تفسير الاصحاح الرابع والعشرون من سفر التثنية للقمص تادري يعقوب ملطى
سلامة الأسرة
مع شرائع أخرى
تحدَّث في الأصحاح السابق عن "جماعة الرب" وقدسيَّتها والحفاظ عليها. الآن يتحدَّث عن شرائع تمس الأسرة وكيانها، فيبدأ بالتضييق على الطلاق، والاهتمام بسعادة الأسرة حتى في فترات الحروب، والالتزام بمساندة الأسر الفقيرة والمحتاجة بطرق متنوِّعة. فقد اهتم بمن يضطرُّون إلى الرهن متحدِّثًا عنهم ثلاث مرَّات في هذا الأصحاح.
يمكن القول بأن هذا الأصحاح يحفظ حقوق الإنسان بوجه عام، كما يدافع عن حقوق المرأة في أمر الطلاق، وحقوقها في فترة عرسها (السنة الأولى من زواجها). كما يدافع عن حقوق المدينين الفقراء، وحقوق العمال الأجراء، وحق الإنسان في ألاَّ يٌعاقَب بسبب خطأ ارتكبه أقرب المقرَّبين إليه، وأخيرًا حق الإنسان في ممَّارسة الحريَّة.
1. الأسرة والطلاق [1-4].
2. الأسرة والتجنيد [5].
3. الأسرة والرهن [6].
4. الأسرة ونظام العبوديَّة [7].
5. الأسرة والتذمُّر [8-9].
6. الأسرة والقروض [10-13].
7. الأجير والأجرة [14-15].
8. المسئوليَّة الشخصيَّة [16].
9. الأسرة والرهن [17-18].
10. مراعاة المحتاجين أثناء الحصاد [19-22].
1. الأسرة والطلاق:
لا يمكن الحفاظ على قدسيَّة جماعة الرب دون الاهتمام بقدسيَّة الأسرة والرباط الزوجي. يليق بالمؤمن أن يتطلَّع إلى الزواج في قدسيَّة ووقارٍ، حاملاً ذات فكر الله في هذا الشأن، الذي يرى الوحدة الأسريَّة يجب أن تكون أهم وأقوى وحدة تعرفها الأرض. من أجل قسوة قلوبهم سمح لهم موسى بالطلاق، حتى لا يرتكب أحد جريمة قتل للخلاص من زوجته، أو يبرِّر لنفسه أن يرتكب الزنا، فيسقط تحت الغضب الإلهي، ويتعرَّض هو ومن ارتكب معها الشر للرجم (إن كانت متزوَّجة). أمَّا في العهد الجديد حيث دخل الإنسان إلى النضوج فلم يُسمح بالطلاق إلاَّ لعلَّة الزنا (مت 19: 8-9).
لقد وضعت الشريعة حدودًا للطلاق من بينها القانون التالي:
"إذا أخذ رجل امرأة وتزوَّج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه،
لأنَّه وجد فيها عيب شيء وكتب لها طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته،
ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجلٍ آخر،
فإن أبغضها الرجل الأخير وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته،
أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتَّخذها له زوجة،
لا يقدر زوجها الأول الذي طلَّقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجَّست.
لأن ذلك رجس لدى الرب.
فلا تجلب خطيَّة على الأرض التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا" [1-4].
أمَّا ما وراء هذا القانون فهو:
أولاً: ألاَّ يتسرَّع الإنسان في طلب الطلاق لأي سبب، فالشريعة تستلزم أن لا يكفي أن ينطق بكلمة الطلاق، بل يلزمه أن يعلن ذلك كتابة، وأن يوقِّع على شهادة الطلاق شاهدان أو أكثر، وأن يسلِّم كتاب الطلاق للزوجة في يدها ويطلِّقها، أي يقدِّم لها احتياجاتها الماديَّة حتى لا يتسرَّع أحد بل يراجع نفسه. بجانب هذا فإنَّه إن طلَّق فليعلم أنَّه إن تزوَّجها أحد لن يمكنه الزواج منها إن طلَّقها الآخر أو حتى مات، مهما كانت الأسباب.
