تفسير الاصحاح السابع والعشرون من سفر التثنية للقمص تادري يعقوب ملطى
الوصيَّة مع الذبيحة
تمهيد للعبور:
إذ كان الله يهيِّئ الشعب بكل قيادته للعبور إلى أرض الموعد ركَّز مرارًا على حفظ الوصيَّة علامة الأمانة في قبول العهد الإلهي، وعلى الذبيحة علامة الحاجة إلى الدم للتكفير عن الخطيَّة.
إذ يتحدَّث عن الوصيَّة وارتباطها بالعبادة يؤكِّد "هذا اليوم مع أنَّه يذكِّرهم بالأحداث الماضية، ويرفع أنظارهم بروح الرجاء نحو المستقبل. هكذا في إيماننا نتطلَّع إلى الماضي والمستقبل كأنَّهما حاضران. فالماضي لا يحمل ذكريات عبرت، لكنَّه يحمل إلينا خبرة يلزم أن نعيشها في واقعنا الحاضر، والمستقبل بالنسبة لنا ليس أفكارًا نظريَّة، إنَّما نتمتَّع بعربون المستقبل، خاصة الأبديَّة في يومنا الحاضر. هكذا يحيا المؤمن في ماضي وحاضر ومستقبل حيّ فعَّال فيه.
ارتبط إعلان بركات العهد ولعناته بإقامة مذبح حجري عليه قُدِّمت تقدمات تناسب تجديد العهد [1-8]. وقف نصف الشعب على جبل عيبال، والنصف الأخير على جبل جرزيم، ليؤكِّدوا بركات العهد ولعناته. فمن يعصى العهد أو يكسره يخضع للعنة [9-14]. قدَّم قائمة باللعنات التي تحل على كاسري العهد مع الله [15-26].
1. كتابة الناموس على حجارة مكلَّسة [1-4].
2. بناء مذبح من حجارة صحيحة [5-10].
3. فئتان للبركة واللعنة [11-13].
4. اللعنات المنطوق بها على عيبال [14-26].
1. كتابة الناموس على حجارة مكلَّسة:
"وأوصى موسى وشيوخ إسرائيل الشعب قائلاً:
احفظوا جميع الوصايا التي أنا أوصيكم بها اليوم.
فيوم تعبرون الأردن إلى الأرض التي يعطيك الرب إلهك تقيم لنفسك حجارة كبيرة وتشيِّدها بالشيد.
وتكتب عليها جميع كلمات هذا الناموس،
حين تعبر لكي تدخل الأرض التي يعطيك الرب إلهك،
أرضًا تفيض لبنًا وعسلاً كما قال لك الرب إله آبائك.
حين تعبرون الأردن تقيمون هذه الحجارة التي أنا أوصيكم بها اليوم في جبل عيبال
وتكلِّسها بالكلس" [1-4].
لم يقدِّم موسى النبي الوصايا هنا وحده، بل قدَّمها مع شيوخ الشعب، حتى لا يظن الشعب أن موسى وحده الشيخ والذي قد قارب على الموت هو المهتم بها. كقائدٍ ناجحٍ يُشرك الآخرين معه في الخدمة، ولا ينسب كل شيء إلى نفسه وحده. لهذا كثيرًا ما يضم الرسول بولس أسماء بعض العاملين معه في رسائله مثل سلوانس وتيموثاوس، وفي رحلاته مثل برنابا ومرقس وسيلا.
لقد طلب منهم أن يكتبوا الناموس على حجارة مكلَّسة كبيرة، يكتبونها يوم عبورهم، حيث لا يقدرون على التمتُّع بأرض الموعد والتمتُّع بالوعود الإلهيَّة دون التمسُّك بالوصيَّة الإلهيَّة.
