تفسير الاصحاح التاسع عشر من سفر التثنية للقمص تادري يعقوب ملطى
مدن الملجأ والشاهد الكاذب
إن كان يليق بشعب الله أن يترجموا حياتهم الدينيَّة إلى سلوك لائق في كل العلاقات الاجتماعيَّة والمعاملات المدنيَّة والجنائيَّة، فإنَّهم كشعبٍ مبتدئٍ في الحياة الروحيَّة احتاجوا إلى شريعة تفصيليَّة تحكم سلوكهم ومعاملاتهم.
أشار في الأصحاح السابق إلى مجيء "النبي" المنتظر الذي له نسمع، فنتمتَّع بالخلاص. الآن يقدِّم لنا صورة رمزيَّة لهذا الخلاص المسياني، وهو إقامة مدن الملجأ، التي يلجأ إليها كل قاتلٍ ارتكب القتل خطأ بغير إرادته.
هذا العدل الجزائي البدائي بعيد كل البعد عن القتل المتعمِّد، والغرض منه أن يمنعه فهو لا يكسر الوصيَّة السادسة بل بالأحرى يحفظها.
تحدَّث أيضًا عن احترام حقوق اللآخرين، سواء بالنسبة لممتلكاتهم أو لنفوسهم. فلا يجوز للإنسان أن ينقل تخومه ليستولى على أرض ليست من حقّه. ولا يليق به أن يشهد كذبًا على إنسان بريء.
1. مدن الملجأ [1-13].
2. نقل التُخُم [14].
3. شهادة الزور [15-31].
1. مدن الملجأ:
"متى قرض الرب إلهك الأمم الذين الرب إلهك يعطيك أرضهم وورثتهم وسكنت مدنهم وبيوتهم،
تفرز لنفسك ثلاث مدن في وسط أرضك التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها.
تصلح الطريق وتثلث تخوم أرضك التي يقسم لك الرب إلهك،
فتكون لكي يهرب إليها كل قاتل.
وهذا هو حكم القاتل الذي يهرب إلى هناك فيحيا،
من ضرب صاحبه بغير علمٍ وهو غير مبغضٍ له منذ أمس وما قبله.
ومن ذهب مع صاحبه في الوعر ليحتطب حطبا فاندفعت يده بالفأس ليقطع الحطب
وافلت الحديد من الخشب وأصاب صاحبه فمات،
فهو يهرب إلى إحدى تلك المدن فيحيا.
لئلاَّ يسعى وليّ الدم وراء القاتل حين يحمى قلبه ويدركه إذا طال الطريق ويقتله وليس عليه
حكم الموت لأنَّه غير مبغضٍ له منذ أمس وما قبله.
لأجل ذلك أنا آمرك قائلاً: ثلاث مدن تفرز لنفسك.
وإن وسَّع الرب إلهك تخومك كما حلف لآبائك أعطاك جميع الأرض التي قال أنَّه يعطي لآبائك.
إذا حفظت كل هذه الوصايا لتعملها كما أنا أوصيك اليوم لتحب الرب إلهك وتسلك في طرقه
كل الأيَّام فزد لنفسك أيضًا ثلاث مدن على هذه الثلاث.
حتى لا يسفك دم بريء في وسط أرضك التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فيكون عليك دم" [1-10].
ليس كل قتل هو جريمة، إنَّما يجب دراسة كل حالة على حدة، فقد ميَّزت الشريعة بين نوعين من القتل:
أ. القتل خطأ: [4-6]: يمكن للقاتل أن ينجو من الانتقام منه بالهروب إلى إحدى مدن الملجأ (عد 35: 9-34).
ب. القتل عمدًا: يجوز للولي أن ينتقم من القاتل [11-13].
أحد الأوامر التي قدِّمت لأبناء نوح أن من يسفك دم إنسان يُسفك دمه انتقامًا للدم (تك 9: 6). الآن استقرَّت هذه الشريعة. لكن ماذا إن سُفك دم خطأ وليس عن قصد. لهذا أمر الله بإقامة مدن الملجأ، كما سبق فرأينا في دراستنا لسفر الخروج (21: 13)، وسفر العدد (35: 10) الخ. لقد عالج سفر العدد هذا الأمر بالتفصيل، غير أنَّه إذ كان الشعب على وشك الدخول إلى أرض الموعد قدَّم لهم توجيهات عمليَّة لإقامة الثلاث مدن في الضفَّة الشرقيَّة.
