تفسير الاصحاح الحادى والعشرون من سفر التثنية للقمص تادري يعقوب ملطى
شرائع خاصة بالقتيل بيدٍ مجهولة، وبالمسبيَّات، والابن البكر، الابن المعاند، والمعلََّّق على خشبة
تحدَّث في الأصحاح السابق عن المؤمن كجندي حقيقي يدخل المعركة تحت قيادة الله نفسه، يحارب الشر بكل قوَّة وحزمٍ، ويحمل روح الله واهب الحب فيترفَّق حتى بالأشجار فلا يدمِّرها أثناء معركته. الآن ينطلق بنا إلى دائرة الرحمة فيقدِّم لنا خلال شريعته أمثلة حيَّة للرحمة الحقَّة التي لا يمكن نزعها عن العدل، حتى لا تتحوَّل إلى نوع من التسيُّب. أراد المشرع تأكيد حقيقتين هامتين في هذا الأصحاح، وهما تقدير الحياة البشريَّة، والاهتمام بحقوق الإنسان، خاصة العاجز عن التمتُّع بحقوقه.
تحدَّث هنا عن الفئات المرذولة والمحتقرة أو المظلومة حتى نأخذ موقفًا إيمانيًا لائقًا. تحدَّث عن دم القتيل المجهول، والمسبيَّة التي تؤخذ زوجة ثم يعود فيطردها الزوج، والابن البكر من الأم المكروهة، والأب الذي يتمرَّد عليه ابنه، وجثمان من حُكم عليه بالإعدام وعُلِّق على خشبة. هذه عيِّنات متنوِّعة لفئات مرذولة أو مظلومة.
1. القتيل بيد مجهولة [1-9].
2. المسبيَّة التي تؤخذ زوجة [10-14].
3. حق البكوريَّة [15-17].
4. الابن المتمرِّد [18-21].
5. المعلَّق على خشبة [22-23].
1. القتيل بيدٍ مجهولة:
"إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعًا في الحقل لا يعلم من قتله.يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل" [1-2].
لا يستطيع أحد أن يدرك قيمة هذه الشريعة الخاصة بالاهتمام بالدم المسفوك بيدٍ مجهولةٍ إلاَّ ذاك الذي يدرس عادات الأمم في ذلك الحين، حيث كان دم الإنسان في نظرهم تافهًا لا يساوي شيئًا، أمَّا هنا فيُحسب ذلك جريمة على الأرض، وخطيَّة في نظر السماء لا يمكن غفرانها ما لم تكن الجماعة جادَّة في البحث عن القاتل. حياة كل إنسان هي موضع الاهتمام الإلهي نفسه.
سبق فقدَّم شريعة القاتل عمدًا (19: 11)، وكيف يُسلَّم في يد وليّ الدم فيموت، فيُنزع دم البريء من إسرائيل. في هذا الأصحاح يعالج الموقف إذا لم يُعرف من هو القاتل. إن وُجد إنسان قتيل لا يؤخذ الأمر بتهاون بل يلزم البحث عن القاتل في جدِّيَّة حتى لا تتنجَّس الأرض بسفك دمٍ بريء. وكما جاء في سفر إشعياء: "لأنَّه هوذا الرب يخرج من مكانه ليُعاقب إثم سكان الأرض فيهم، فتكشف الأرض دماءها، ولا تغطِّي قتلاها في ما بعد" (إش 26). تُعتبر الجماعة كلَّها المحيطة بالموقع الذي يوجد فيه قتيل بيدٍ مجهولة مذنبة في حقِّه وأمام الله، ما لم تعمل كل ما في وسعها حتى تكتشف القاتل وتحكم عليه. من أجل هذا يجتمع شيوخ المدن المجاورة وقضاتها لفحص الأمر[234].
أمال الله أذنيه ليسمع صوت دم هابيل الصارخ إليه من الأرض (تك 4: 10). إنَّه لا يطيق أن يسمع الأعذار البشريَّة: "لا أعلم، أحارس أنا لأخي؟!" (تك 4: 9).
جاءت الشريعة تؤكِّد الآتي:
أ. البحث الجاد عن القاتل، وفحص الشهود، ودراسة الظروف المحيطة بالجريمة، حتى يمكن الكشف عن مرتكب الجريمة، لكن إن لم يتمكَّن أحد من التعرُّف على المجرم فلا يجوز التسرُّع في اتِّهام أي شخص، حتى لا يُظلم أحد.
ب. يمارس الشيوخ الطقس التالي:
"فالمدينة القُربى من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يُحرث عليها،
لم تجرَّب بالنير،
وينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى وادٍ دائم السيلان لم يُحرث فيه ولم يزرع،
ويكسرون عنق العجلة في الوادي" [3-4].
جاء في سفر الخروج (13: 13) "كل بكر حمار تفديه بشاة، وإن لم تفده فتكسر عنقه". هذا الطقس ليس ذبيحة تقدَّم لله، وإنَّما هو عمل رمزي فيه يؤكِّد شيوخ المدينة التي بالقرب من القتيل أنَّه إن سقط القاتل بين أيديهم يكسرون عنقه بلا تردُّد. أمَّا اختيارهم لوادٍ لم يُحرث فيه ولم يزرع فإشارة إلى أنَّه بسبب هذه الجريمة تصير الأرض خربة لا تصلح للزرع. يرى بعض اليهود أنَّه إن لم يُكتشف القاتل ويُقتل تترك الأرض التي كُسر فيها عنق العجلة قفر، لا تُزرع.