فيما يلي صورة من كتاب الطلاق الذي يكتبه الرجل لزوجته المطلَّقة[254]:
[في يوم.. من الأسبوع، أو يوم.. من الشهر..، في سنة.. من خلقة العالم، أو من ملك (الإسكندر) بحسب عادتنا هنا في الموضع..، أنا فلان بن فلان من منطقة.. بإرادتي الحرَّة، وبرغبة نفسي، دون أيَّة ضغوط، قد تركتكِ وتخليَّت عنكِ واستبعدتكِ يا فلانة ابنة فلان، من مدينة..، التي كنتِ زوجة لي، والآن أصرفكِ عنٍّي وأترككِ واستبعدكِ، فتكونين حرَّة، ولكِ سلطان على حياتك، وأن تتزوَّجي أي إنسان تريدين، وليس لأحد أن يرفضكِ بسبب اسمي من هذا اليوم وإلى الأبد. وهكذا يحق لكِ أن تكوني لأي إنسان. وهذا منِّي كتاب طلاق، كتاب لتخليتكِ ورسالة لاستبعادكِ، وذلك بحسب شريعة موسى وإسرائيل].
ثانيًا: يؤكِّد حق الزوجة المطلَّقة أن تتزوَّج، فيُحسب الرجل الأول بالنسبة لها كأنَّه مات، لهذا لا يجوز لها الالتصاق به بعد اتِّحادها برجل آخر، فتكون كمن التصقت بجثمان ميِّتٍ، ويحسب ذلك دنسًا.
ثالثًا: يرى البعض أن هذا القانون صدر لمنع بعض العادات الدنسة كتلك التي كان بعض المصريِّين يمارسونها، إذ كان الرجال يتبادلون الزوجات فيما بينهم. فخشية أن يطلِّق رجلان زوجتيهما ليقبل كل منهما زوجة الآخر إلى حين ثم يطلِّقاهما، ويعودان فيتزوَّجان كل واحدٍ من زوجته الأولى، فيصير الزواج والطلاق وسيلة لتحقيق هذا السلوك الدنس تحت ستار شريعة الطلاق. لذلك رفضت الشريعة الزواج نهائيًا بالزوجة الأولى متى التصقت بآخر.
بهذا يدرك الرجل أن المرأة ليست ألعوبة في يده، يستطيع أن يطردها في أي وقت، ويستردَّها متى شاء، إنَّما لها كيانها البشري وشخصيَّتها التي يلزم أن يُقدِّرها الزوج.
رابعًا: يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [إن الشريعة لم تمنع الرجل الذي يبغض زوجته من أن يطردها ويتزوَّج أخرى، لكنَّه يلتزم أن يعطيها كتاب طلاق، ولا يجوز له أن يردَّها مرَّة أخرى حتى إن مات رجلها الثاني أو طلَّقها. والسبب في هذا أن الشريعة خشيت من أن يلتزم الرجل ببقاء الزوجة التي يبغضها فيقتلها، لأنَّه هكذا كان حال اليهود في ذلك الحين.
كانوا يقتلون الأنبياء ويسفكون الدم كالماء (مز 79: 3). فطرْد الزوجة المكروهة أقل شرًا من قتلها. أمَّا علَّة عدم إعادتها فذلك لكي يُدرك الكل أنَّه يليق بقاء الزواج وعدم فسخه، فيلزم على الرجل قبل أن يطرد زوجته ويطلِّقها أن يراجع نفسه مرَّات لأنَّها لن تعود إليه[255]].
خامسًا: اختلف المفسِّرون اليهود في تفسيرهم للعبارة: "لأنَّه وجد فيها عيب شيء" [1]. ففي رأي مدرسة هلليل Hillel أن الرجل يمكنه أن يطلِّق زوجته لأي سبب يرى أنَّه غير لائق[256]. ففي أيَّام السيِّد المسيح جاءه الفرِّيسيُّون يتساءلون: "هل يحل للرجل أن يطلِّق امرأته لكل سبب" (مت 19: 3). أمَّا مدرسة شمعي Shammai فعلى النقيض رأت أنَّه ليس من حق الرجل أن يطلِّق زوجته إلاَّ لعيب قوي فيها مثل ارتكاب خطيَّة الزنا[257]. وإن كان لا يمكن تفسير العيب هنا بارتكاب الزنا، لأن هذه الخطيَّة عقوبتها الرجم لا الطلاق.
2. الأسرة والتجنيد:
بكل وسيلة أوضح الله كراهيَّته للطلاق، مشتاقًا ألاَّ يحدث في وسط شعبه، وفي نفس الوقت أعطى اهتمامًا عظيمًا لسلامة الأسرة وسعادتها، لهذا أعفى المتزوِّج حديثًا من واجب الجنديَّة لكي يقضي السنة الأولى مع زوجته في حياة سعيدة. أساس سعادة المجتمع كله هو الأسرة. فالأسرة المتهلِّلة تبعث روح الفرح على من حولها.