أولاً: تحديد ثلاث مدن للملجأ في أرض كنعان، في الضفَّة الغربيَّة، حيث كان موسى قد حدَّد ثلاث مدن في الضفَّة الشرقيَّة [1-3، 7]. تُقسَّم المنطقة كلها إلى ثلاثة أقسام، متساويَّة قدر المستطاع، وتكون مدينة الملجأ مركز كل قسم، حتى يستطيع كل إنسان أينما وُجد أن يجد بالقرب منه مدينة للملجأ. تعتبر مدينة الملجأ أشبه بمكان حفظ يلجأ إليه القاتل حتى تتم محاكمة عادلة، ويُفصل في أمره إن كان قاتلاً عن خطأ أم عن عمد. فمدينة الملجأ هي صون وحماية للبريء وليس للمجرم.
لا نجد تسجيلاً لزيادة هذه المدن التي طلبها موسى، وهذا دليل غير متعمِّد على صحَّة السِفر، فإن أي كاتب متأخِر ما كان يمكن أن يبتدع هذا.
تُشير مدينة الملجأ إلى السيِّد المسيح، مخلِّص العالم، الذي نزل إلى أرضنا ولم يعد بعيدًا عنّا، بل هو قريب إلينا جدًا، لا نبحث عمَّن يصعد إلى السماء لكي ينزله، ولا من يهبط إلى الجحيم لكي يصعده إلينا، بل هو قائم في قلوبنا (رو 10: 8). لقد جاء إنجيلنا بالخلاص وجعله بين أيدينا. أنَّه يقرع على أبوابنا الداخليَّة لعلَّنا نقبله، نفتح له فيدخل عريس نفوسنا ليتعشَّى معنا. جاء مسيحنا إلى أرضنا ليصير حصننا، فيه نتحرَّر من الدينونة (رو 8: 1)، ونخلص من كل جريمة في حماية إلهيَّة فائقة (رو 5: 1، 9-10؛ 8: 31-39). تطلَّع إشعياء النبي إلى هذه المدينة الفريدة فقال: "لنا مدينة قويَّة؛ يجعل الخلاص أسوارًا ومترسة" (إش 26: 1). هذا ما يؤكِّده الرسول بقوله: "آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص" (أع 16: 31).
في القديم كان القاتل يهرب من وجه الولي إلى مدينة ملجأ ليحتمي فيها حتى تتم محاكمته، وإن وجد بريئًا يبقى إلى موت الكاهن. أمَّا في العهد الجديد فإن الولي والقاضي في نفس الوقت هو الرب يسوع، عِوض الانتقام يفتح لنا أحشاءه الإلهيَّة ملجأ لنا فنستريح فيها. ونبقى فيها إلى الأبد، ننعم لا بالبراءة فقط بل وبشركة أمجاده.
إنَّه ليس فقط مدينة الملجأ بل وهو الطريق المفتوح لنا، لذا لاق بنا أن نسرع بروحه القدُّوس وندخل فيه، ولا نؤجِّل، حتى لا يلحق بنا السيف وتهلك نفوسنا.
ثانيًا: أجاب هذا الأصحاح على السؤال التالي: كيف يعرف الهارب مدينة الملجأ؟ نحن نعلم أن كثير من الطرق في القديم كانت تُمهَّد خلال سير الحيوانات التي تحمل الأثقال خاصة القوافل. وهذا وقد كان اليهود في ذلك الحين لا يعرفون الطرق، إذ عاشوا في البريَّة طوال الأربعين عامًا. يلتزم المسئولون أن يهيِّئوا الطرق المؤديَّة إلى مدن الملجأ، فيُزيلوا كل عقبات تعطِّل الانطلاق إليها، كما يلتزمون بإقامة جسور والاهتمام بها للعبور عليها نحو هذه المدن، وعند مفترق الطرق توضع لافتات يُكتب عليها: "ملجأ! ملجأ!" وكان المسئولون ملتزمين بإصلاح هذه الطرق كل عام في شهر أذار. هكذا يليق بخدَّام الكلمة أن يُهيِّئوا الطريق لكل نفس كي تلتقي بالمخلِّص كملجأ لها. يلتزموا بأن يُزيلوا كل عقبة، ليفتحوا باب الرجاء أمامهم ليتمتَّعوا ببرّ المسيح وقداسته عِوض خطاياهم، وعدم الفساد عِوض فسادهم.