ج. "ثم يتقدَّم الكهنة بنو لاوي،
لأنَّه إيَّاهم اختار الرب إلهك ليخدموه ويباركوا باسم الرب،
وحسب قولهم تكون كل خصومة وكل ضربة" [5].
هكذا سفك دم إنسان يربك كل الحكام (الشيوخ) والقضاة والكهنة ليعمل الكل معًا من أجل اكتشاف القاتل.
يتقدَّم "الكهنة بنو لاوي" بكونهم خدَّام الله ملك إسرائيل، وملتزمين أن يحرصوا على إتمام الشريعة الإلهيَّة بكل أمانة. هنا يحضر الكهنة الساكنون في أقرب مدن اللآويِّين المجاورة للموضع الذي وُجد فيه القتيل. حضورهم أيضًا يُعطي للموقف قدسيَّته، ويكشف عن خطورته، يعلنوا حضرة الله نفسه ليفصل في القضيَّة. الله نفسه يهتم بهذا الأمر.
د. "ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي،ويصرِّحون ويقولون:
أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر.
اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب،
ولا تجعل دم بريء في وسط شعبك إسرائيل.
فيُغفر لهم الدم.
فتنزع الدم البريء من وسطك إذا عملت الصالح في عينيّ الرب" [6-9].
إذ يغسل جميع الشيوخ أياديهم على العجلة المكسورة العنق يعلنون أنَّهم أبرياء من سفك الدم، وأن المدينة كلها تلتزم أن تعلن عن الحق، وتكشف عن القاتل. كأنَّهم يقولون مع المرتِّل: "اَغسل يدي في النقاوة، فأطوف بمذبحك يا رب" (مز 26: 6).
"حقًا قد زكًّيت قلبي باطلاً، وغسلت بالنقاوة يديَّ" (مز 73: 13). أنَّهم يعترفون أنَّهم ليس قط لم يسفكوا هذا الدم البريء بل ولم يستطيعوا أن يتعرَّفوا على القاتل لتسليمه لوليّ الدم. أمَّا بيلاطس فقد غسل يديه وهو يقول: "إنِّي بريء من دم هذا البار" (مت 27: 24). لكن قوله هذا لم يعفه من المسئوليَّة، فإنَّه لا يستطيع أن يقف أمام الله ويقول: "أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر". غسل يديه لا يجعله بريئًا من سفك دم السيِّد المسيح.
هـ. يُصلِّي الشيوخ (والكهنة) لكي يغفر الله لشعبه، فلا يتحمَّل الشعب هذا الجُرم بسبب قاتلٍ ارتكب جريمته خِفية وهرب. إن كان كل شخص مسئول عن خطئه هو وليس عن أخطاء الغير، لكن الجماعة ككل تلتزم بالعمل والصلاة من أجل الحياة الجماعيَّة المقدَّسة. عندما حزن شعب أهل كورنثوس من أجل إنسانٍ واحدٍ سقط في خطيَّة الزنا، قال الرسول: "فإنَّه هوذا حزنكم هذا عينه بحسب مشيئة الله كم أنشأ فيكم من الاجتهاد، بل من الاحتجاج، بل من الغيظ، بل من الخوف، بل من الشوق، بل من الغيرة، بل من الانتقام؛ في كل شيء أظهرتم أنفسكم أنَّكم أبرياء في هذا الأمر" (2 كو 7: 11).
من هو هذا القتيل إلاَّ البشريَّة التي حطَّمتها الخطيَّة؟! من يزيل إثمها إلاَّ ذبيحة السيِّد المسيح البار؟!
لا نعجب من الضغط الذي تضعه الشريعة على قادة المدن المجاورة لموقع الجريمة، فإنَّه في علم النفس الجنائي الحديث اكتشف العلماء أن مرتكب الجريمة غالبًا ما يحوم حول الجريمة، لهذا كثيرًا ما يكتشف الجاني بمراقبة موقع الجريمة في شيء من السريَّة وملاحظة المتردِّدين على الموقع.
غالبًا ما ترتكب جرائم القتل خِفية، لأنَّها من عمل عدوّ الخير رئيس مملكة الظلمة، لذا طالبت الشريعة أن يكون البحث عن الجاني علانيَّة في النور، حتى تسير الأمور في طريقها الصحيح.
2. المسبيَّة التي تُؤخذ زوجة:
إذ عالجت الشريعة موضوع الزواج بالمسبيَّات أوضحت حقوق الزوجات إن حدث تعدُّد زوجات، وإن كان هذا التعدُّد لم يكن مقبولاً. يمكننا القول بأنَّه من أجل قسوة قلوبهم سُمح للجنود، حسب الشريعة الموسويَّة، أن يتزوَّج الجندي بالسيِّدة التي يسبيها في الحرب، إن أراد ذلك. وقد سُمح له بذلك حتى لا يسقط في الدنس معها دون زواج، فيكون في وسط إسرائيل حرام، ويحلّ غضب الرب على الجيش كلُّه. لكن يلزمهم ألاَّ يُسيئوا استخدام هذا السماح إذ وضعت له قوانين وحدود.