"إذا اتَّخذ رجل امرأة جديدة فلا يخرج في الجند،
ولا يُحمل عليه أمر ما.
حُرًا يكون في بيته سنة واحدة،
ويسر امرأته التي أخذها" [5].
لا يُسمح بالمتزوِّج حديثًا أن يشترك في حرب خلال السنة الأولى من زواجه لعدَّة أسباب منها:
أولاً: كما سبق فرأينا سابقًا استبعاد الأشخاص المشغولين بأمور تتملَّك على أفكارهم وقلوبهم ممَّا قد تسبب لهم خوفًا أو جبنًا أثناء المعركة.
ثانيًا: حفاظًا على سلامة الأسرة ووحدتها، فالإنسان في السنة الأولى كثيرًا ما يجد مشاكل في حياته الزوجيَّة حيث لم يتعرَّف الطرفان بعد على قبول إرادة الآخر وإدراك مفاهيمه كما يجب، فخروج الرجل للحرب مدَّة طويلة قد يسبب برودة في المحبَّة الزوجيَّة، أو يجد أحدهما ذلك فرصة لعدم العودة إلى الحياة الزوجيَّة.
ثالثًا: إذ كان يليق بكل شعب الله أن يكونوا طاهرين، ليس لهم خبرة في العلاقات الجسديَّة قبل الزواج، لهذا عند زواجهم تصير لهم خبرة جديدة يصعب الخلاص منها. فإن استدعى الرجل إلى الجيش يجد صعوبة للحياة بدون علاقة جسديَّة فيسقط في حب أيَّة سيِّدة يلتقي بها أثناء الحرب، خاصة إن غَلب جيشه وأسر بعض النسوة. وأيضًا قد تجد العروس التي تركها عريسها صعوبة أن تسلك بطهارة في هذه الفترة الحرجة.
رابعًا: غاية عدم خروج الرجل إلى الحرب ليس الهروب من المعركة، ولا الخوف من الموت، إنَّما يلزمه أن يصنع ما في وسعه لإسعاد زوجته.
خامسًا: يعتبر الله السنة الأولى من الزواج "حفل عرس مستمر"، لن يتكرَّر، لهذا يحرص الله بنفسه على الحفاظ عليه وتحصينه، حتى يبقى العروسان في فترة من الفرح والبهجة تسندهما كل أيَّام حياتهما. أنَّها بداية حياة جديدة، يحرص الله أن يرويها بمياه الفرح والسرور، كي يجد الله نفسه راحة فيها. وكأن فرح العروسين هو موضع سرور الله نفسه.
سادسًا: هذا الحفل المستمر لمدَّة سنة كاملة له حدوده. فهو ليس بالحفل الذي يبعث روح الكسل وعدم الالتزام، إنَّما هو حفل مؤقَّت يؤسِّس بيتًا مقدَّسا يعمل فيه الرب ويمارس العروسان دورهما بكل جديَّة. فمع أهميَّة حياة الفرح يلزم أن يرتبط الفرح بالحكمة؛ والسعادة بالعمل والالتزام بالمسئوليَّة.
سابعًا: كما يليق بالمؤمن أن يعمل لحساب الجماعة، باذلاً حتى حياته من أجلها، يليق بالدولة أيضًا أن تهتم بكل عضوٍ فيها، تهتم بالعروس المتزوَّجة حديثًا، بنفسيَّتها وسعادتها واستقرار بيتها.
3. الأسرة والرهن:
عدم رهن ضرورات الحياة حتى لا نحطِّم حياة اخوتنا.
"لا يسترهن أحد رحى أو مرداتها لأنَّه إنَّما يسترهن حياة" [6].
خلق الله الإنسان وأوجده في الجنَّة يعمل في الأرض (تك 2: 5). فمن يحرم إنسانًا من العمل إنَّما يحرمه من حياته الإنسانيَّة التي وهبه الله إيَّاها. ومن يحرم نفسه من العمل لا يأكل (2 تس 3: 10).