كما التزم المسؤولون بتهيئة الطرق في كل مكان نحو مدن الملجأ، هكذا الله في حبُّه هيَّأ للبشريَّة الطريق نحو يسوع المسيح، فأعلن عنه لأبوينا الأوَّلين في أول لقاء معهما بعد سقوطهما، ومهَّد الطريق لمعرفته خلال الآباء الأنبياء والأحداث والشريعة حتى لا يوجد أي عذر لمن يرفض الالتجاء إليه. لقد بعث إلينا بنبوَّات واضحة أشبه بعلامات تشير نحو شخص المخلِّص، مدينة ملجأنا.
كان الهارب ملتزمًا أن يبقى في المدينة حتى موت رئيس الكهنة فيخرج منها (عد 35: 25-29)، ومسيحنا رئيس الكهنة الأعظم مات مرة ليدخل بنا فيه، ولن يموت بل يبقى حيًّا بعد قيامته حتى لا يخرج أحد منه، بل نسكن فيه وهو فينا أبديًّا (يو 15: 4؛ كو 1: 23؛ عب 3: 14؛ 10: 38-39). في اختصار قد وضع أمامنا ملجأ خلاصنا (عب 6: 18).
ثالثًا: كانت خطيَّة القتل لها خطورتها العظمى (أم 28: 17)، وفي العهد الجديد فإن مجرَّد الغضب يدفع بالإنسان إلى نار جهنم. ومع أن السهو يعتبر خطيَّة تقدَّم عنها ذبيحة، إلاَّ أن القتل سهوًا لا يُحسب خطيَّة يُعاقب عليها، وإنَّما يسمح لمرتكبها أن يهرب إلى مدينة الملجأ حتى لا يحق للولي أن ينتقم للدم.
لقد قتل شاول الطرسوسي كثيرين لكنَّه فعل هذا بجهالة لذلك ظهر لهم السيِّد المسيح نفسه وأعلن له الحق، فاشتاق أن يُقتل من أجل اسمه. وغفر أيضًا السيِّد لصالبيه لأنَّهم فعلوا هذا عن عدم معرفة.
رابعًا: جاءت فكرة مدن الملجأ تكشف عن نيَّة الله المترفِّق بشعبه الذي يدخل بالنفوس المؤمنة الهاربة من الدينونة إلى جنبه بالإيمان بدم المسيح. من يهرب من الخطيَّة إلى السيِّد المسيح يجده فاتحًا أبواب محبَّته مدينة ملجأ له.
خامسًا: لا يوجد ملجأ للقتلة عن عمد، أي للمصريِّين على قتل النفوس، والسلوك بروح إبليس السفَّاك. ليس من حق القاتل عمدًا أن يجد رحمة عند القاضي الذي لا يحمل السيف عبثًا، بل للانتقام من سافكي الدم. لا يتمتَّع بالمغفرة من كان مصمِّمًا على الخطيَّة (عب 10: 26).
يخبرنا اليهود أن الطرق المؤديَّة لمدن الملجأ كانت متَّسعة جدًا، حوالي 32 ذراعًا، وكانت دائمًا تحفظ في حالة جيِّدة[223].
سادسًا: يلاحظ أن الشريعة لم تحسب كل مدن اللآويِّين مدن ملجأ، بل اختارت ثلاث مدن في كل ضفَّة لتأكيد أن اللآويين على قدم المساواة مع الشعب، إن أخطأ لاوي وقتل عن غير عمد لن تحميه مدينته، بل يلزمه أن يهرب إلى مدينة ملجأ حتى تتم محاكمته. هذا ما تؤكِّده الشريعة باستمرار أن الكاهن، وإن نال كرامة خدمة الله، لكنَّه يقف مع الشعب أمام الله وتكون دينونته أشد وأقسى بسبب معرفته.
