تفسير الاصحاح الثالث من سفر التثنية للقمص تادري يعقوب ملطى
النصرة على عوج ملك باشان
بعد أن ذكر موسى النبي النصرة على سيحون ملك الأموريين تحدث هنا عن النصرة على عوج ملك باشان، وتقسيم أرضه بين السبطين ونصف السبط. وكيف تضرع موسى إلى الرب لكي يدخل أرض كنعان، لكن الله سمح له بالصعود على جبل نبو لكي ينظر الأرض دون أن يدخلها.
لقد ارتبطت النصرة على عوج بالنصرة على سيحون، كلاهما لمجد الله. وكما يقول المرتل: "الذي ضرب أممًا كثيرة، وقتل ملوكًا أعزاء. سيحون ملك الأموريين، وعوج ملك باشان، وكل ممالك كنعان، وأعطى أرضهم ميراثًا. ميراثًا لإسرائيل شعبه" (مز 125: 10-12). وأيضًا: "الذي ضرب ملوكًا عظماء لأن إلى الأبد رحمته، وقتل ملوكًا أعزاء، لأن إلى الأبد رحمته. سيحون ملك الأموريين، لأن إلى الأبد رحمته، وعوج ملك باشان، لأن إلى الأبد رحمته. وأعطى أرضهم ميراثًا، لأن إلى الأبد رحمته" (مز 136: 7-21).
1. ضرب عوج ملك باشان : [1-11].
2. تقسيم أرض عوج : [12-22].
3. تضرع موسى لدخول كنعان : [23-27].
4. وصية موسى ليشوع : [28-29].
1. ضرب عوج ملك باشان:
قام موسى النبي بتذكير شعبه كيف انتصروا على عوج ملك باشان لتصير جلعاد وكل باشان مملكة عوج لسبطين ونصف، بعد ذلك يحاربون كل الممالك التي يعبرون إليها. إذ يقول:"ثم تحولنا وصعدنا في طريق باشان،
فخرج عوج ملك باشان للقائنا هو وجميع قومه للحرب في أذرعي" [1].
باشان: اسم عبري معناه "أرض مستوية أو ممهدة". وهي مقاطعة في أرض كنعان تقع شرق الأردن بين جبلي حرمون وجلعاد (عد 21: 33). دُعيت باشان على اسم جبل في تلك المنطقة (مز 68: 15). وكانت باشان تشمل حوران والجولان واللجاه، وكلها مؤلفة من صخور وأتربة بركانية. وتربتها خصبة للغاية وماؤها غزير. ويُزرع فيها الحنطة والشعير والسمسم والذرة والعدس والكرسنة. يحدها شمالاً أراضي دمشق، وشرقًا بادية سوريا، وجنوبًا أرض جلعاد، وغربًا نهر الأردن. ويخترق جانبها الشرقي جبل الدروز، وهو جبل باشان القديم ويمر بالجولان. سلسلة تلال من الشمال إلى الجنوب هي براكين قديمة خامدة. أما مقاطعة اللجاه فهي حقل من "اللافا"، أي الصخر البركاني قد انسكب من تل سيحان، وهو فم بركان قديم. ذكرت باشان نحو ستين مرة في الكتاب المقدس.
هكذا يكمل موسى النبي مراجعته للخبرة التي عاشها مع شعبه في تعاملهم مع الله وسط البرية، فيحدثنا عن مقاومة ملك آخر للأموريين، وكيف وهبهم الله النصرة عليه. لقد أوضح موسى النبي الحقائق التالية:
أولاً: كانت النصرة على ملك باشان ليست أمرًا بشريًا طبيعيًا، ولا كما قد يظن البعض إنها مصادفة، بل بأمرٍ إلهيٍ. طلب الله من موسى ألاَّ يخاف، فقد دفع إليه الملك وجميع قومه وأرضه.