كانت الكتابة أو النقش على حجارة أو أعمدة حجريَّة أو معدنيَّة هي وسيلة نشر المراسيم أو القوانين. اقتبس Lysias قانونًا من عمودٍ كان في أريوباغس بأثينا[265]. وفي Eleusis وُجدت أعمدَّة منقوش عليها القوانين[266]. وتحدَّث أفلاطون عن أعمدَّة توضع في الأسواق العامة عليها قوانين تنظِّم المرور[267]. واستخدم بوليبس Polybius كلمة "عمود" ليعني بها قانونًا أو أحد شروط تحالف[268].
لا يُعرف عدد الحجارة، لكن غالبًا ما كان العدد كبيرًا حتى تُنقش عليه كلمات الناموس. وتغطَّى الحجارة بالشيد (كَلْس) لتصير ناعمة ويسهل الكتابة عليها وتصير الكتابة واضحة.
يرى بعض الدارسين أن كلمات الناموس نُقشت على الحجارة ثم غطِّيت الكتابة لحفظها، وقد استخدم المصريُّون تلك الطريقة حيث كانوا يميلون للكتابة على حجارة المعابد. لكن الرأي الأرجح أن الحجارة غُطِّيت بطبقة الكلْس، ونقشت الكتابة على الكلْس، إذ الكتابة عليه أسهل بكثير من النقش على الحجارة. يذكر Thomson أنَّه رأى حجارة مغطاة بكلْس ومكتوب على الكلْس ترجع إلى 2000 عامًا تقريبًا[269].
كتابتها على حجارة كبيرة مكلَّسة وبخط واضح غايته إزالة كل عذر يحتج بها إنسان، فلم يترك الله الإنسان يعتمد على الناموس الطبيعي، وعندما قدَّم له الشريعة لم يجعلها حبيسة مكتبات الكهنة والمعلِّمين، بل مقدَّمة علانيَّة لكل إنسان يطلب الحق، وفي نفس الوقت تكون شاهدة ضدّ كل عاصٍ للوصيَّة الإلهيَّة.
ماذا يُقصد بكلمات هذا الناموس؟ يرى البعض أنَّها اللعنات التي نطق بها على جبل عيبال والتي وردت في هذا الأصحاح. ويرى آخرون أنَّها الفرائض والأحكام التي وردت في الأصحاحات (12-26) من سفر التثنيَّة. ويرى فريق ثالث أنَّها الوصايا العشر التي تسلَّمها موسى النبي من الله على جبل سيناء. يرى آخرون أن الوصايا التي قدَّمها موسى وسُجِّلت على الحجارة عددها 613[270].
يُكوّن الوادي الموجود عند سفحي جبلي عيبال وجرزيم مدرَّجًا طبيعيًا رائعًا يتَّفق مع هذه المناسبة. وقد كانت رؤية عيبال ممكنة من المكان الذي ألقى منه موسى خطابه.
2. بناء مذبح من حجارة صحيحة:
بجانب الحجارة التي سُجِّلت عليها الوصايا أُقيم مذبح للرب من الحجارة الصحيحة التي لا يعلو عليها أداة حادة (خر 20: 22)، تقدَّم عليه المحرقات وذبائح السلامة.
"وتبني هناك مذبحًا للرب إلهك، مذبحًا من حجارة، لا ترفع عليها حديدًا.
من حجارة صحيحة تبني مذبح الرب إلهك،
وتصعد عليه محرقات للرب إلهك.
وتذبح ذبائح سلامة،
وتأكل هناك وتفرح أمام الرب إلهك.
وتكتب على الحجارة جميع كلمات هذا الناموس نقشًا جيدًا" [5-8].
يُقام المذبح من حجارة لا ترفع عليها حديد، حجارة صحيحة تؤخذ من الحقول دون أن تمسَّها يد ناحت بإزميله. يشير الحجر هنا إلى السيِّد المسيح الذي يتنبَّأ عنه دانيال النبي أنَّه قُطع بغير يدٍ وصار جبلاً عظيمًا جدًا (دا 2: 34-35)، لهذا رفضه البنَّاؤون، إذ لا جمال له ولا شكل كما يقول إشعياء النبي (إش 53)، لكنَّه مقبول لدى الله، صار رأس الزاويَّة.