سابعًا: ربَّما يتساءل البعض إن كانت الشريعة الموسويَّة قد أباحت للوليّ أن ينتقم لدم قريبه، فنجيب بأن الشريعة أرادت أن تحد بكل الطرق من الانتقام. ففي القديم، وحتى إلى وقت قريب في بعض بلاد صعيد مصر كما في كثير من البلاد الصحراويَّة، إن قتل إنسان آخر لا تكتفي أسرة القتيل بقتل القاتل، إنَّما يعتدون على كل الأسرة وينتقمون بقتل القاتل وأحيانًا أولاده وأقاربه ويتحوَّل الأمر إلى حرب داخليَّة بين العائلات، قد تمتد إلى عشرات السنوات. كل منهم يتربَّص للانتقام لأسرته بلا ضابط. لهذا جاءت الشريعة لتضع حدًا بالسماح للوليّ وحده أن يقتل القاتل وليس أهل بيته أو أقرباءه.
هكذا جاءت الشريعة هنا تحقِّق الآتي:
أ. ترفع من شأن المؤمنين لكي لا يعيشوا بلا ضابط من جهة الانتقام والآخذ بالثأر.
ب. تأكيد قدسيَّة حياة الإنسان، سواء بالنسبة للقتيل أو القاتل.
ج. لا يوجد إنسان فوق القانون، بل يخضع الكاهن كما الشعب للشريعة.
د. التزام الجماعة المقدَّسة بإقامة محاكمات عادلة وبتأنِّي في غير اندفاعٍ.
سابعًا: الله مالك السماء والأرض وهب شعبه أرض الموعد بكل ما فيها من مدن؛ لكنَّه طلب أن تكون له ثلاث مدن في كل ضفَّة تنسب إليه، أشبه بمدن الله التي يلجأ إليها الطالبون رحمته. كل المدن مدنه وهبها للبشر، لكنَّه يعود فيطلب قليل القليل ليكون مكرَّسًا لعمله الإلهي في حياة البشريَّة.
ليت إلهنا يجد في أعماقنا مدينة ملجأ يقبلها وينسبها إليه، فتتجلَّى محبَّته ونعمته فيها.
ثامنًا: توضع على مفارق الطرق علامات يُكتب عليها "ملجأ miklot" بخط واضح، حتى متى رآها الهارب لا يقف ليقرأ أو يبحث أو يناقش، إنَّما يسرع نحو المدينة، فإن الوقت بالنسبة له مقصِّر. أنَّه في خطر! ما هذه العلامات إلاَّ الكتاب المقدس الذي يوجِّهنا نحو مخلِّصنا يسوع المسيح. أنَّه ليس وقت للمناقشات الغبية بل للانطلاق بسرعة نحو المخلِّص لنرتمي في أحضانه ونختفي فيه، فلا يقدر العدو أن يلحق بنا ويقتلنا.
إنجيلنا هو العلامات التي تقودنا إلى مدينة الملجأ الفريدة "يسوع المسيح"، وإذ نحن أنفسنا قد صرنا رسالة المسيح المقروءة من جميع الناس لاق بنا كإنجيل مفتوح أن يقرأ الكل فينا كلمة miklot، ويجدون في أعماقنا طريقًا يقود إلى المخلِّص. هذا هو حال الكنيسة الحيَّة. إنَّها علامة تحمل ذات الكلمة، تقود كل نفس في طريق الحق، وتدخل به إلى الملجأ الإلهي، ليتمتَّع بحريَّة مجد أولاد الله، وسلام الله الذي يفوق كل عقل، وفرح السماء الذي لا ينقطع. الكنيسة هي المنارة التي تحمل بهاء المسيح الذي يشرق على النفوس. إنَّها تنادي الجميع: "اهربوا إلى الملجأ، إلى الرجاء الذي يقدِّمه لكم الإنجيل".
يليق بالمؤمنين أن يجاهدوا بروح الحق، لكنَّهم كأعضاء في كنيسة المسيح يدركوا أن حياتهم ليست إلا اختفاء في المسيح يسوع ملجأهم.