"فقال لي الرب لا تخف منه،
لأني قد دفعته إلى يدك وجميع قومه وأرضه،
فتفعل به كما فعلت بسيحون ملك الأموريين الذي كان ساكنًا في حشبون.
فدفع الرب إلهنا إلى أيدينا عوج أيضًا ملك باشان وجميع قومه،
فضربناه حتى لم يبقَ له شارد" [2-3].
كانت الوصية بعدم الخوف لا من أجل موسى، بل من أجل الشعب.
ثانيًا: كان عوج ملك باشان إنسانا جسورًا وشجاعًا، سمع عن هزيمة سيحون ملك حشبون أمام إسرائيل، مع هذا لم يطلب الدخول في عهدٍ أو ميثاق سلام مع إسرائيل، بل خرج مع جميع قومه للحرب. كان واثقًا من نصرته على هذا الشعب.
ثالثًا: كانت إمكانيات عوج جبارة، يملك على ستين مدينة محصنة بأسوار شامخة، ما عدا القرى غير المسوّرة الكثيرة جدًا [5]. كانت مملكته قوية تبدو أنه لا يُمكن اقتحامها. كانت النصرة عليه علامة أكيدة أن الله نفسه هو واهب شعبه الغلبة. هنا كلمة "مدينة" لا تعني بالضرورة أن تعدادها ضخم، فإن تعداد البعض لم يكن يتجاوز عدة مئات قليلة من البشر.
رابعًا: كان عوج ملك باشان عِملاقًا، ربما من نسل العمالقة، وقد بقي سريره يشهد عن ضخامة جسمه. احتفاظ بنو عمّون يكشف عن ندرة وجود سرير بهذا الحجم. يبدو أن السرير قد انتقل من الأموريين إلى العمونيين في إحدى المعارك كانت فيها النصرة للعمونيين، احتفظوا به في ربة المدينة الملكية لبني عمّون (2 صم 12: 26).
يبلغ طول السرير تسع أذرع وعرضه أربع أذرع بذراع رجل [11]. فإن كان السرير أطول بذراع من طول الملك يكون طول الملك حوالي 12 قدمًا، وهذا يبدو أمرًا غير طبيعي، لذا يرى البعض أن السرير أطول بالثلث عن طول الملك، مع هذا يكون طول الملك تسعة أقدام، بهذا يكون أيضًا فارع الطول جدًا.
لقد نسج بعض حاخامات اليهود قصصًا خيالية عن ضخامة جسم عوج سُجلت في الترجوم، حتى صوره البعض أن طوله عدة أميال[35].
خامسًا: إن استعرضنا رحلة الشعب نجد في كل مراحلها يوجد من يقاوم، فإن طريق الرب لن يطيقه عدو الخير. ففي كل جيل نرى "مسيحنا المرفوض من العالم"، وفي كل عصر نسمع صوته الإلهي: "شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟"
يهب الله نصرة على العمالقة كما على الضعفاء الأشرار. أنه يهبنا الغلبة على الخطايا التي نظنها خطيرة ويستحيل التخلص منها، كما على ما نظنها خطايا تافهة وبسيطة.
"وأخذنا كل مدنه في ذلك الوقت؛
لم تكن قرية لم نأخذها منهم؛
ستون مدينة كل كورة أرجوب مملكة عوج في باشان" [4].
"كل أرجوب" [4]: يرى البعض أن الترجمة الحرفية لكلمة "كورة" هنا هي "كل خيط أو حبل cord, cable, rope, أرجوب"، وهو تعبير يعني خيطًا تقاس به الأراضي، وكأنه لا يُترك شبرًا من الأرض لا يستولي عليه الشعب. يرى البعض أنه توجد منطقة تسمى أرجوب وقد دُعيت بعد ذلكTrachonites [36]. يرى البعض أن كلمة "أرجوب" اسم عبراني معناه "كتلة من الحجارة" وأن هذه المنطقة تقع في باشان على حدود جشور ومعكة. يرى آخرون أن أرجوب هي الربع الشرقي من حوران. استولى عليها يائير الذي من سبط منسى، لذا دُعيت "حووت يائير" (يش 13: 30، 1 مل 4: 13).