واضح، كما يقول اليهود، أن الرجل هنا متزوِّج، فيُسمح له بالزوجة الثانية المسبيَّة. هنا ينسحب قلب الجندي وراء عينيه اللتين تنظران إلى امرأة فيراها جميلة ويشتهيها. أمَّا في العهد الجديد فقد حُسبت النظرة وراء الشهوة خطيَّة زنا، إذ تطالبنا شريعة المسيح ألاَّ نشتهي، فلا ينسحب القلب وراء النظرة الخاطئة.
أ. مهما كانت رغبة الجندي، ومهما بلغ جمال المرأة المسبيَّة، يجب ألاَّ يتسرَّع في الالتصاق بها، إنَّما يجب أولاً أن يتَّخذها لنفسه زوجة [11].
"إذا خرجتَ لمحاربة أعدائك ودفعهم الرب إلهك إلى يدك وسبيت منهم سبيًا.
ورأيت في السبي امرأة جميلة الصورة والتصقت بها واتَّخذتها لك زوجة" [10-11].
ب. إن كانت المرأة مسبيَّة فمن حقِّه أن يتزوَّجها دون أن يطلب رضا والديها. لكنَّه يلتزم ألاَّ يقترب منها إلاَّ بعد شهر من الزمان، إذ قيل:
"فحين تدخل إلى بيتك تحلق رأسها وتقلِّم أظافرها،
وتنزع ثياب سبيها عنها،
وتقعد في بيتك،
وتبكي أباها وأمها شهرًا من الزمان،
ثم بعد ذلك تدخل عليها وتتزوَّج بها، فتكون لك زوجة" [12-13].
حلْق رأسها يرمز للحزن في ذلك الوقت في البلاد الشرقيَّة. سمح بذلك أولاً لكي لا يكون الجمال هو عِلَّة الزواج بها، فإنَّها تحلق شعرها وتقلِّم أظافرها، عندئذ لا يكون قرار الزواج فيه تسرُّع بسبب الجمال الجسدي. هذا ومن جانب آخر لا يشبع رغبته الجسديَّة على حساب مشاعرها، فيتركها وحدها لمدَّة شهر ترثي حالها وتبكي والديها اللذين فقدتهما.
ويرى البعض في حلق رأسها علامة على جحدها عبادتها الوثنيَّة ودخولها إلى الإيمان بالله الحيّ. فإنَّها مع التغيير الخارجي لمظهرها يلزم أن تقبل تغييرًا داخليًا بالإيمان الصحيح. لهذا يرى اليهود أن المرأة المسبيَّة التي ترفض قبول الإيمان لا يمكن أن تُقبل كزوجة. تقليم الأظافر التي كانت النساء في منطقة الشرق يزيِّنونها بالحنَّة، خاصة عند الزواج يعني حزنها على ترك أسرتها.
إنَّها لا تبكي لحرمانها من ممارسة العبادة الوثنيَّة، بل من الالتصاق بوالديها، ونوال رضاهما وبركتهما في الزواج، والحرمان من بقيَّة أفراد أسرتها.
مدَّة بكائها هو شهر كامل، وقد جاءت الترجمة الحرفيَّة "شهر من الأيَّام"، هذا وقد كانت فترة الحزن هي أربعين يومًا (تك 50: 3). فإن كان رقم 40 يشير إلى كل أيَّام غربتنا، لذا صام موسى النبي، وإيليَّا، والسيِّد المسيح أربعين يومًا كرمز للحياة النسكيَّة كل أيَّام غربتنا، فإن بكاء المسبيَّة لمدَّة أقل من 40 يومًا يشير إلى عدم تجاهل مشاعرها البشريَّة بالسماح لها بالبكاء لكن ليس كل المدَّة، لأن زوجها يعوِّضها هذا الحزن ويهتم بإسعادها. لتحزن ولكن في رجاء أن حياتها الجديدة تعوِّضها ما قد فقدته، وربَّما أكثر ممَّا حُرمت منه، إذ لا تُعامل كمسبيَّة بل كزوجة، وكإحدى أفراد الأسرة. إنَّها تدخل في عضويَّة شعب الله.
ج. "وإن لم تسرّ بها فأطلقها لنفسها.
لا تبيعها بفضَّة،
ولا تسترقَّها من أجل أنَّك أذللتها" [14].
لأنَّه قبلها زوجة، فإن لم يُسر بها لا يجوز له أن يعاملها كقطعة أثاث يبيعها، أو كعبدةٍ، أو أسيرةٍ يسلِّمها لغيره، إنَّما يطلقها بكامل حرِّيَّتها. لها حق العودة إلى بلدها، لأنَّه أذلَّها وأحزنها.
يرى بعض الآباء مثل العلامة أوريجانوس والقدِّيس جيروم أن هذه المرأة المسبيَّة الجميلة هي الفلسفة الزمنيَّة والحكمة البشريَّة، فإنَّه يليق بالمؤمن أن يستخدم هذه الفلسفة أو الحكمة بشرط نزع كل ما تحمله من أفكار خاطئة ميِّتة. حلق الشعر وتقليم الأظافر يشير إلى ذلك.
+ نقرأ في التثنيَّة الأمر الذي يصدره صوت الرب بأن يُحلق شعر رأس المرأة المسبيَّة وجفون عينيها وكل شعرها مع تقليم أظافرها، بعد ذلك يمكن أن تصير زوجة.