حجارة المذبح لا يُرفع عليها حديد، أي لا تمتدّ يد بشريَّة إليها لتستخدم أيَّة آلة لتهيئتها. هكذا لا يتحقَّق خلاصنا بيدٍ بشريَّة، إنَّما خلال العمل الإلهي الحق، الذي هو عمل الصليب.
إذ قدَّم القدِّيس غريغوريوس النزينزي رثاءً على والده القدِّيس غريغوريوس الشيخ وذلك في عام 374 م تحدَّث عن دور والدته القدِّيسة نونا التي جذبته إلى الحياة الإيمانيَّة الفائقة حتى صار أسقفًا ناجحًا، وقد عاشا معًا كأخوين. يقول عن والدته كما أن يُحسب أمرًا عظيمًا ألاَّ يرفع حديد على المذبح [5]، حيث أن كل ما يكرَّس لله يلزم أن يكون طبيعيًا، ليس فيه شيء صناعي، هكذا بالتأكيد يُحسب أمرًا عظيمًا أنَّها كرَّمت الهيكل بصَمْتِها، ولم تعطٍ ظهرها قط للمائدة المكرَّمة، لا تشاحنت على الممر الإلهي.. وأنَّها لم تشترك قط على مائدة دنسة غير مقدَّسة، ولم تستطع أن تحتمل العبور أو النظر حتى إلى بيت فاسد، ولم تسمح لأذنيها اللتين تستقبلان الإلهيَّات ولا لسانها الذي ينطق بالإلهيَّات أن يتدنَّسوا بقصص يونانيَّة أو أغانٍ للمسرح[271].
· تُصعد على المذبح محرقات للرب، حيث يقدِّم السيِّد المسيح ذاته محرقة حب كامل أمام الآب نيابة عن البشريَّة.
· تقدَّم عليه ذبائح سلامة [7]، إذ بالمسيح المصلوب تتحقَّق المصالحة بين الآب والبشريَّة، وفيه ينال المؤمن سلامه الداخلي.
· هناك يأكل المؤمن [7]، إذ كانت الذبائح مرتبطة بالطعام علامة الشركة معًا.
· يفرح المؤمن أمام الرب إلهه [7]، حيث يتمتَّع بظل السماء، ويحمل أيقونتها، ويعلن بهجته بالميثاق الإلهي، وفرح نفسه بالالتصاق به. إنَّنا مدعوُّون إلى وليمة مفرحة، فإن الله نفسه يُسر ويبتهج بطاعة أولاده وحبُّهم وعبادتهم القلبيَّة، فيدعوهم ليفرحوا معه ويشاركوه مسرَّته بهم.
· "وتكتب على الحجارة جميع كلمات هذا الناموس نقشًا جيدًا" [8]، فترتبط الذبيحة أو العبادة بحفظ الوصيَّة الإلهيَّة. كرَّر الوصيَّة الخاصة بكتابة كلمات الناموس على الحجارة في نفس الأصحاح مع تأكيد أن تكون "نقشًا جيدًا"، وفي الترجمة السبعينيَّة: "واضحة جدًا". لأن غاية الكتابة هي نشرها على الشعب كله، فيسهل عليهم قراءتها. وكما قال الرب لحبقوق: "اكتب الرؤيا وانقشها على الألواح لكي يركض قارئها" (حب 2: 2).
· يجب أن تكون كلمة الله منقوشة جيِّدًا، أو تكون واضحة جدًا، يستطيع الكل – كهنة وشعبًا – قرأتها وفهمها، وألاَّ يعلو صوت فوق صوت الكلمة الإلهيَّة. إنجيلنا هو صلب إيماننا، وهو العمود الفقري للتقليد الكنسي والحياة الكنسيَّة؛ كل قانون لا يحمل روح الكتاب باطل! إنجيلنا هو الكتاب الإلهي يقود حياتنا ويحملنا إلى حضن الله نفسه.