مقاومة الله إنما تعني دائمًا الخسارة والفقدان. لقد قاوم عوج الله ففقد كل مدنه وقراه. يفقد الشرير كل شيء حتى سلامه الداخلي، إذ "لا سلام قال الرب للأشرار" (إش 48: 22، 57: 21).
"كل هذه كانت مدنًا محصنة بأسوار شامخة وأبواب ومزاليج سوى قرى الصحراء الكثيرة جدًا.
فحرمناها كما فعلنا بسيحون ملك حشبون،
محرمين كل مدينة، الرجال والنساء والأطفال.
لكن كل البهائم وغنيمة المدن نهبناها لأنفسنا.
وأخذنا في ذلك الوقت من يد ملكي الأموريين الأرض التي في عبر الاردن
من وادي ارنون إلى جبل حرمون.
والصيدونيون يدعون حرمون سريون.
والأموريون يدعونه سنير.
كل مدن السهل وكل جلعاد وكل باشان إلى سلخة واذرعي مدينتي مملكة عوج في باشان.
إن عوج ملك باشان وحده بقي من بقية الرفائيين.
هوذا سريره سرير من حديد.
أليس هو في ربة بني عمون طوله تسع اذرع وعرضه أربع اذرع بذراع رجل" [5-11].
كشفت الآثار عن ضخامة حصون مدن باشان الحجرية[37].
ماذا بقي من مملكة عوج؟ "سريره سرير من حديد" [11]. هذا كل ما تبقى من ذلك الملك الجبار لباشان. يا لها من شهرة غير لائقة! هذه هي ذكريات الأشرار، فإن الرب يستهزئ بهم. اكتشف الكابتن كوندور عرشًا حجريًا بنفس المقاييس في تل عند "ربة" ويعتقد أنه هو ذلك "السرير".
سلخة [10]: تبعد حوالي سبع ساعات جنوب شرقي بصرة التي لموآب. وبكونها على الحدود الشرقية لمملكة باشان كانت بلا شك محصنة جدًا. صارت من نصيب
سبط جاد (يش 12: 5؛ 1 أي 5: 11).
سريون [9]: معناها متألق، وهو اسم صيدوني، ربما استعملته جماعة الصيدونيين (قض 18: 7) الذين سكنوا عند سفح الجبال المغطاة بالثلوج. ويرى البعض أن كلمة "سريون" صيدونية معناها "درع"، وهو الاسم الذي كان الصيدونيون يطلقونه على جبل حرمون (مز 29: 6). ويبدو أن هذا الاسم لم يطلق على جزء معين من سلسلة جبال حرمون، بل كان يطلق على الجزء الذي كان يُرى من حرمون عند الوقوف على شاطئ بلاد الصيدونيين.
أما كلمة "سنير" فهي اسم أموري، ربما كان معناه "جبل السنا أو النور". وهو الاسم الذي أطلقه الأموريون على جبل حرمون، والأغلب أنه أطلق على قسم من جبل حرمون (جبل الشيخ) لهذا نجد أن سنير وحرمون مذكوران كجبلين مختلفين في (1 أي 5: 23).
"إن عوج ملك باشان وحده بقي من بقية الرفائيين" [11].
كان عوج آخر ملك للأموريين، ويبدو أن اسم مملكته أخذ من جبل باشان، تدعى مملكته بتنيع Batanea[38].
2. تقسيم أرض عوج:
"فهذه الأرض امتلكناها في ذلك الوقت من عروعير التي على وادي ارنون ونصفجبل جلعاد ومدنه أُعطيت للرأوبينيين والجاديين.
