلة لا تنقطع من الصراعات، فقد صارع مع عيسو واختلس منه البكورية والبركة، والآن هذا هو في أرض الغربة يعيش في جو عائلي مملوء صراعًا بين زوجتيه ليئة وراحيل، ويدخل في صراع مع أبيهما بسبب أجرته، ويبقى هكذا كل حياته مصارعًا. ١. صراع بين ليئة وراحيل : ١-٢٤٢. يعقوب يطلب أجرته: ٢٥-٤٣
١. صراع بين ليئة وراحيل:
إذ كانت ليئة ضعيفة العينين، أكبر سنًا من راحيل وأقل منها جمالاً أعطاها الرب أولادًا حتى ينزع كراهية يعقوب لها (٢٩: ٣١)، الأمر الذي أثار غيرة راحيل أختها فقالت لرجلها: "هب لي بنين وإلاَّ فأنا أموت" [١]. فتمررت نفس يعقوب إذ يود رضى راحيل التي يحبها، وها هي تطلب منه ما لا يستطيع، لذا في غضبه قال: "ألعلي مكان الله الذي منع عنك ثمرة البطن" [٢]. وإذ قدمت له جاريتها بلهة لينجب لها بنينًا خلالها دخل في صراعات مستمرة بين راحيل وليئة.. كل منهما تود أن يكون لها بنين أكثر من الأخرى. أما سر الصراع فهو:أولاً: ربما سمعت الزوجتان من يعقوب الكثير عن وعود الله لإبراهيم وإسحق ويعقوب وما يتمتع به نسلهم من ميراث لأرض الموعد وبركة بمجيء المخلص من نسلهم، فكان الصراع يقوم على أساس شوق كل منهما أن يحظى نسلها بالوعد الإلهي، ويتحقق فيه المواعيد الزمنية والروحية.
ثانيًا: من جانب ليئة كانت تشعر أنها مكروهة، وأن يعقوب رجلها من حقها وحدها، لكن راحيل اغتصبت قلبه، فتشعر أن كثرة البنين يفتح قلب رجلها نحوها. هذا ما ظهر واضحًا عندما طلبت راحيل من ليئة أن تعطيها من لفاح ابنها [١٤] إذ أجابتها: "أقليل انك أخذتِ رجلي فتأخذين لفاح وبني أيضًا؟!" [١٥].. وكأن ليئة كانت تشعر بأن راحيل أخذت منها رجلها. ويبدو أن يعقوب كان قد هجر ليئة إلى حين إذ قبلت أن تعطي راحيل لفاح ابنها رأوبين مقابل ترك يعقوب ليلة، كطلب راحيل نفسها [١٥]. أما موضوع اللفاح الذي وجده رأوبين في الحقل وجاء به إلى أمه [١٤] فهو نبات يسمى "تفاح الجن" أو "تفاح المحبة"، شكله كالتفاح يسمى أيضًا "اليربوح" وكان الاعتقاد سائدًا أنه يجلب محبة الزوج لزوجته إذا أكلت منه.
ثالثًا: من جهة راحيل فقد امتلأت من جهة أختها التي أنجبت أربعة بنين بينما هي عاقر.. وقد سمح الله بعقر راحيل ليعطي فرصة لانفتاح قلب يعقوب من جهة ليئة، ولتكون رمزًا لكنيسة العهد الجديد التي جاءت من الأمم الذين كانوا قبلاً بلا ثمر روحي، وقد وهبها أبناء، إذ يقول الكتاب: "وذكر الله راحيل وسمع لها الله وفتح رحمها، فحبلت وولدت أبنًا فقالت: قد نزع الله عاري، ودعت أسمه يوسف قائلة: يزيدني الرب أبنًا آخر" [٢٢-٢٣]. صارت رمزًا لكنيسة العهد الجديد التي أنجبت يوسف، ويعني "نمو" أو "زيادة" إذ تطلب حياة النمو بلا انقطاع، وتشتاق أن تثمر على الدوام!
وفي وسط هذا الصراع المرّ بين راحيل وليئة بلا شك تمررت نفس يعقوب محاولاً الرضاء بين الطرفين، فعرف مرارة نفس أخيه الذي صارع معه ليأخذ منه البكورية والبركة.. وهنا لا ننكر الأخطاء التي ارتكبتها راحيل في صراعها حتى أنجبت يوسف، ألا وهي:
أولاً: سقطت راحيل في اليأس عوض إلقاء رجائها على الله، وطلبت من رجلها ما هو من حق الله وحده إذ قالت له: "هب لي بنين وإلاَّ فأنا أموت" [١]، كأنها تقول له: هب لي بنين وإلا فأحسب كميته.. ما فائدة حبل لي وأنا بلا نسل أو أبن يرثنا؟!
ثانيًا: تسرعت راحيل فألزمت رجلها أن ينجب لها خلال جاريتها ففتحت لنفسها مجالاً للصراع من جديد مع أختها ليئة وجاريتها هي أيضًا.
ثالثًا: اتكلت على المعتقدات العامة الخاطئة، فظنت في أكل اللفاح ما يجلب حب رجلها لها، ربما لأنها خشيت أن يتركها رجلها إن شاخت ولم تنجب له بنين!
أخيرًا يبدو أنها ألقت رجاءها على الله عندما فشلت الطرق البشرية البحتة خارج دائرة الإيمان، عندئذ فتح الله رحمها ووهبها أبنًا دعته: "يوسف" أي "النمو" أو "الزيادة"، واثقة في الله الذي يعطي ولا يتوقف.