نقش الكلمة على حجارة بخطٍ واضحٍ، ووضعها في مكان عام، يكشف عن مسئوليَّة الكنيسة في تقديم الكلمة كما هي لكل الشعب حتى يتمتَّع الكل بها.
يُقام المذبح والحجارة المنقوش عليها الناموس على جبل عيبال حتى يجد العاصون والساقطون تحت لعنة العصيان مجالاً للرجوع إلى الله خلال الذبيحة المقدَّسة، والارتباط بالكلمة الإلهيَّة.
وضعت الحجارة على جبل عيبال حيث اللعنات لكي يدرك الكل عجز الشريعة عن أن تنزع اللعنة أو تهب الحياة، إنَّما تعطي معرفة عن الخطيَّة، وتكشف عن حاجة الإنسان إلى من يبرِّره (رو 3: 19-20، 7: 9-14). فالمكان المناسب للشريعة هو جبل اللعنات لا البركات.
بنفس الطريقة أُقيم المذبح على جبل اللعنات، لكي يدرك المؤمنون حاجتهم إلى الذبيحة الفريدة القادرة أن ترفع عنهم اللعنات، ذبيحة المسيح. أمَّا الذبائح الحيوانيَّة التي طالبهم بها الناموس فهي ليست إلاَّ ظلاً ورمزًا، لهذا تعجز عن أن تقدِّس الضمير وتطهِّر الأعماق وتهب البرّ.
"ثم كلَّم موسى والكهنة اللاويُّون جميع إسرائيل قائلين:
اَنصت واسمع يا إسرائيل، اليوم صرت شعبًا للرب إلهك.
فاسمع لصوت الرب إلهك، واعمل بوصاياه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم" [9-10].
بقوله: "أنصت وأسمع" يُعلن عن حاجة الشعب كما كل مؤمنٍ إلى الصمت والانتباه، فكثيرًا ما يطغي صوت العالم حولنا وفينا على الصوت الإلهي. نحتاج من حين إلى آخر فترة هدوء، فيها تميل أذنا الإنسان الداخلي إلى صوت الرب وتسمعان له بكل اهتمام.
"صرت شعبًا للرب إلهك" [9]: شعب الرب هو ملك له دومًا بسبب اختياره ودعوته، لكنَّهم يصيرون كذلك حقًا عندما يقبلون كلمته ويطيعون شريعته (يو 1: 12). يذكِّرنا الله دائمًا بالدعوة التي دُعينا إليها أن نكون شعب الله، حتى كما هو قدُّوس نكون نحن قدِّيسين فيه.
إنَّها دعوة للالتصاق به والانتساب إليه، نصير شعبه، أي ننعم بالسمة الملوكيَّة السماويَّة. عندئذ تصير كل مخازن السماء وبركاتها وإمكانيَّاتها بين أيدينا.
3. فئتان للبركة واللعنة:
"وأوصى موسى الشعب في ذلك اليوم قائلاً:
هؤلاء يقفون على جبل جرزيم لكي يباركوا الشعب حتى تعبرون الأردن.
شمعون ولاوي ويهوذا ويسَّاكر ويوسف وبنيامين.
وهؤلاء يقفون على عيبال للعنة.
رأوبين وجاد وأشير وزبولون ودان ونفتالي.
فيصرخ اللاويُّون ويقولون لجميع قوم إسرائيل بصوتٍ عالٍ.." [11-14].
جبل عيبال على الضفَّة الغربيَّة من نهر الأردن، وهو قريب جدًا من شكيم، الموضع الذي كان فيه مقدس الرب إلى زمان (يش 24: 1).