وبقية جلعاد وكل باشان مملكة عوج أُعطيت لنصف سبط مِنسَّى كل كورة ارجوب
مع كل باشان وهي تدعى أرض الرفائيين.
يائير ابن مِنسَّى اخذ كل كورة أرجوب إلى تخم الجشوريين والمعكيين ودعاها على
اسمه باشان حووث يائير إلى هذا اليوم.
ولماكير أُعطيت جلعاد.
وللرأوبينيين والجاديين أُعطيت من جلعاد إلى وادي ارنون وسط الوادي تخمًا،
وإلى وادي يبوق تخم بني عمون.
والعربة والأردن تخمًا من كنارة إلى بحر العربة بحر الملح تحت سفوح الفسجة نحو الشرق" [12-16].
إذ اقترب وقت رحيل موسى النبي لم يسمح الله له بالانطلاق إلاَّ بعد أن وهبه أمرين يُفرّحان قلبه: الأمر الأول هو الاستيلاء على منطقة شرقي الأرض ليذوق موسى النبي عربون عطية أرض الموعد كلها؛ والأمر الثاني هو رؤيته للأرض غربي الأردن من على قمة جبل الفسجة أو نبو.
أعطيت هذه الأرض، شرقي الأردن، لرأوبين وجاد ومِنسَّى، لكن وإن كانت هذه الأسباط قد استقرت، غير إنهم لم يتوقفوا عن مساعدة إخوتهم في حروبهم، حتى يستريح الكل ويستقروا (عد 32). هكذا فإنه لن تستقر كنيسة المسيح وتستريح ويكمل فرحها ما لم يتم جهاد آخر عضوٍ فيها. حتى الذين جاهدوا وانتصروا وعبروا إلى الفردوس فإنه لن يكمل فرحهم حتى يتمم العبيد رفقاؤهم جهادهم ليكللوا معهم. إنهم يقدمون صلواتهم المستمرة أمام العرش الإلهي لأجل خلاص العالم كله! إن كان المؤمنون المجاهدون على الأرض يشعرون بالتزام الحب فيصلون من أجل إخوتهم فهل الذين عبروا إلى الحب ذاته يتخلون عن مسئولياتهم في مساعدة الغير بصلواتهم. وهل نحسب صلواتهم الصادرة عن الحب هو انشغال عن الله الذي هو وكل السمائيين يشتهون خلاص كل البشرية؟!
يلاحظ هنا بخصوص يوسف الآتي:
انقسم أبناء يوسف إلى سبطين: أفرايم ومنسَّى. وانقسم مِنسَّى إلى فريقين، فريق نال نصيبه في شرقي الأردن والآخر في غرب الأردن، وانقسم الفريق الذي في شرق الأردن إلى عائلتين: عائلة يائير لها نصيب معين [14]، وعائلة ماكير [15]. بهذا ربما تحققت نبوة أبينا يعقوب عما سيحل بمِنسَّى، إذ وضع يده اليسرى عليه لا اليُمنى مع أنه البكر، وحين حاول يوسف أن ينقل يد أبيه اليُمنى إلى رأس مِنسَّى رفض أبوه قائلاً: "علمت يا ابني علمت. هو أيضًا يكون شعبًا وهو أيضًا يصير كبيرًا، ولكن أخاه الصغير يكون أكبر منه، ونسله يكون جمهورًا من الأمم" (تك 48: 17-19). تحققت النبوة إذ انقسم سبط مِنسَّى إلى عائلات صغيرة كثيرة بينما بقي أفرايم سبطًا متكاملاً معًا.
كان الجشوريون والمعكيون مملكتين صغيرتين لم يستولِ عليهما بنو إسرائيل، بل تركوهما يعيشان تحت سيطرتهم.