حق الالتجاء إلى المذبح:
في أيَّام الإمبراطور قسطنطين ظهر نظام كنسي شبيه بمدن الملجأ، وهو أن يلجأ المتَهم إلى المذبح ويمسك بقرونه، فلا يُقتل حتى تتم محاكمة عادلة له. ففي أيَّام القدِّيس يوحنا الذهبي الفم قاوم أتروبيوس هذا الأمر، وأخذ موقفًا مضادًا من الكنيسة. وحين أُتُّهم بخيانة الإمبراطور وتدبير مؤامرة لقتله التجأ إلى المذبح، وتوقع رجال الشرطة والشعب أن ينتقم منه القدِّيس يوحنا الذهبي الفم بتسليمه خارج الكنيسة كي يُقتل. لكن ذهبي الفم أعلن محبته لمقاوميه. وقد ألقى حديثين عن مفهوم الكنيسة ورسالتها حتى نحو مقاوميها أمام الشعب، معلنًا أن جمال مذبح الله أن يحب الأعداء[224].
وقد تطورت هذه العادة في أوربا، فكان يسمح البعض بحماية المتَهمين إن التجأوا إلى المذبح أو الكنيسة أو أي مكان مقدَّس لمدَّة شهر وأحيانًا لمدَّة ثلاثة أيَّام حتى تتم محاكمتهم. لا يعني هذا حماية المجرمين والقتلة إنما إعطاء فرصة كافيَّة للمحاكمة العادلة، وأيضًا فرصة لتوبة الخاطئين ورجوعهم إلى الله. كما أعطت الفرصة للأساقفة أن يشفعوا في أمر بعض التائبين منهم.
ولكن إذا كان إنسان مبغضًا لصاحبه فكمن له وقام عليه وضربه ضربة قاتلة فمات ثم هرب
إلى إحدى تلك المدن.
يرسل شيوخ مدينته ويأخذونه من هناك ويدفعونه إلى يد ولي الدم فيموت.
لا تشفق عينك عليه، فتنزع دم البري من إسرائيل فيكون لك خير" [11-13].
حرصت الشريعة على حماية أصحاب القلوب النقيَّة والنيَّة الطاهرة، وبغير عمد تسببوا في قتل آخرين فبنت لهم مدن الملجأ. وفي نفس الوقت رفضت الشريعة الإلهيَّة حماية أصحاب القلوب الشرِّيرة، الذين يحملون بغضة وكراهيَّة لاخوتهم ويقومون بقتلهم، فإن مدن الملجأ لم تُبنَ لأمثالهم. إن هربوا إليها يسحبون منها ويُقتلون.
إنها صورة مُرّة لبعض الأشرار الذين يخفون قلوبهم الذئبية البغيضة برداء التدين، الذي يلزم أن يُشق الثوب تمامًا ويُفضح الشرِّير وينال ثمرة شره، ما دام لم يتب.
لا توجد مدينة ملجأ للقلوب البغيضة، فإن مسيحنا كلي الحب يفتح أبواب قلبه لمن يود أن يعيش بالحب، أمَّا من يحمل كراهيَّة فليس له موضع فيه. مسيحنا مدينة ملجأ لمن يغتسل من جرائمه في دمه، فبالرحمة الإلهيَّة الملتحمة بالعدل يستقر المؤمن في المسيح ويتمجد معه إلى الأبد. أنَّه يحتضن الخطاة التائبين، المعترفين بخطاياهم، والذين يتبرَّرون بالإيمان.
2. نقل التُخُم:
اهتم سفر التثنيَّة بالأرض التي يرثها شعب الله، فنجده بعد تأكيده: "تنزع دم البريء من إسرائيل فيكون لك الخير" [13]، يكمل الحديث: "لا تنقل تخم صاحبك الذي نصبه الأولون في نصيبك الذي تناله في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لكي تمتلكها" [14]. وكأن نقل علامات حدود الأرض لاغتصاب جزء من نصيب الغير لا يقل خطورة عن سفك دم بريء. سرّ هذا ما حملته أرض الموعد من رمز للحياة السماويَّة الموعود بها، وكأن من يسفك دم برئ ليس بأقل من أن يفقد آخر نصيبه الأبدي أو خلاص نفسه خلال العثرة.