لهذا يليق بالدائن ألاَّ يسحب من المدين أدوات عمله، بل على العكس يشجِّعه على العمل لا ليسد الدين فقط، وإنَّما لكي يأكل ويُعطي المحتاجين. وكما يوصينا الرسول بولس حتى بالنسبة للصوص: "لا يسرق السارق في ما بعد، بل بالأحرى يتعب عاملاً الصالح بيديه، ليكون له أن يُعطي من له احتياج" (أف 4: 28).
كان رهن الرحى أو الجزء العلوي منها حيث يثبت فيه يد خشبية لتحريكه، بدونه يصير الحجر السفلي بلا قيمة، عاديُا، بسبب الفقر المدقع. الرحى هنا هي طاحونة صغيرة يستخدمها شخص، غالبًا ربَّة البيت، لطحن كميَّة من الغلال تكفي لعمل خبزٍ لمدَّة يوم واحد للعائلة. لهذا فمن يسترهن الرحى يحرم الأسرة من الطعام الضروري اليومي ألا وهو الخبز، فيكون قد حرم الأسرة كلها من حق الحياة.
ولعلَّه يقصد هنا بالرحى أنَّها خاصة بشخص عمله طحن الغلال للشعب مقابل أجرة. فهو يمنع الشخص من أن يطلب ضمانًا فيه يفقد المقترض إمكانيَّة العمل، كأن يطلب فأس النجار، أو ثوري صاحب المحراث، أو كتاب الدارس. فليس عمل الدائن أن يحطِّم إمكانيَّة المدين بل أن يسنده لكي يعيش ويقتات هو وأسرته.
في كل العصور وفي كل الأمم الغنى قوَّة يمكن أن تكون للبنيان أو للهدم. فالغني الذي يراعي أخاه الفقير يستخدم إمكانيَّاته للخير. أمَّا من يحوِّله الغني إلى الطغيان واستغلال السلطة يكون كمن يهدم نفسه ويفترس اخوته الفقراء.
4. الأسرة ونظام العبوديَّة:
بحسب الشريعة من يسرق شيئًا ما يستحق العقوبة، لكن ليس عقوبة الإعدام، أمَّا من يسرق إنسانُا أو طفلاً ويبيعه عبدًا فهذه جريمة كبرى عقوبتها الإعدام.
"إذا وُجد رجل قد سرق نفسًا من اخوته بني إسرائيل واسترقَّه وباعه يموت ذلك السارق،
فتنزع الشر من وسطك"
خطف الناس عند الساميِّين كان عادة سببًا لإراقة الدماء، وعاقبتها شريعة حمورابي بالقتل. من يحرم إنسانًا من حريَّته الإنسانيَّة يكون كمن قتله، فيستحق القتل.
5. الأسرة والتذمُّر:
حرصت الشريعة على استقرار الأسرة وتمتُّع كل عضو بالطمأنينة والحريَّة، كما اهتمَّت بروح الطاعة بغير تذمُّرٍ. لهذا إذ يشير إلى شريعة الأبرص يذكِّرنا بما حلَّ بمريم أخت هرون عندما تذمَّرت على أخيها موسى (عد 12: 14).
"احرص في ضربة البرص لتحفظ جدًا وتعمل حسب كل ما يعلِّمك الكهنة اللآويِّين.
كما أمرتهم تحرصون أن تعملوا.
أذكر ما صنع الرب إلهك بمريم في الطريق عند خروجكم من مصر" [8-9].
ذكر هنا موضوع ضربة البرص، لأنَّه بحسب الشريعة يلتزم الكاهن أن يدخل البيت ويفحص ما فيه لئلاَّ تنتقل العدوى إلى بقيَّة الأسرة، أو لئلاَّ يسقط البيت المضروب بالبرص (المصابة أساساته بخلل) فتموت كل الأسرة (لا 14: 33-53).
دخول الكاهن إلى البيت لا يُعتبر اقتحامًا لخصوصَّات الإنسان، لأنَّه كممثِّل لله يحمل أُبوَّة وحبًا. ثانيًا لأنَّه لا يدخل البيت كقاضٍ ولا ليُشهِّر بالأسرة، بل لكي يحفظ كل شيء مقدَّسًا، ولحماية الأسرة من الضرر.
6. الأسرة والقروض:
عاد مرَّة أخرى ليتحدَّث عن الرهن مقابل القروض. ففي الآية [6] حذَّر من رهن ما هو ضروري للقوت اليومي أو الحياة اليوميَّة كرهن الرحى. هنا يحذِّر من جرح مشاعر الإنسان الذي يقترض منه، فلا يدخل البيت ليرتهن شيئًا حتى لا يجرح حياء المدين، بل يبقى خارجًا. وإن كان فقيرًا ليس لديه سوى ثوب واحد للنوم، يلزم أن يردُّه عند الغروب حتى لا يبرد المدين.