الجشوريون: هم سكان منطقة جشور. اسم عبري معناه "جسر"، تتاخم أرجوب وتقع شرقي معكة داخل نصيب منسى. صارت جشور مستقلة، هرب إليها أبشالوم بعد قتله أمنون (2 صم 13: 37). على حدودها جسر على نهر الأردن بين طبرية والخولة، يُسمى جسر بنات يعقوب.
أما المعكيون فهم سكان معكة. وهو اسم عبري معناه "ظلم". اشترك المعكيون مع الأراميين والعمونيين في الحرب ضد داود لكنه انتصر عليهم. من المحتمل أن يكون هي بيت جنو الحديثة (يش 19: 21)، وهي من نصيب يساكر غرب بحر الجليل.
"وأمرتكم في ذلك الوقت قائلاً:
الرب إلهكم قد أعطاكم هذه الأرض لتمتلكوها،
متجردين، تعبرون أمام إخوتكم بني إسرائيل كل ذوي بأس.
أما نساؤكم وأطفالكم ومواشيكم قد عرفت أن لكم مواشي كثيرة فتمكث في مدنكم التي أعطيتكم.
حتى يريح الرب إخوتكم مثلكم،
ويمتلكوا هم أيضًا الأرض التي الرب إلهكم يعطيهم في عبر الأردن،
ثم ترجعون كل واحدٍ إلى ملكه الذي أعطيتكم.
وأمرت يشوع في ذلك الوقت قائلاً:
عيناك قد أبصرتا كل ما فعل الرب إلهكم بهذين الملكين،
هكذا يفعل الرب بجميع الممالك التي أنت عابر إليها.
لا تخافوا منهم لأن الرب إلهكم هو المحارب عنكم" [18-22].
"يريح الرب" [20].
الكلمة "راحة" تفيض ببركاتها في كل الكتاب المقدس، وما وعد به إسرائيل هنا، نالوه في عهد سليمان (1 مل 5: 4)، لكن أوفى للوعد بأكثر كمالاً بالراحة التي تجدها النفس في المسيح (مت 11: 28، عب 4: 5-8).
"وأمرت يشوع" [21] اللمحات التي نراها عن العلاقة بين موسى ويشوع رائعة. نرى يشوع أولاً قائدًا للجيش (خر 17: 9) وخادمًا لموسى (خر 24: 13) وملازمًا غيورًا لموسى (عد 11: 28). وتتجلى محبة موسى ليشوع في (تث 1: 38، 31: 3، عد 27: 18-23).
3. تضرع موسى لدخول كنعان:
"وتضرعت إلى الرب في ذلك الوقت قائلاً:
يا سيِّد الرب أنت قد ابتدأت تُري عبدك عظمتك ويدك الشديدة،
فإنه أي إله في السماء وعلى الأرض يعمل كأعمالك وكجبروتك؟!
دعني أعبر وأرى الأرض الجيدة التي في عبر الأردن هذا الجبل الجيد ولبنان.
لكن الرب غضب عليَّ بسببكم ولم يسمع لي،
بل قال لي الرب:
كفاك لا تعد تكلمني أيضًا في هذا الأمر.
اصعد إلى رأس الفسجة،
وارفع عينيك إلى الغرب والشمال والجنوب والشرق،
وانظر بعينيك لكن لا تعبر هذا الأردن" [23-27].
تضرع موسى النبي متوسلاً أن يسمح له الله أن يعبر مع الشعب ليتمتع بأرض الموعد. وجاءت إجابة الله: "كفاك! لا تكلمني أيضًا في هذا الأمر" [26]. كان قلب موسى (رمز الناموس) ملتهبًا بالشوق نحو دخول كنعان، وبسبب الشعب حُرم من الدخول، لكنه لم يُحرم من الصعود على رأس الفسجة ليرى بعينيه الأرض، حتى يأتي يشوع ويعبر بالشعب ويقسم لهم الأرض. هكذا بالناموس تطلعوا إلي كنعان السماوية لكن بالمسيح يسوع (رمزه يشوع) وحده ندخل إليها وننعم بالميراث.