فيما يلي بيان بأبناء يعقوب ومعنى أسمائهم وعلة التسمية:
هكذا بدأ نسل يعقوب بالبكر جسديًا رأوبين الذي يعلن أن الله رأى مذلتنا فوهبنا ثمرًا، ويظل يهبنا حتى ننعم ببنيامين، أي نبلغ خلال الألم إلى يمين الله شركاء في المجد الأبدي.
وقد لاحظ بعض الآباء على أبناء يعقوب الآتي:
أولاً: جاء الترتيب هنا بحسب السن، فبدأ بالبكر جسديًا وانتهى بالأصغر بنيامين، أما في التعداد الوارد في سفر الرؤيا فجاء الترتيب هكذا: أبناء ليئة فأبناء راحيل ثم أبناء الجاريتين دون التزام بتاريخ ميلادهم. وكأن الله أراد أن يؤكد أن الأمجاد الإلهية لا تُعطي بحسب السن إنما حسب النمو الروحي والاتحاد العملي مع الله[384].
ثانيًا: رأى بعض الآباء أن لأثنى عشر أبنًا كان لهم أخت واحدة "دينة" من ليئة [٢١]، أو على الأقل لم يذكر الكتاب سواها، فإن كان الأبناء الذكور يشيرون إلى ثمر الروح فإن الابنة تشير إلى ثمر جسدي. دينة هذه وهي وحيدة بسببها دخل يعقوب وأولاده في صراع مع أهل شكيم (ص ٣٤)، وكأن الجسد ما لم يضبط ويتقدس يفسد سلام الروح ويفقدها ثمرها المتكاثر.
٢. يعقوب يطلب أجرته:
ما أنجبت راحيل حتى بدأ شيء من الاستقرار العائلي بين الزوجتين، فصارت ليئة تشعر باقتران رجلها بها بسبب كثرة البنين وراحيل قد انطفأت غيرتها بهذا الابن "يوسف". هنا بدأ يعقوب يفكر في العودة إلى أرض كنعان، قائلاً للابان خاله: "اصرفني لأذهب إلى مكاني وإلى أرضي، أعطني نسائي وأولادي الذين خدمتك بهم فأذهب، لأنك أنت تعلم خدمتي التي خدمتك" [٢٦]. كانت هذه الكلمات تحمل عتابًا حازمًا ورقيقًا في نفس الوقت، فقد قضى ١٤ سنة يخدمه ليتزوج بنتيه، وحوالي ست سنوات لا يأخذ شيئًا سوى طعام زوجتيه وأطفاله، والآن يخرج ومعه إحدى عشر أبنًا وأيضًا ابنة ومعه زوجتاه لا يملك شيئًا من الغنم.كان لابان يدرك بركة الرب العاملة في بيته بسبب يعقوب، إذ يقول له: ليتني أجد نعمة في عينيك، قد تفاءلت فباركني الرب بسببك" [٢٧]. "وقال: عين لي أجرتك فأعطيك" [٢٨]. هنا طلب يعقوب أن تكون له كل شاه بلقاء (أي تكون النقط السوداء والبيضاء منتشرة بالتساوي تقريبًا) ورقطاء (أي سوداء يشوبها نقط بيضاء) وسوداء، وأيضًا كل معزى بلقاء ورقطاء.. وهذه الأصناف كانت قليلة في الشرق، فاختار لنفسه القليل ليترك الكثير للابان.
إذ أفرز يعقوب ما اتفق عليه مع لابان وصار بين قطيعه وقطيع خاله "مسيرة ثلاثة أيام" [٣٦]، أي حوالي ٤٠ ميلاً. هذا يكشف مدى الغنى الذي وصل إليه لابان حتى اضطر الأمر إلى عزل القطيعين كل هذه المسافة، هذا الذي لم يكن يملك إلا قطيعًا صغيرًا تقوده أبنته الصغرى راحيل لتسقيه في يوم مجيء يعقوب من بيت أبيه.
كان لكي يغتني يعقوب يلزمه أن يعتزل خاله مسيرة ثلاثة أيام، وكما سبق فقلنا أن الثلاثة أيام تشير إلى شركة القيامة مع السيد المسيح القائم في اليوم الثالث[385]، وكأنه لكي ينعم الرب بالبركة يلتزم أن يمارس الحياة المقامة أو الحياة الجديدة التي له في المسيح يسوع الذي يحرم منها لابان.
إن كان يعقوب قد استخدم مكرًا بوضع القضبان المخططة من نباتات اللبني (وهو نبات له لبن كالعسل يسمى الميعة) واللوز والدلب (ويسمى بالعبرية عرمون وهو نبات يوجد في السهول وعلى شواطئ الأنهار) عندما يأتي القطيع ليشرب متى كان القطيع سمينًا وقويًا أو في فترة الربيع حيث المراعي الغنية، لكي في وحمها تنجب أغنامًا رقطاء وبلقاء.. فإن سر غناه الحقيقي هو بركة الرب.
لنخرج خارج محبة العالم ملتصقين بالرب القائم من الأموات فنكون كيعقوب الذي أنطلق مسيرة ثلاثة أيام، فقيل عنه: "فاتسع الرجل جدًا، وكان له غنم كثير وجوار وعبيد وجمال وحمير" [٣٤]. بالحياة الجديدة التي لنا في المسيح يسوع يكون لنا غنى روحي وفيض بتقديس حواسنا وعواطفنا ومواهبنا وكل طاقاتنا لحساب مملكته!
المراجع :
[384] سفر العدد، ١٩٨١، ص ١٦.
[385] راجع تفسير تك ٢٢: ٤.