هل في هذا عجب؟ أنا أيضًا إذ أعجب بجمال شكل الحكمة الزمنيَّة ونعمة بلاغتها، مشتاقًا أن أجعل من الأسيرة لديّ والعبدة زوجة لإسرائيل الحقيقي أقوم بحلق وقطع كل ما هو ميِّت فيها، سواء كان هذا عبادة أوثان أو لذَّة أو خطأ أو شهوة، آخذها طاهرة ونقيَّة، فألِدْ منها خدَّامًا لرب الصباؤوت؟
يتحدَّث إشعياء النبي عن موسى حاد به يُحلق "رأس الخطاة، وشعر أقدامهم" (إش 7: 20)، وحزقيال يحلق رأسه كرمز لأورشليم التي صارت زانية، كعلامة على الالتزام بنزع
كل ما فيها ممَّا هو بلا إحساس ولا حياة[235].
القدِّيس جيروم
بلا شك تسبِّب الحروب ارتباكات كثيرة أثناء المعارك وما بعدها. لكن هذا لا يعطي الجندي عذرًا ليتصرَّف مع الفتاة المسبيَّة بغير لياقة. ليكن الارتباك في الخارج، لكن يلزم ألاَّ يمس قلبه أو فكره أو تصرُّفاته. ليكن كل شيء في اتِّزان وبحكمة.. لا تدخل الحرب إلى قلبه ولا تفسد مبادئه وقيَمِه.
ليس هناك وجه مقارنة بين ما ورد هنا عن حقوق المرأة المسبيَّة المختارة زوجة وبين ما كانت الأمم تفعل بالنساء المسبيَّات. لقد قدَّمت الشريعة أقصى ما يمكن أن يحتمله إنسان اقتنى فتاة مسبيَّة لكي يحترم كرامتها. فإنَّها إذ تصير زوجته عليه أن يدرك أنَّها ليست دُمية يلهو بها حسب أهوائه الجسديَّة، بل يحترمها كابنة إسرائيل، تشاركه عبادته لله الحيّ وحبُّه لله وخضوعه الناموس الإلهي. إن لم يهبها هذه الحقوق فليتركها لتتمتَّع بأثمن عطيَّة بشريَّة وهب "التحرُّر من العبوديَّة".
لقد قدَّمت الشريعة أساسًا حيًّا بقبول الإنسان فيما بعد الفكر المسيحي أنَّه في المسيح يسوع "ليس رجل وامرأة"، بل الكل أعضاء متساوية في الكرامة في جسد المسيح الواحد.
تقدِّم لنا هذه الشريعة صورة حيَّة عن قوَّة الحب. فإنَّه حتى في الحروب حيث يسيطر الغضب وحب سفك الدماء على كثيرين، متى سقطت فتاة مسبيَّة بين يديّ جندي، أن تحرِّك فيه الحب، فالحب يحرِّرها! الحب يزيل روح العبوديَّة لتحتل الحريَّة موضعها!
إن كان حب الجندي المقاوم والعدو ينتزع من السيِّدة روح العبوديَّة ويدخل بها إلى "بيت إسرائيل" لتمارس الحياة بحريَّة كاملة، فماذا يفعل الحب الإلهي بالنفس الخاضعة لعبوديَّة الخطيَّة؟ حب الله حرَّرنا من عبوديَّة إبليس ودخل بنا إلى "أهل بيت الله".
3. حق البكوريَّة:
بعد أن تحدَّث عن حقوق المرأة المسبيَّة التي يحبَّها مؤمن، أشار إلى حقوق الابن البكر المولود من زوجة مكروهة من رجلها. بروح العدالة لا يعامل الرجل ابنه الأكبر حسب مشاعره من نحو والدته، إنَّما يلتزم الأب باحترام حق البكوريَّة.
"إذا كان لرجل امرأتان إحداهما محبوبة والأخرى مكروهة،
فولدتا له بنين، المحبوبة والمكروهة.
فإن كان الابن البكر للمكروهة.
فيوم يقسم لبنيه ما كان له لا يحلّ له أن يقدِّم ابن المحبوبة بكرًا ليعطيه نصيب اثنين من
كل ما يوجد عنده،
لأنَّه هو أول قدرته له حق البكوريَّة" [15-17].
أ. يظهر هذا القانون مساوئ تعدُّد الزوجات، كيف تسبِب للرجل متاعب حتى في علاقته بأبنائه.
ب. يظهر هذا القانون عناية الله العجيبة، فإنَّه غالبًا ما يهب الله للرجل ابنه البكر من المرأة التي يبغضها حتى يحبَّها من أجل ابنه البكر أو أبنائه. هذا ما نراه في قصَّة يعقوب الذي أحب راحيل وأبغض ليئة (تك 29: 31)، ففتح الله رحمها ووهب ليئة أبناء وكانت أمًّا لابنه البكر.
ج. يليق بالوالدين ألاَّ يتعاملوا مع الأبناء في محاباة. حقًا حرمْ يعقوب ابنه البكر رأوبين حق البكوريَّة، لكن ليس لأنَّه كان يبغض أمُّه، وإنَّما لأن الابن أهان بكوريَّته بسلوكه. إن كان الوالدان عاجزين على ممارسة الحب الكامل تجاه بعضهما البعض، وهذا له خطورته العظمى حتى على الأطفال، فإنَّه على الأقل يلزم ألاَّ يفقد الوالدان روح العدالة في التعامل مع أبنائهما حتى في تحديد الميراث بعد انتقالهما من هذا العالم. يليق بهما أن يكونا عادلين متى كتبا وصيَّة خاصة بالميراث.