موضوع الأرض التي ينالها كل سبط كميراثٍ دائمٍ له تمثل بالنسبة له حياة أو موت، فمن يحرك العلامات التي تحدِّد أرضه ليغتصب جزء من أرض أخيه يكون كمن قد اغتصب منه بركة الرب التي هي حياته، أو كمن اغتصب ميراث العهد [14].
بالقرعة نال كل سبط نصيبه من الأرض، وأيضًا كل عشيرة. إرادة الله أن يدرك كل إنسان غنى نعمة الله عليه دون طمع فيما ليس له، فليس من حق أي شخص أن يعتدي على ما للآخرين.
يعطينا الله درسًا هامًا، وهو أن يدرك كل إنسان حدوده وممتلكاته، محترمًا حقوق الغير وممتلكاتهم. نقل التخم عمل فيه عدم أمانة وخداع وطمع وإصابة الآخرين بالأضرار. هذا ما يليق أن يتدرب عليه حتى الأطفال الصغار في تعاملهم حتى مع والديهم وبقيَّة أعضاء الأسرة. فمع سخاء العطاء لطفل يدرِّبونه على إدراك حدود ممتلكاته، والاقتناع بما وُهب له.
3. شهادة الزور:
"لا يقوم شاهد واحد على إنسان في ذنب ما أو خطيَّة ما من جميع الخطايا التي يخطئ بها على
فم شاهدين أو على فم ثلاثة شهود يقوم الأمر.
إذا قام شاهد زور على إنسان ليشهد عليه بزيغ،
يقف الرجلان اللذان بينهما الخصومة أمام الرب أمام الكهنة والقضاة الذين يكونون في تلك الأيَّام.
فإن فحص القضاة جيِّدًا وإذا الشاهد شاهد كاذب قد شهد بالكذب على أخيه،
فافعلوا به كما نوى أن يفعل بأخيه، فتنزعون الشر من وسطكم.
ويسمع الباقون فيخافون، ولا يعودون يفعلون مثل ذلك الأمر الخبيث في وسطك.
لا تشفق عينك، نفس بنفسٍ، عين بعينٍ، سن بسنٍ، يد بيدٍ، رجل برجلٍ" [15-21].
ربَّما يحدث خلاف على القتل إن كان عمدًا أم سهوًا، وهل يوجد عداء سابق بين القاتل والقتيل. قد يحدث خلاف أيضًا على الحدود التي لتُخم الأسباط أو العشائر، فكيف يكون الحكم في هذه الأمور وغيرها؟ الحاجة ملحَّة أحيانُا إلى شهادة البعض، لهذا تُعالج الشريعة موضوع "شهادة الزور". ترفض الشريعة قيام الشهادة على شخصٍ واحدٍ (عد 35: 30؛ تث 17: 6)، بل على الأقل بشخصين [15-19]. الشهادة الزور تحسب خيانة للعهد مع الله نفسه الذي يبغض الظلم والكذب [19-21].
+ وإن كانت المعاصي ترتكب سرًّا، لكن يلزم أن نكتفي بشهادة شاهدين كبرهان على البحث والتقصِّي[225].
+ إذ كتب عنوان معيَّن على آلام الرب عندما صلب، كُتب بالعبرانيَّة واليونانيَّة واللآتينيَّة: "ملك اليهود" (يو 19: 19)، في ثلاثة ألسنة، إذ ثبت العنوان بثلاثة شهود لأنَّه على فم شاهدين أو ثلاثة شهود تثبت الكلمة[226].
القدِّيس أغسطينوس
جاءت الشريعة الموسويَّة تطالب: "نفس بنفسٍ، عين بعينٍ، سن بسنٍ، يد بيدٍ، رجل برجلٍ" [21]، بهذا ارتفعت بالإنسان في بدء حياته الروحيَّة من روح الانتقام بأكثر ممَّا أصابه من ضرر، إذ يميل الإنسان بطبعه أن يقاوم الشر بشرٍ أعظم. هكذا ارتفعت به الشريعة لكي تهيئه للحب تدريجيًا حتى يمارس بالنعمة الإلهيَّة محبَّة العدو فيقاوم الشر بالخير. إنَّها تدخل بالإنسان إلى الحب والتسامح بتدريبه تدريجيًا على ضبط نفسه.