منذ أربعين عامًا وموسى كان يُعد نفسه مشتاقًا أن يتحقق الوعد الإلهي فيدخل مع الشعب ويقوم بتوزيع الأرض عليهم.
الله كأب حنون لم يحتمل توسلات موسى وصرخات قلبه، فسأله: "كفاك!" وهبه أن يراها من رأس جبل الفسجة، ويترك تلميذه يعبر بالشعب ويوزع الأرض. وبعد حوالي ألفي عامًا عبر موسى إلى الأرض حين ظهر على جبل تابور حيث تجلي الرب.
أولاً: في تضرعه لله يبدأ بالشكر على معاملات الله العجيبة وعطاياه، مسبحًا إيَّاه: "يا سيِّد الرب، أنت قد ابتدأت تُري عبدك عظمتك ويدك الشديدة، فأي إله في السماء وعلى الأرض يعمل كأعمالك وكجبروتك؟!" [24]. إذ نال موسى النبي بركات إلهية سبح الله، والتهب قلبه بالأكثر لينال ويتمتع بالله نفسه وعطاياه الفائقة. كلما رأينا الله وتلمسناه في حياتنا زاد عطشنا إليه وشوقنا إلى رؤياه والتمتع به.
لم ينشغل موسى النبي بالنصرات ولا بما امتلكه شعبه من أراضِ وحقول، لكنه انشغل بإدراك قوة الله وجبروته، فإنه ليس إله في السماء وعلى الأرض مثله. وكما سبق فقال عند عبوره بحر سوف: "من مثلك بين الآلهة يا رب؟! من مثلك معتزًا في القداسة؟! مخوفًا بالتسابيح، صانعًا عجائب" (خر 15: 11). وكما قيل: "لا مثل لك بين الآلهة يا رب ولا مثل أعمالك" (مز 86: 8).
ثانيًا: تضرع إلى الرب لكي يعبر به إلى أرض كنعان. لم يطلب أن يملك أو يسيطر بل أن يرى "الأرض الجيدة". أنه كان يشتهي أن يرى الأرض الجديدة كمقدس للرب، حيث يسكن الله في وسط شعبه. وكما يقول المرتل: "وأدخلهم في تخوم قدسه هذا الجبل الذي اقتنته يمينه" (مز 87: 54). كانت عيناه تتطلعان إلى سكنى الرب القدوس وسط شعبه لتقديسهم.
ثالثًا: حملت إجابة الله رحمةً وعدلاً. فقد غضب الله عليه بسبب الشعب ولم يسمع له [26]، لكنه غضب الأب على ابنه، يحمل حبًا أبويًا وحنانًا. هذا الحنو يظهر في أمورٍ كثيرةٍ، وكما سبق فقلنا أنه وهبه أن يتمتع بالنصرة على سيحون وعوج لكي يرث سبطان ونصف سبط شرقي الأردن. ثانيًا وهبه أن ينظر أرض الموعد غربي الأردن من قمة جبل نبو. وأخيرًا وهبه أن يقود تلميذه الذي هو بمثابة ابنه أن يدخل بالشعب ويقوم بتوزيع الميراث. وكأن ما يناله يشوع يحسبه موسى كأب قد ناله هو.
هذا وإن كان الله قد قال له: "كفاك"، إنما لأن موسى النبي نال مجدًا بما فيه الكفاية. فكما سبق أن قلنا أنه كان رمزًا للناموس قائدنا للمسيح. أنه يقود المؤمنين إلى السيِّد المسيح، لكنه يعجز عن أن يحقق لهم ما يحققه الرب يسوع نفسه. كأن الله يقول له: كفاك، فقد حققت رسالتك، وستنال أمجادًا سماوية، فإن كنت لا تعبر بهم نهر الأردن لكنك ستعبر أنت إلى إكليل المجد الأبدي. كان يليق بموسى أن يُدرك أنه حتى للعظيم في الأنبياء رسالة معينة محددة لا يتجاوزها. أخيرًا إذ سأله أن يشجع يشوع ويشدده إنما ليؤكد له أن المتاعب التي ستواجه يشوع بن نون كثيرة، وقد نال موسى النبي نصيبه من الجهاد وتمتع بنصرات مع بعض الضعفات في حياته، الآن يأتي دور تلميذه ليشترك في حمل الآلام من أجل الرب.