د. "لا يحل" للأب أن يختار ابن المحبوبة ويحسبه بكرًا، متجاهلاً البكر الحقيقي المولود من المكروهة. وقد جاءت الترجمة "لا يقدر"، بمعنى أن الشريعة الإلهيَّة تجعله عاجزًا عن تنفيذ مشاعره الخاطئة. هذا ويلاحظ أن بعض الأمم كانت تعطي البكر حق أخذ كل الميراث ويكون أشبه بأب اخوته، يعمل الكل تحت ظلُّه في بيت كبير mass family.
هـ. الإنسان الروحي يحب الآخرين كأبناء أبكار له، فيود أن يقدِّم لهم ضعفًا في وصيَّته الوداعيَّة، بل ويشتهي أحبَّاؤه الروحيِّين في جرأة أن ينالوا هذا الميراث. هذا ما اشتهاه اليشع النبي حيث طلب من معلِّمه إيليا النبي: "ليكن نصيب اثنين من روحك عليَّ" (2 مل 2: 9).
إن كانت إسرائيل قد صارت كزوجة مكروهة بسبب إصرارها على خطاياها حتى سلَّمها الله كتاب طلاقها خلال الأنبياء، فقد جاء السيِّد المسيح ابنًا لهذه الأمَّة: "إلى خاصَّته جاء وخاصَّته لم تقبله" (يو 1: 11). مع هذا فهو البكر الوارث الحقيقي، من يرتبط به يرث معه حتى وإن كانت أسرته أو والداه أشرارًا. هكذا لا نخف من انتسابنا لوالد ووالدة غير مقدَّسين، فإنَّنا في عينيّ الآب السماوي أبناء أبكار، لنا حق الميراث المضاعف.
يعتز المؤمن ببكوريَّته، إذ صار عضوًا في كنيسة الأبكار. يقول القدِّيس أكليمندس السكندري:
+ هذه هي الكنيسة البكر (عب 12: 23) تضم أبناء صالحين كثيرين، هؤلاء هم الأبكار الذين يُسجَّلون في السماء، ويمارسون عيدًا ساميًا مع ربوات الملائكة. نحن أيضًا أبناء أبكار، الذين يقومون بواسطة الله، نحن الأصدقاء الحقيقيُّون للبكر، الذين ننال معرفة الله أولاً وقبل كل شيء[236].
4. الابن المتمرِّد:
"إذا كان لرجل ابن معاند ومارد، لا يسمع لقول أبيه ولا لقول أمُّه، ويؤدِّبانه فلا يسمع لهما.
يمسكه أبوه وأمُّه، ويأتيان به إلى شيوخ مدينته وإلى باب مكانه.
ويقولان لشيوخ مدينته: ابننا هذا معاند ومارد لا يسمع لقولنا وهو مسرف وسكِّير.
فيرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت،
فتنزع الشرّ من بينكم، ويسمع كل إسرائيل ويخافون [18-20].
لم ترد هذه الشريعة الخاصة بمحاكمة الابن العاق إلاَّ بعد أن قدَمت الشريعة الكثير عن مسئوليَّة الوالدين في ممارسة الحب الحقيقي والسلوك كأسرة مقدَّسة، وتقديم حياتهما كمثال حيّ للأبناء، مع خلق جو مناسب للتربية اللآئقة بالأنبياء. لقد ركَّزت الشريعة على مسئوليَّة الوالدين قبل إدانة الأولاد.
جاءت هذه الشريعة لتؤكِّد حقيقة هامة أنَّه في كل مجتمع، وفي كل جيل يوجد أولاد صالحون وأولاد أشرار. فلو أن الجميع صالحون فلا حاجة لهذا التشريع، ولو أن الكل أشرار فلا نفع منه أيضًا.
سبق لنا الحديث عن عقوبة إهانة الوالدين[237]. رأى العلامة أوريجانوس إن العناد مع الوالدين الجسديِّين هو ظل للعناد ضد الوالدين السماويِّين: الله الآب وأورشليم العليا أمِّنا، فيقول:
[إن كان الحكم هكذا لمن يسب أسرته الجسديَّة، فكم بالأكثر من يهين الله بكلمات سب، وينكرون أنَّه خالق العالم؟! أو من يسيء إلي أورشليم السماويَّة التي هي أمِّنا كلِّنا (غلا 4: 26)؟![238]]
العصيان مع العناد يشبه التجديف، ولابد من معاقبته بنفس العقاب، والمفروض أن ذلك يتم بعد أن فشل الوالدان في تقويمه. ويلاحظ في العقوبة هنا الآتي:
أ. تتم جريمة التمرُّد ليس بسبب عجز الابن أو عدم قدرته على تنفيذ طلبات والديه أو عجزه في إدراكها، وإنَّما عن إرادة شرِّيرة وعنادٍ. أنَّه يبغض أن يصلح من شأنه، أو يخجل من انتسابه لوالديه أو عائلته، ممَّا يحزن قلبيهما ويحطِّمهما.
ب. يركِّز على خطيَّة الإسراف والسكر [20]، فإنَّها تفقد الابن عقله ليسلك بعنادٍ، مقاومًا والديه. فإن السكر يجعل الإنسان ينسى كل الشرائع. لذا كانت وصيَّة الأم لابنها لموئيل الملك: "ليس للملوك يا لموئيل، ليس للملوك أن يشربوا خمرًا ولا للعظماء المسكر، لئلاَّ يشربوا وينسوا المفروض ويغيِّروا حجَّة كل بني المذلَّة" (أم 31: 5).