الشريعة حازمة وعادلة، من يستطيع أن يتبرَّر أمامها؟! شكرًا لله الذي نقلنا بغنى حبُّه من تحت الشريعة إلى عهد النعمة، فنقف أمام كرسي الرحمة، ويستر مسيحنا بدمه الذكي علينا، فنتبرَّر أمام الله. لقد دفع مسيحنا الثمن وحقَّق متطلِّبات الشريعة، مقدِّمًا لنا كمال الحريَّة للحياة الجديدة التي بلا لوم قدَّام الله.
من يشهد بالزور يقدِّم للمحاكمة في محكمة عليا، أمام الكهنة والقضاة الذين هم أمام الرب. فكما يجلس القضاة عند أبواب المدينة ويحكمون، هكذا يجلس الكهنة والقضاة أمام باب الهيكل ليحكموا حسب إرادة الله (تث 17: 12).
إن ثبت كذب الشاهد فما كان يُحكم به على المتَّهم يسقط على شاهد الزور. ربَّما يظن الإنسان أن في ذلك قسوة! فمن أجل كلمات كذب قد يسقط إنسان تحت حكم الإعدام. من يحفر حفرة لأخيه يسقط هو فيها. بهذا يقدِّم الله درسًا عمليًا ليبث روح المخافة فيهم.
يرى القدِّيس أغسطينوس[227] في هذه العبارة تلميحًا لسرّ التثليث، ففي قصَّة سوسنَّة وُجد شاهدان شيخان ومع ذلك كانت شهادتهما كاذبة (دا 13: 36-62)، وفي محاكمة السيِّد المسيح شهد الشعب كلُّه ضد المسيح، ومع ذلك كانت شهادتهم باطلة (لو 23: 1). فماذا يعني ثبوت الشهادة الحقَّة بشاهدين أو ثلاثة إلاَّ شهادة الآب والابن والروح القدس الحقَّة (يو 8: 18).
من وحيّ تثنيَّة 19
أنت ملجأي وسندي+ مرّرت الخطيَّة حياتي، وأفقدتني سلامي،
من يحميني من هلاكها إلى أنت؟
أنت مدينة الملجأ التي تتَّسع لكل الخطاة.
أنت هو الطريق إلى مدينة الملجأ،
تدخل بي إلى كمال السلام.
أنت هو العلامة التي تشير إلى الأمان!
أنت في داخلي عميقًا أعمق من نفسي،
أنت قريب لي جدًا، أقرب إليَّ من نفسي،
فلماذا أبحث عن ملجأ غيرك؟
+ إلهي أنت هو ملجأ نفسي!
هب لي أن أطير وأدخل في أحضانك.
لأحملك في داخلي،
فأدخل بكثيرين إليك.
لتنقش بروحك الناري على قلبي كلمة "إلى الملجأ".
لأصير علامة حيَّة تقودهم إليك.
+ كثيرًا ما تعدَّيت تُخمي،
اغتصبت حقوق اخوتي،
رد لي برَّك، فاحترم حق كل طفلٍ صغيرٍ،
واحترم مشاعر كل ضعيفٍ ومحتاجٍ!
علِّمني وقدني حتى لا أتعدَّى تخمي التي وهبَتْني إيَّاها يداك!
+ من لا يحتاج إلى شاهد يسنده ويؤكِّد صدق كلماته؟!
شريعتك تطلب شاهدين أو ثلاثة حتى لا يخطئ القضاء.
والعالم كلَّه يلجأ إلى شهادة شهود.
من يشهد لي؟!
من يعرف أفكاري الخفيَّة؟
أنت يا مخلِّصي الصالح وأبوك السماوي وروحك القدُّوس شهود حق!
تشهدون لغنى نعمتك العاملة فيَّ.
لأقل مع سمعان بطرس:
أنت تعلم يا رب إنِّي أحبَّك!
أنت شاهد حق لما يفيض في أعماقي!
المراجع:
[223] Adam Clarke Commentary.
[224] راجع كتاب "الكنيسة تحبك" ترجمة المؤلف.
[225] In 1 Tim. Hom. 15.
[226] St. Augustine: Ps. 56.
[227] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tract. 36:10.