4. وصية موسى ليشوع:
"وأما يشوع فأوصه وشدده وشجعه،
لأنه هو يعبر أمام هذا الشعب،
وهو يقسم لهم الأرض التي تراها.
فمكثنا في الجواء مقابل بيت فغور" [28-29].
كما شدد الرب قلب موسى قائلاً له: "لا تخف" [2]، التزم موسى بدوره أن يوصي يشوع ويشدده ويشجعه كي لا يخاف [28].
لقد سمع يشوع لحديث معلمه موسى النبي، الذي ذكره مع كل القيادات والشعب بأمرين: الأول ما صنعه الله معهم خاصة بالخروج من مصر، والعناية بهم في البرية، والنصرات على الأعداء، خاصة على سيحون وعوج. وكأن الله الذي بدأ العمل واستمر فيه عبر هذه الأربعين عامًا حتمًا سيكمله إلى النهاية. لقد رأى يشوع بعينيه أعمال الله الفائقة، لكنه أيضًا سمع كلمات موسى لتذكيره. أما الأمر الثاني فهو ما وعد الله به، بأنه سيحارب عنهم ومعهم، لكي يملكوا ويرثوا. فإن كان الله معهم من يكون عليهم؟!
"فمكثنا في الجواء (الوادي) مقابل بيت فغور" [29].
"بيت فغور" هي مدينة كانت في مملكة سيحون ملك الأموريين، أخذت اسمها ربما من هيكل الإله فغور Peor الذي كان يُعبد هناك، وهو غالبًا نفس الإله Priapus لدى الرومانيين. كلمة "فغور" اسم موآبي معناها "شق".
ربما كان موسى النبي يتطلع نحو معبد فغور من بعيد ونفسه تتمرر مدركًا ما سيحل بشعبه فيما بعد، إذ يسقطون في عبادة الأوثان مع بقية الأمم. فإن كان عجل أبيس قد خرج مع الشعب في قلوبهم وأفكارهم حتى صبوا تمثالاً له وسجدوًا له في اللحظات التي عاش فيها موسى على الجبل حيث كان يتحدث مع الله، فماذا سيكون حالهم بعد موته وبعد لقائهم مع أمم كثيرة يمارسون رجاسات كثيرة.
من وحي تثنية 3
كفاك! لا تعد تكلمني في هذا الأمر!
+ لم يكف موسى نبيك عن أن يطلب الدخول إلى أرض الموعد!
منذ دعوته وعيناه تتطلعان نحو كنعان،
وقلبه يصرخ: متى أراك ساكنًا في كنعان وسط شعبك!
احتمل ضيقات يومية مترجيًا أن يدخل كنعان!
لا ليرث أرضًا بل ليراك متجليًا وسط شعبك!
+ من يستحق أن يسمع صوتك الأبدي:
"وهبتك نصرات مستمرة لتغلب وترث!
قدمت لك سلطانًا حتى على إبليس وأعماله!
فتحت أبواب كنعان السماوية أمامك.
هيأتك لكي تدخل وتستقر أبديًا!
كفاك. لقد نلت العربون، فلتتمتع بكمال المجد.
كفاك. احتملت الكثير من أجل كنعان،
فلتأتِ إليَّ وتدخل إلى مسكني!"
المراجع:
[35] Adam Clarke Commentary.
[36] Adam Clarke Commentary.
[37] Barnes’ Notes.
[38] Adam Clarke Commentary