يربط النص العناد بالإسراف والسكر؛ وكان ذلك في نظر اليهود جريمة كبرى. عندما تحدَّث السيِّد المسيح عن الابن الضال ذكر أنَّه بدَّد ميراثه في عيشة مسرفة. وفي سفر الأمثال يعطي الويل "للذين يدمنون الخمر الذين يدخلون في طلب الشراب الممزوج" (أم 23: 30). كما قيل: "الحافظ الشريعة هو ابن فهيم وصاحب المسرفين يُخجل أباه" (أم 28: 7).
د. لا ينفرد الأب ولا الأم بالشكوى ضد الابن، بل يلزم أن يتَّفق الاثنان معًا على أنَّه معاند ومسرف وسكِّير. وحتى في اتِّفاقهما معًا لا يستطيعان الحكم عليه دون الالتجاء إلى الشيوخ، حيث يذهبان إلى موضع القضاء، ويدرس الشيوخ الأمر ويتحقَّقان منه قبل صدور الحكم.
هـ. يقدِّم الوالدان الشكوى للشيوخ، "فيرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت، فتنزع الشرّ من بينكم ويسمع كل إسرائيل ويخافون" [21]. يصعب جدًا على الوالدين أن يشتكيا ابنهما المتمرِّد وهما يعلمان أنَّه يُحكم عليه بالرجم حتى يموت.
لكن الله سمح بذلك في العهد القديم لكي يُدرك الكل خطورة تربية الأبناء. فإن كان الإنسان بحسب مشاعره الطبيعيَّة يصعب عليه قبول ذلك، فماذا يكون موقفه وهو يدرك أنَّه بإهماله يسلِّم أولاده لا للرجم بل للنار الأبديَّة؟! إن ما يشغل فكر الله لا المشاعر الإنسانيَّة المجرَّدة، وإنَّما الخلاص الأبدي والمصير النهائي للإنسان. لقد طالبت الشريعة أن تكون المحاكمة علنيَّة يقوم بها الشيوخ؛ هذا يعطي الفرصة لأهل المدينة أن يشهدوا إن كان هذا العقوق بسبب إهمال الوالدين أو عنفهما أو انحلالهما، حتى لا يُظلم الأبناء.
و. وُضع هذا القانون لكي يراجع الإنسان نفسه، فإن كان العناد مع الوالدين يدفع بالإنسان إلى الرجم، فماذا يكون العناد مع الله نفسه؟!
ز. الخطيَّة، خاصة العناد، تفسد الأرض، لذا قيل: "فتنزع الشر من بينكم". وكما يقول المرتِّل: "باكرًا أبيد جميع أشرار الأرض لأقطع من مدينة الرب كل فاعلي الإثم" (مز 101: 8). خطيَّة العقوق مع الإسراف والسكر موجَّهة ليس فقط ضد الوالدين بل ضد الجماعة كلَّها، لهذا تتم عقوبة المصرّ على العصيان علانيَّة أمام كل الجماعة التي يخطئ الابن العاق في حقِّها. الإنسان العاق يحطِّم سلام بيته، وينقل هذا الوباء إلى زملائه ليفسد الآخرين. لقد حذَّرنا الرسول بولس من تصرُّفات الآباء التي تسبِّب هذا الوباء، إذ يقول: "أيُّها الآباء لا تغيظوا أولادكم". فالابن يحتاج أن يعيش في جو من الحب حتى لا ينحرف إلى العنف والفساد. إنَّها مسئوليَّة الوالدين.
ح. يحكم على الابن العاق بالرجم (21: 18-21)، هكذا يكشف عن خطورة العقوق.
5. المعلَّق على خشبة:
"وإذا كان على إنسان خطيَّة حقَّها الموت فقُتل وعلَّقته على خشبة،
فلا تبِتْ جثَّته على الخشبة، بل تدفنه في ذلك اليوم،
لأن المعلَّق ملعون من الله،
فلا تنجِّس أرضك التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا" [21-23].
العقوبة بالإعدام مع ترك الجسد معلَّقًا على خشبة أو على شجرة أو على الصليب إلى فترة ما كان يُقصد بها الكشف عن خطورة الجريمة وبشاعتها. على ما أظن أن الشريعة قد سمحت لجثمان المجرم أن يعلَّق على الشجرة لا للتشهير به، وإنَّما ليكون عبرة لغيره، فلا يُسمع بل يُرى منظر المجرم المعلَّق على خشبة فيخاف الكل. ومع هذا فإن الشريعة تؤكِّد تقديرها للأجساد، فلم تسمح أن يُترك جسد المجرم المعلَّق على خشبة إلى ما بعد الغروب، بل يلزم دفنه.
يرى كثير من الدارسين أن التعليق على خشبة كان يتم بعد موت المجرم، وليس كوسيلة لموته.
عندما بدأ الشعب يزني مع بنات موآب وجذبن الشعب نحو الذبح للأوثان وتعلَّق إسرائيل بالوثن بعل فغور صدر الأمر الإلهي لموسى النبي: "خذ جميع رؤوس الشعب وعلِّقهم للرب مقابل الشمس فيرتد حمو غضب الرب عن إسرائيل" (عد 25: 5).