الأسباط المختارة للبركة كانت من أولاد ليئة وراحيل. أمَّا الأسباط المختارة لإعلان اللعنة على جبل عيبال فهي جاد وأشير من زلفة أمَة ليئة، ودان ونفتالي من بلهة أمَة راحيل، وزبولون ورأوبين من ليئة، أمَّا اللاويُّون (أي الكهنة المنوطون بهذا العمل وليس كل سبط لاوي) كانوا غالبًا في منطقة متوسِّطة بين الجبلين (يش 8: 33)، يعلنون البركة واللعنة بصوت عالٍ حتى يسمعهم الجميع.
لم يذكر هنا البركات بل اللعنات. ويرى اليهود أنَّه كان ينطق باللعنة وما يُقابلها من البركة[272].
يظن البعض استحالة وصول الصوت إلى الشعب حين يعلن كل فريق البركة أو اللعنة، لكن بالتجربة المعاصرة ثبت أنَّه يمكن بسهولة سماع الصوت وبطريقة واضحة، خاصة وأن الناطقين كانوا جماعة كبيرة وليس فردًا واحدًا.
4. اللعنات المنطوق بها على جبل عيبال:
إذ اقترب وقت عبور الشعب نهر الأردن للدخول إلى الضفَّة الغربيَّة كان لابد لهم أن يعرفوا حقيقة هامة، وهي أن الأرض التي سيملكونها ويرثونها هي للرب. الله هو المالك، وأمَّا الأجرة فهي "الطاعة". بهذه الطاعة ليس فقط يثبتوا في أرض الرب، بل يصير لهم نصيب في الأرض الجديدة، في أورشليم العليا.
جاءت اللعنات الخاصة بالعصيان أو كسر إحدى الوصايا العشرة والبركات الخاصة بالطاعة للوصيَّة الإلهيَّة إنَّما كمفتاح للشعب كي يتمتَّعوا بالأرض، ويمتلئوا رجاءً في السماء عينها!
جاءت اللعنات مبتدئة بالخطايا الموجَّهة ضدّ الله نفسه مباشرة، كعبادة الأوثان [15]، ثم ضدّ الوالدين [16]، وضدّ العدالة الاجتماعيَّة [17]، ثم ضدّ المنكسرين والمحتاجين [18-19]. أي بدأ بالله فالوالدين فالمجتمع عامة ثم فئة المعوزِّين. يلي هذا اللعنات ضدّ الطهارة والعفَّة [20-23] ثم القتل [24-25]، وأخيرًا قدَّم وصيَّة عامة خاصة بحفظ الوصايا.
يلاحظ أن السفر أورد كلمات اللعنات بالتفصيل دون كلمات البركات؛ هذا وكانت كلمات اللعنات تقرأ أولاً وبعد ذلك البركات، كل بند بمفرده، اللعنة ثم البركة. ذلك لتأكيد أنَّه لا يوجد من يقدر أن يهرب من اللعنة، إلاَّ الذي يلجأ إلى المخلِّص. كما قيل: "إن كنت تراقب الآثام يا رب يا سيِّد فمن يقف؟!" (مز 130: 3). "لأن جميع الذين هم من أعمال الناموس هم تحت لعنة، لأنَّه مكتوب: ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به" (غلا 3: 10)، "الجميع زاغوا وفسدوا معًا، ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد" (رو 3: 12).
إعلان اللعنات ثم البركات يؤكِّد حاجة البشريَّة إلى التهديد أولاً بالعقوبة، وإذ ينضجون يستعذبون البركات. هذا واللعنة كما سبق فرأينا ليست إلاَّ ثمرَّة طبيعيَّة لانعزال الإنسان الله مصدر البركات. وأمَّا البركات فهي دخول في الحياة المطوَّبة، وتمتُّع بالشركة مع الله. الخطيَّة تحمل تأديبها فيها لأنَّها تعزل الإنسان عن مصدر حياته، والطاعة تحمل بركاتها إذ تحملنا إلى الله مصدر الحياة والشبع.
"ملعون الإنسان الذي يصنع تمثالاً منحوتًا أو مسبوكًا رجسًا لدى الرب عمل يديّ نحات
ويضعه في الخفاء.