"إذا أقرضت صاحبك قرضًا ما، فلا تدخل بيته لكي ترتهن رهنًا منه.
في الخارج تقف، والرجل الذي تقرضه يُخرج إليك الرهن إلى الخارج.
وإن كان رجلاً فقيرًا فلا تنم في رهنه.
ردّ إليه الرهن عند غروب الشمس، لكي ينام في ثوبه ويباركك،
فيكون لك برّ لدى الرب إلهك" [10-13].
البيت هو قلعة الإنسان، خاصة الفقير، يشعر أن الله يستر عليه به، فدخول المقترض بيت المدين ليرهن ممَّا لديه يشعره كأن قد فقد أمانه. إن كان المدين بسبب شدَّة احتياجاته يرهن بعض لوازم بيته، يليق بالدائن ألاَّ يهين كرامة المحتاج، لأن دخول بيت المدين وأخذ الرهن يُحسب في بعض البلاد بالشرق الأوسط امتهانًا لكرامته البشريَّة.
بهذا التشريع يعطي الله درسًا للدائن الغني نفسه، ليس فقط في مراعاته لكرامة أخيه المحتاج وإنَّما في نظرته لأسرته هو. بعض الأغنياء يهتمُّون بالمال ويتجاهلون وحدة الأسرة وسلامها وسعادتها. فإن كان الغني يلتزم بمراعاة أسرة الفقير، يلزمه بالأكثر أن يهتم أيضًا بأسرته هو، ووحدتها وقدسيَّتها.
يعلمنا القانون الإلهي أن نحرص على خصوصيَّات privacy الفقير، فلا نقتحم بيته، مهما تكن الظروف.
في منطقة الشرق الأوسط يمكن للفقير أن يستغني عن ثوبه الخارجي أثناء عمله في النهار، خاصة في الزراعة أو الأعمال اليدويَّة كالنجارة والبناء الخ. لكنَّه لا يقدر أن يستغني عنه في الليل حيث يستدفئ به، حتى في فصل الصيف، إذ كثيرًا ما يكون النهار حارًا والليل باردًا في المناطق الصحراويَّة.
إذ وبَّخ الله إسرائيل على شروره قال: "ويتمدَّدون على ثياب مرهونة بجانب كل مذبح" (عا 2: 8).
7. الأجير والأجرة:
كما يهتم الإنسان بأسرته يلزمه أن يهتم بعائلات الأجراء العاملين لديه في حقوله أو أعماله. فيكون عادلاً وسخيًا معهم، وحريصًا على مشاعرهم، فلا ينتظر من العامل أن يطلب أجرته في نهاية اليوم، بل يسرع هو بالعطاء.
"لا تظلم أجيرًا مسكينًا وفقيرًا من اخوتك أو من الغرباء الذين في أرضك في أبوابك.
في يومه تعطيه أجرته ولا تغرب عليها الشمس،
لأنَّه فقير وإليها حامل نفسه،
لئلاَّ يصرخ عليك إلى الرب فتكون عليك خطيَّة" [14-15].
يليق ألاَّ يظلم صاحب العمل الأجراء بالضغط عليهم بأعمال فوق قدراتهم، أو باستخدام ألفاظ غير لائقة وإهانتهم فيكون ظالمًا لهم. وكما يقول الرسول: "هوذا أجرة الفعلة الذين حصدوا حقولكم المبخوسة منكم تصرخ، وصياح الحصَّادين قد دخل إلى أذني رب الجنود" (يع 5: 4). إنَّها خطيَّة عظمى أن يتجاهل إنسان حق أخيه ولا يراعي نفسيَّته. لذلك إذ يصرخ قلبه من المرارة يستمع الرب نفسه إليه.
لا تميِّز الشريعة بين أجير إسرائيلي أو أجنبي، فإنَّه يليق بالمؤمن ألاَّ يظلم أحدًا قط، خاصة الفقراء والمحتاجين، بغض النظر عن جنسيَّته أو ديانته، فالرحمة والحب هما من سمات المؤمنين الحقيقيِّين.