كانت عادة التعليق على خشبة منتشرة عند الأمم، فعند تفسير يوسف الحلم لخبَّاز فرعون ملك مصر قال له: "يرفع فرعون رأسك عنك ويعلِّقك على خشبة وتأكل الطيور لحمك عنك" (تك 40: 19). واضح هنا أن الحكم يصدر أولاً بقطع رأسه وبعد ذلك يُعلَّق جثمانه وذلك للأسباب التالية:
أولاً: مهما بلغت بشاعة الخطيَّة، فإن الله يهتم أن تدفن الأجساد في القبور. أراد الله حفظ تكريم الأجسام البشريَّة حتى بالنسبة لأشر المجرمين. حقًا يسمح الله بالتأديب، ولكن في حدود حتى لا تُهان الطبيعة البشريَّة، يسمح بالجلد ولكن في حدود، ويسمح عند الضرورة بالإعدام، ولكن لا يبقى الجسد أكثر من نهارٍ واحدٍ.
ثانيًا: إن كان يُسمح بترك الجسم معلَّقًا في النهار، فإن الله يريدنا ألاَّ نبالغ في الخوف من الخطيَّة، وألاَّ يسيطر ذلك علينا. لنذكر خطايانا كي نتوب، لكن لتُدفن أيضًا، وننشغل بالله غافر الخطيَّة.
ثالثًا: تقدَّم هذه الشريعة طقسًا دينيًا، فبحسب الشريعة يحمل جثمان الميِّت دنسًا، لأن الموت جاء إلى العالم كثمرة للخطيَّة. فلا يبقى الجثمان غير مدفون حتى لا تتدنَّس أرض المدينة كلَّها.
رابعًا: جاءت هذه الشريعة تمس موضوع خلاصنا. ولم يوجد عار أحطّ من هذا لينزل إليه المسيح مخلِّصنا (غل 3: 13) وقد حاول حكام اليهود عبثًا أن يبعدوا اللعنة بالتمسُّك بحرفيَّة هذا الناموس (يو 19: 31). فقد قبل السيِّد المسيح أن يموت صلبًا، إذ وهو لا يعرف الخطيَّة صار خطيَّة لأجلنا. صار واهب البركة حاملاً لعنة الناموس عنَّا، فصار معلَّقًا على الصليب كمن لا يستحق أن يوجد في السماء ولا على الأرض، لكنَّه يُدفن قبل الغروب حتى يقتل اللعنة ويهبنا فيه الحياة المقامة.
وكما يقول الرسول بولس: "المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا، لأنَّه مكتوب ملعون كل من عُلِّق على خشبة، لتصير بركة إبراهيم للأمم في المسيح يسوع لننال بالإيمان موعد الروح" (غلا 3: 13-14). لقد قبل مسيحنا اللعنة من أجل تقديسنا.
ويقول القدِّيس بطرس الرسول: "الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة، لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبرّ" (1 بط 2: 24). وكما يقول القدِّيس يوحنا المعمدان: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطيَّة العالم" (يو 1: 29).
لقد احتلَّ مخلِّصنا مكاننا لكي نحتل مكانه، قبل الصليب بكل سرور. "ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمِّله يسوع الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي، فجلس في يمين عرش الله: (عب 12: 2). هذا العمل الفدائي العجيب موضع سرور الآب: "أمَّا الآب فسرَّ بأن يسحقه بالحزن؛ أن جعل نفسه ذبيحة إثم" (إش 35: 10). سرّ الآب الذي قدَّم ابنه الحبيب ذبيحة إثم، أن يحمل اللعنة عنَّا، لكي يدخل بنا إلى برِّه ومجده.
يروي لنا الإنجيلي يوحنا: "ثم إذ كان استعداد فلكي لا تبقى الأجساد على الصليب في السبت، لأن يوم ذلك السبت كان عظيمًا. سأل اليهود بيلاطس أن تُكسر سيقانهم ويُرفعوا" (يو 19: 31).
+ إن سأل أحد من شعبنا، ليس عن حب الحوار بل عن حب التعلُّم: "لماذا لا يحتمل الموت بطريق آخر غير الصليب؟ فليقل له أيضًا أنَّه ليس من طريق آخر غير هذا نافع لنا، وأنَّه حسنًا أن الرب يحتمل هذا من أجلنا. فإنَّه هو نفسه جاء لكي يحمل اللعنة التي حلَّت بنا، إذ كيف يمكن أن يصير هو لعنة (غلا 3: 13) ما لم يتقبَّل الموت الذي يحمل لعنة؟ هذا هو الصليب[239].
البابا أثناسيوس الرسولي
+ كان الموت على الصليب في أعينهم دنسًا عظيمًا إذ لم يدركوا أنَّه كان نبوَّة.. هذا الموت الذي لنا، الذي وُجد أصله في الخطيَّة، قد حمله بنفسه وسمره على الخشبة[240].
القدِّيس أغسطينوس
أخيرًا ما يؤكِّده هذا الأصحاح بخصوص كل الحالات المذكورة أنَّه حتى في العهد القديم يهتم الله بكل إنسان شخصيًا، فمن أجل دم قتيل واحد يحل بغضبه على كل المدن المجاورة له، إن أهملت في البحث عن القاتل؛ ومن أجل جثمان مجرم يُترك معلَّقًا على خشبة إلى الليل تتدنَّس الأرض كلَّها! هكذا يؤكِّد الله اهتمامه بكل إنسان شخصيًا. وفي العهد الجديد أعلن السيِّد المسيح أنَّه ليس مشيئة الله أبينا أن يهلك أحد الأصاغر (مت 18: 14)، وأن ملائكة الله تفرح بخاطئ واحدٍ يتوب (لو 15: 10)، وأن من قبِل ولدًا واحدًا باسمه فقد قبِلَه (مت 18: 5).