ويجيب جميع الشعب ويقولون: آمين.
ملعون من يستخف بأبيه أو أمِّه.
ويقول جميع الشعب: آمين.
ملعون من ينقل تخم صاحبه.
ويقول جميع الشعب: آمين.
ملعون من يضل الأعمى عن الطريق.
ويقول جميع الشعب: آمين.
ملعون من يعوِّج حق الغريب واليتيم والأرملة.
ويقول جميع الشعب: آمين.
ملعون من يضطجع مع امرأة أبيه لأنَّه يكشف ذيل أبيه.
ويقول جميع الشعب: آمين.
ملعون من يضطجع مع بهيمة ما.
ويقول جميع الشعب: آمين.
ملعون من يضطجع مع أخته بنت أبيه أو بنت أمِّه.
ويقول جميع الشعب: آمين.
ملعون من يضطجع مع حماته.
ويقول جميع الشعب: آمين.
ملعون من يقتل قريبه في الخفاء.
ويقول جميع الشعب: آمين.
ملعون من يأخذ رشوة لكي يقتل نفس دم بريء.
ويقول جميع الشعب: آمين.
ملعون من لا يقيم كلمات هذا الناموس ليعمل بها.
ويقول جميع الشعب: آمين" [15-26].
عدد اللعنات 12 بعدد الأسباط.
ويلاحظ في هذه اللعنات:
أولاً: تكرار كلمة "جميع" ليدرك أنَّه ليس إنسان فوق الوصيَّة، الكاهن أو العلماني، الغني أو الفقير، الرجل أو المرأة. كل أعضاء الجماعة من قادة وشعب ملزمون بحفظ الوصيَّة.
ثانيًا: في نهاية كل عبارة يعلن الكل: "آمين"، علامة قبول الجميع الالتزام والتجاوب مع الوصيَّة. إجابة الشعب المستمرَّة بكلمة "آمين" تحمل المعاني التالية:
1. تأكيد معرفة كل عضو في الشعب بأن ثمرة الخطيَّة هي اللعنة.
2. أن هذه الثمرة يجتنيها الإنسان بكسره أيَّة وصيَّة من وصايا الناموس، وليس بكسر كل الوصايا معًا أو وصايا معيَّنة. وإنَّما كما يقول الرسول يعقوب: "لأن من حفظ كل الناموس وإنَّما عثر في واحدة فقد صار مجرمًا في الكل، لأن الذي قال لا تزنِ قال أيضًا لا تقتل؛ فإن لم تزنِ ولكن قتلت فقد صرت متعدِّيًا الناموس" (يع 2: 10-11).
3. يحمل هذا شعور كل إنسان بالذنب، ليس له أن يبرِّر نفسه.
4. اعتراف ضمني بأن الناموس صالح، وإنَّما الخطأ هو فيَّ.
5. الإنسان المتديِّن يحتاج إلى ترديد كلمة "آمين" أكثر من غيره، وبسبب تديُّنه يلبس أحيانًا رداء الرياء. لهذا يلزمه أن يكون صريحًا مع نفسه، معلنًا أن السقوط في العصيان يدفع به إلى اللعنات.
v أقول خضع الشعب لهذه اللعنة، لأنَّه لا يوجد إنسان استمرَّ عاملاً كل الناموس أو حافظًا له، لكن المسيح حوَّل هذه اللعنة بلعنة أخرى "ملعون من عُلِّق على خشبة". بهذا كل من عُلِّق على شجرة ومن عصى الناموس صار ملعونًا، وكان من الضروري لذاك الذي يريد أن يحرِّر من اللعنة أن يكون هو نفسه حرًا منها. لهذا أخذ المسيح على نفسه اللعنة الأخرى ليحرِّرنا من اللعنة.