8. المسئوليَّة الشخصيَّة:
كانت العادة لدى الأمم الوثنيَّة أن تسقط عقوبة مرتكب الجريمة على الأسرة كلها[258]. حقًا لقد هدَّد الله شعبه بأنَّه يفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضيه (خر 20: 5)، لكي يحذِّرهم من ثمار الخطيَّة المُرَّة وأثرها على الأبناء والأحفاد، ولكي يردعهم لأن الإنسان أحيانًا لا يبالي بالعقوبة التي تحل عليه، لكنَّه يخشى جدًا أن تحل على أولاده وأحفاده. يلزم ألاَّ يستغل القضاة هذا التهديد الإلهي ويظنُّون أن في سلطانهم معاقبة أحد أفراد الأسرة من أجل عضو آخر فيها.
إذ يتعرَّض للحياة الأسريَّة تؤكِّد الشريعة للقضاة ألاَّ يُعاقب عضو من الأسرة بسبب عضو آخر، إنَّما يلتزم كل واحد أن يتحمَّل مسئوليَّة نفسه.
"لا يُقتل الآباء عن الأولاد،
ولا يُقتل الأولاد عن الآباء.
كل إنسان بخطيَّته يُقتل" [16].
طبَّق أمصيا بن يوآش ملك يهوذا هذا المبدأ، فقد "قتل عبيده الذين قتلوا الملك أباه، ولكنَّه لم يقتل أبناء القاتلين حسب ما هو مكتوب في سفر شريعة موسى حيث أمر الرب قائلاً: لا يُقتل الآباء من أجل البنين، والبنون لا يُقتلون من أجل الآباء" (2 مل 14: 6).
اهتم حزقيال النبي بالحديث عن المسئوليَّة الشخصيَّة في شيء من التفصيل في الأصحاح 18.
9. الأسرة والرهن:
للمرَّة الثالثة يتحدَّث هنا عن الحذر عند الرهن."لا تعوِّج حكم الغريب واليتيم،
ولا تسترهن ثوب الأرملة.
واُذكر أنك كنت عبدًا في مصر ففداك الرب إلهك من هناك.
لذلك أنا أوصيك أن تعمل هذا الأمر" [17-18].
يليق بالقضاة ألاَّ يعوِّجوا الحكم بل يكونوا سندًا للغرباء والأيتام في الحق، يدافعون عنهم حيث لا يجدون أصدقاء يسندونهم في ضعفهم. يذكِّرهم الله بحالهم كعبيدٍ في مصر، فإذ ذاقوا الذل يلزمهم أن يدافعوا عن من هم في مذلَّة. فإن البعض، خاصة الذين عانوا من الحرمان متى تسلَّموا مركز قيادة عوض مشاركتهم للمحرومين ومساندتهم يكونون قساة. يوجد مثل عام يقول: ضع شحَّاذًا على ظهر خيل فيقوده إلى إبليس.
10. مراعاة المحتاجين أثناء الحصاد:
جاءت القوانين هنا تراعي مشاعر كل إنسانٍ، وجاء الناموس يبث بكل وسيلة وفي كل مناسبة روح الحب والحنو نحو البشريَّة، خاصة نحو المحتاجين والغرباء. أينما وجد المؤمن وفي كل الظروف يلزمه أن يتذكَّر الفقراء ويعمل لمساندتهم. فالمعطي يقدِّم العطاء دون جرح مشاعر المحتاجين أو الغرباء. وقد جاء القانون هنا تكملة لما ورد في سفر اللآويِّين (19: 9؛ 23: 22). فقد نهى الرب الحصَّادين من أن يكمِّلوا زوايا حقولهم في الحصاد، أو يلتقطوا ما يسقط من حصادهم، أو يعلِّلوا كرومهم، بل يتركون ذلك للمسكين والغريب.هنا نجد الاهتمام بالغريب واليتيم والأرملة دون جرح مشاعرهم، فإذا نسي الإنسان حزمة في الحقل لا يرجع ليأخذها، كما يلتزم أن يترك بعض الثمار في الأشجار (24: 19-21).
"إذا حصدت حصيدك في حقلك ونسيت حزمة في الحقل، فلا ترجع لتأخذها.
للغريب واليتيم والأرملة تكون، لكي يباركك الرب إلهك في كل عمل يديك.
وإذا خبطت زيتونك، فلا تراجع الأغصان وراءك.
للغريب واليتيم والأرملة يكون.
وأذكر أنَّك كنت عبدًا في أرض مصر.