السيِّد المسيح لم تشغله الجماهير التي تزحمه عن زكَّا، بل أوقف الموكب كلُّه لكي يدعو نفسه للدخول إلى بيت زكَّا الذي طلب أن يرى يسوع من هو (لو 19: 2). لقد اهتم بنازفة الدم وسط الجماهير فقال: "من الذي لمسني؟" (لو 8: 45). قال بطرس والذين معه: "يا معلِّم الجموع يضيِّقون عليك ويزحمونك وتقول من لمسني؟!"
من وحيّ تثنيَّة 21
لألتقي بك خلال المرذولين!+ لالتقي بك يا من صُلبت خارج المحلَّة،
صرت مطرودًا ومرذولاً!
حتى يلتقي بك المطرودون والمرذولون،
والذين لا يجدون من يسأل عنهم.
أراك تلتقي بي،
فإنَّه ليس من يضمَّني غيرك.
تبحث عن ضعفي أنا المرذول،
لأبحث أيضًا فأجدك بين المرذولين،
والتقي بك بين المطرودين!
+أنت تهتم بالدم البريء، المسفوك بيدٍ مجهولة!
لا تترك الظلم يدنِّس الأرض.
تطلب من شعبك أن يهتمُّوا بالدم المسفوك،
وفي نفس الوقت لا يتهمُّوا أحدًا بتسرُّع!
ليغسل الكل أيديهم في النقاوة،
لا يتستَّروا على سافك الدم.
ولا يتهمُّوا أحدًا ظلمًا.
+ قتلَتني الخطيَّة وألقت بي أرضًا،
صرت جثمانًا بلا حياة!
ليس من يتطلَّع إليَّ ولا من يسأل عنِّي.
نزلت إليَّ وتطلَّعت إليَّ.
انتقمت لدمي بصليبك،
فسمَّرْت الخطيَّة وشهَّرت بعدو الخير.
بعثت فيَّ الحياة، ووهبتني القيامة!
لم أعد جثمانًا ملقيًّا بدمه على الأرض،
بل صرت ابنًا لله أتمتَّع بالأمجاد!
+ تهتم بمشاعر سيِّدة مسبيَّة وثنيَّة فقدت أسرتها وبلدها!
تطلب منها أن تبكي والديها ولا تبكي أوثانها.
تحفظ حقوقها حتى لا يحطِّمها من سباها!
يا لك من إله حكيم ورقيق للغاية!
أنت تهتم بنفسي،
لقد سبتها الخطيَّة وأذلَّها عدو الخير.
حرَّرتني وحملتني إلى حجالك.
سكبت بهاءك عليَّ!
وأقمت منِّي ملكة!
+ تهتم بالزوجة غير المحبوبة من رجلها.
غالبًا ما تهبها الابن البكر.
وتهتم بمشاعر ابنها!
+ جعلت منِّي بكرًا يا أيُّها الوحيد والفريد في البكوريَّة.
أمِّي الكنيسة محبوبة جدًا لدي عريسها،
أولادها جميعًا صاروا أبكارًا.
يتمتَّعون بميراث أبدي مضاعف.
+ تهتم بخلاص الابن المتمرِّد.
تسمح بالحزم الشديد معه من أجل أبديَّته.
تعلن لوالديه خطورة هلاكه أبديًا.
يسلِّمه والداه للشيوخ فيُقتل.
أمَّا أنا فنزعت عنِّي عقوقي،
حملتني لا إلى الشيوخ ليحموا عليَّ،
بل إلى الآب السماوي لاستقر في حضنه!
ألبستني برَّك وجعلتني شريكًا في طاعتك!
+ اعترف لك بأنِّي كسرت ناموسك،
سقطت تحت لعنة الناموس،
وصرت تحت حكم الموت محبوسًا في دائرة اللعنة.
بحبَّك دخلت بالصليب إلى دائرة اللعنة.
فجرت اللعنة وحطَّمت متاريسها،
أطلقتني حرًّا ومباركًا.
رفعت عنِّي لعنة الناموس،
ووهبتني بركات المجد الأبدي!
+ قد يستحق المجرم أن يُعلَّق على خشبة.
لكنَّك تهتم حتى بجثمانه فلا يبقى حتى الغروب.
تؤكِّد لنا تقديرك لا للنفس وحدها، بل وللجسد أيضًا.
أنت المهتم بالإنسان ككل يا خالقنا.
+ ملايين الملايين من السمائيِّين والأرضيِّين يزاحمونك،
وأنت في حبَّك تهتم بي شخصيًا.
أقول مع قدِّيسك أغسطينوس:
كأنِّي لا أرى في العالم إلاَّ أنت وحقارتي!
تعطيني كل الحب،
وأعطيك كل القلب!
هل يوجد من تحبُّه مثلي؟!
هل يوجد من يحبَّك مثلي؟!
أنا لك يا حبيبي، وأنت لي يا شهوة قلبي!
المراجع:
[234] Josephus: Antiq. 4:8:16.
[235] St. Jerome: Letter 70:2.
[236] Paedagogos 1:5.
[237] راجع تفسير اللاويين، ص208-209.
[238] In Lev. Hom. 11:2.
[239] De Incarnatione Verbi Dei, 25:1-2.
[240] St. Augustine: On Ps. 38.