هذا يشبه إنسانًا بريئًا تعهَّد أن يقبل حكم الموت عن آخر، وبهذا خلَّصه من العقوبة. إذ أخذ المسيح على نفسه ليس لعنة العصيان بل اللعنة الأخرى لينزع اللعنة عن الآخرين. إذ "لم يعمل ظلمًا ولم يكن في فمه غش" (إش 51: 9، 1 بط 2: 22). وبموته خلص المائتين من الموت، وبحمله اللعنة خلَّصهم منها[273].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
"في الخفاء" [24]: يمكن ارتكاب كل الخطايا المذكورة هنا سرًّا، لذلك يتوجَّه التحذير إلى ضمير الفرد. ولقد دعا الله الشعب كله ليشجبوا هذه الخطايا علنًا.
"كلمات هذا الناموس" [26] يرتبط الشعب بالعهد بطريقة اللعنة، وهي طريقة معروفة في الشرق (أع 23: 12) وقد تكرَّر هذا العمل مع نحميا (10: 29) وذكره بولس (غل 3: 10) وقد حمل المسيح اللعنة على نفسه (غل 3: 13) ليحرِّر شعبه منها.
ثالثًا: مع كل إعلانٍ عن لعنة كان جميع الشعب يقول آمين. أمَّا وقد جاء ذاك القادر أن يحمل اللعنة عنَّا، فإنَّنا نترنَّم مع الرسول بولس قائلين: "المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا، لأنَّه مكتوب ملعون كل من عُلِّق على خشبة" (غلا 3: 13).
مع كل صرخة: "آمين"، يشعر كل مؤمن حقيقي بعجز الناموس لا عن تقديم بركة، وإنَّما حتى عن تقديم الحياة، إذ سقط الكل تحت الموت. يترقَّب المؤمن مجيء المخلِّص المسيَّا القادر وحده أن يحمل عنَّا اللعنة ويهبنا حياته الطوباويَّة. "كنَّا محروسين تحت الناموس مُغلقًا علينا إلى الإيمان العتيد أن يُعلن. إذًا قد كان الناموس مؤدِّبنا إلى المسيح لكي نتبرَّر بالإيمان" (غلا 3: 23-24).
من وحيّ تثنيَّة 27
لتقم من قلبي لوحيّ شريعة،
ولتجعل منه مذبحًا لك
+ قلبي بين يديك، بروحك الناري انقش وصيَّتك عليه.
أقم منه لوحيّ شريعة،
يحملان عمل إصبعك الإلهي.
+ من ينزع وصيَّتك عنِّي ينتزع قلبي،
ويحرمني من حياتي.
تبقى وصيَّتك في داخلي حتى أعبر الأرض الجديدة.
هي كنزي ورصيدي السماوي.
+ لتجعل من قلبي مذبحًا مقدَّسًا لك.
عليه تُقدَّم محرقات الحب، إذ يحترق كل كياني حبًا لك.
عليه أقدِّم ذبيحة السلامة، فأنت هو سرّ مصالحتي مع أبيك القدُّوس.
أنت واهب السلام الحق!
لتقم في قلبي وليمة حب تقدَّم على مذبحك.
حيث تدخل وتتعشَّى معي وأنا معك!
حوِّل قلبي إلى وليمة فرح، فترد لي بهجة خلاصك.
+ قلبي يتهلَّل بوصيَّتك ويشبع بمذبحك.
يتأمَّل في البركات التي تعلنها بلا انقطاع، ولا تجد اللعنات لها موضعًا فيه.
لتقف أنت في قلبي وتمد يدك بالبركة.
المراجع:
[265] Eratos th, 31:12.
[266] Polluk 10:97.
[267] De Legg. 11., p. 916E.
[268] Hist. 24:4,12, 26:1,4.
[269] Thomson: Land and the Book, ii, p. 204.
[270] Pulpit Commentary, Deuteronomy, p. 419.
[271] On the Death of His Father, 10.
[272] Talmud Bab. Sotah, c.7; Targum Hierosp in lot; Surenhus, mishna, 3:262.
[273] Commentary on Galat. 3:13.