لذلك أنا أوصيك أن تعمل هذا الأمر" [19-22].
هكذا نلاحظ في كل الشرائع الواردة في هذا الأصحاح يهتم الله ببث روح الحب واللطف مع العدل والبرّ والإرادة الصالحة بين البشريَّة، خاصة في الأسرة، لتكون خميرة مقدَّسة تخمر العجين كله، مع الاهتمام بالفقراء والمحتاجين والغرباء. هذا هو الخيط الذهبي الذي يربط الوصايا كلها معًا، ليس في سفر التثنيَّة وحده، بل على مستوى الكتاب المقدَّس كله.
خلال هذا القانون يتعلَّم الإنسان ألاَّ ينشغل باستمرار فيمن سينال العطاء، إذ يترك العناية الإلهيَّة تقود حياته وعطاياه، حتى فيما يبدو تافهًا كنسيانه حزمة في حقل أو بقايا زيتون على الشجرة.
من وحيّ تثنيَّة 24
هب لي أسرة مقدَّسة+ أبوَّتك الحانية تحتضنِّي على الدوام،
تهبني من كنيسة السماء أُمَّا لي،
ومن الملائكة اخوة أحباء!
يا لها من أسرة سماويَّة عجيبة.
أقمت من الأسرة هنا أيقونة لأسرة السماء.
لا تستطيع قوَّات الظلمة أن تتسلَّل إليها.
+ في القديم سمحت للرجل من أجل قسوة قلبه أن يطلِّق امرأته،
لكنَّك بقيت قلعة للأسرة،
ومدافعًا عن المرأة المطلَّقة!
الإنسان في غباوته يريد زوجته ألعوبة في يده،
وأنت الخالق تكرم كل رجل وامرأة!
هب لي أسرة مقدَّسة متَّحدة فيك.
لا تستطيع قوَّات الظلمة أن تتسلَّل إليها.
+ كل عروس تحلم بالشهر الأول من زواجها.
أمَّا أنت فأقمت من السنة الأولى حفل عرس دائم.
تريدنا أن نكون في فرح أسري لا ينقطع.
لكنَّه ليس فرح التهاون والتراخي،
بل فرح الإعداد للعمل والالتزام بالمسئوليَّة.
لم تسمح للمتزوِّج حديثًا أن يشترك في حربٍ ما.
لأختبر الاتِّحاد الزيجي الروحي، فترتبط نفسي بك.
وأصير جنديًا مجاهدًا بالحق.
+ كثيرون يشتهون أن يستعبدوا اخوتهم،
يشترونهم ويبيعونهم من أجل ربح زمني!
أمَّا أنت فصرت من أجل العبيد عبدًا،
سلَّمت ذاتك للخائن كعبدٍ مباع،
ووهبت العبيد حرِّيَّة أبديَّة!
أنت وحدك محرِّر النفوس.
لأتذوَّق عذوبة الحياة الأسريَّة،
فاشتاق أن يختبر الكل ما أحياه.
فلا أَسلب من أسرة إنسانًا وأبيعه للشرّ،
فأصير في عينيّ الله كقاتل نفس.
+ هب أن يكون لكل أسرة موضع خاص في قلبي.
إن اقترضت لا أرتهن شيئًا من ضروريَات حياتها.
ولا أجرح مشاعرها.
+ أنت أب الأيتام وقاضي الأرامل.
أنت قلعة المتألِّمين والمتضايقين.
أنت نصير العمَّال الأجراء المساكين.
أنت المترفِّق بالمدينين غير المقتدرين.
أنت مشغول بكل محتاج وفقير.
هب لي حبَّك، فأحمل روح لطفك!
هب لي فكرك، فأعيش من أجل الغير!
هب لي برَّك، فلا أظلم أحدًا.
أنت الحب كله، أنت البرّ ذاته،
لأقتنيك يا مصدر كل صلاح!
المراجع:
[254] Biblioth. Rab of Bartolocei, vol 4, p. 4450 (Adam Clarke Commentary).
[255] cf In Matt. hom. 17.
[256] Mishna: Gittin, 9:10.
[257] Lightfoot, Hor. Heb. Et Talm, on Matt. 5:31, opptom 2:290 (Pulpit Commentary, Deut., p. 381).
[258] Wsther 9:13,14; Herod. 3:118,119p Ammian: Marcell 23:6; Curtius 6:11.20 etc. Pulpit: Deut., p. 382.