تفسير الاصحاح الثامن عشر من سفر التثنية للقمص تادري يعقوب ملطى
خدَّام الرب
إذ قبل الكهنة اللآويون الرب نصيبًا لهم يلتزم الشعب أن يقدِّموا لهم نصيب الرب، ألا وهي العشور والبكور والنذور. بالنسبة للكهنة اللآويِّين المتفرِّقين بين المدن يلتزم الشعب باحتياجاتهم الماديَّة. أمَّا خدَّام الشيطان مثل العائفون والمتفائلون والسحرة فلا يكون لهم موضع في وسطهم. لقد كان للأمم المحيطة أنبياء كذبة وأصحاب عرافة يعتمدون على قوَّة الشيطان، لذا حرمَّ الله ممارسة العِرافة [9-14].
أقام الله لشعبه أنبياء ينطقون بكلمة الله ويعلنون إرادته [15-19]. كل نبي يتنبَّأ بغير ما ينطق به الرب يموت [20-22].
من الجانب الآخر قدم نبوَّة عن الخادم الحقيقي: "النبي المنتظر" وهو رب الأنبياء المتجسِّد، أي عن مجيء السيِّد المسيح، بقوله: "يقيم لك الرب إلهك نبيًا من وسطك من اخوتك مثلي، له تسمعون.."، إذ هو فريد في نبوَّته، رب الأنبياء، الذي يهب حياة لمن يسمع له، وكل نفس لا تنصت له تُباد من الشعب (أع 3: 22-23؛ 7: 37 الخ).
1. نصيب الكهنة اللآويِّين [1-8].
2. لا عائفون ولا سحرة [9-14].
3. النبي المنتظر [15-22].
1. نصيب الكهنة اللآويِّين:
كان الشعب على وشك الدخول إلى أرض الموعد، وهي أرض خصبة، وكما رأينا تعتمد على الأمطار، وكأن الله نفسه هو الذي يعولهم بالأرض كما بالمياه. الآن خصَّص سبطًا كاملاً ليس له أرض زراعيَّة يعيش عليها ليؤكِّد أن ميراث الرب هو لهم. إنَّهم مثَل حي للاعتماد الكامل على الله بدون أرض!
لم يهتم الله أن يذكر شيئًا عن حقوق الملك، بل على العكس نجد صموئيل النبي يحذر الشعب الطالب أن يقيم ملكًا عليه، قائلاً: "هذا يكون قضاء الملك الذي يملك عليكم. يأخذ بنيكم ويجعلهم لنفسه لمراكبه وفرسانه ويركضون أمام مراكبه، ويجعل لنفسه رؤساء ألوف ورؤساء خماسين، فيحرثون حراثته، ويحصدون حصاده، ويعملون عدَّة حربه وأدوات مراكبه. ويأخذ بناتكم عطارات وطبَّاخات وخبَّازات، ويأخذ حقولكم وكرومكم وزيتونكم أجودها ويعطيها لعبيدكم، ويعشِّر زروعكم وكرومكم ويعطي لخصيانه وعبيده.." (1 صم 8: 11-15).
بينما يهتم باحتياجات الكهنة واللآويِّين ويحدِّد نصيبه ليكون لهم النصيب الأعظم ممَّا له، يحذِّر الشعب ممَّا يفعله الملوك الذين كثيرًا ما يسيئون استخدام سلطانهم ويسلبون ما ليس لهم.
أولاً: لكي لا ينشغل الكهنة بأمور هذه الحياة، ولا بغناه، بل بما هو لبنيان النفوس لم يكن لهم نصيب في غنائم الحرب ولا في أرض الموعد التي قُسِّمت بالقرعة بين الأسباط. لقد أكَّد الله أنَّه هو نصيبهم وميراثهم.
"لا يكون للكهنة اللآويِّين كل سبط لاوي قسم ولا نصيب مع إسرائيل.
يأكلون وقائد الرب ونصيبه.
فلا يكون له نصيب في وسط اخوته.
الرب هو نصيبه كما قال له" [1-2].
في العهد القديم لا يكون للكهنة اللآويِّين، كل سبط لاوي، قسم ولا نصيب مع إسرائيل في الأرض التي وُزِّعت على الأسباط. أمَّا في العهد الجديد فالكنيسة كلَّها، كهنة وشعبًا، يشعرون أن نصيبهم هو الرب نفسه؛ موضعهم هو الأرض الجديدة، كنعان السماويَّة.
يأكل الكهنة "وقائد الرب" [1]. جاءت الترجمة الحرفيَّة "نيران يهوة" ويقصد بها هنا ما جاء في سفر العدد: "هكذا يكون لك من قدس الأقداس من النار كل قرابينهم مع كل تقدماتهم وكل ذبائح خطاياهم وكل ذبائح آثامهم التي يردِّدونها لي" (عد 18: 9). أمَّا في العهد الجديد فصار من حق كل المؤمنين لا أن يأكلوا وقائد ناريَّة، بل يسكن فيهم الروح الناري، ويحوِّلهم إلى وقائد وذبائح ناريَّة. يصيرون كخدَّام الله الملتهبين نارًا، يسكن فيهم كما في وسطهم الله، النار الآكلة.
يأكل الكهنة نصيب الرب من عشورٍ وبكورٍ ونذورٍ، وفي العهد الجديد يقدِّم الرب نفسه لهم ليكون نصيبهم، يتناولون جسده ودمه المبذولين حبًا عن البشريَّة كلها. الرب الذي هو روح هو نصيبهم، لكن إذ لهم أجسادهم هبة من الله لا يتركها جائعة، بل يلتزم أن يُشبعها، يقدِّم لهم نصيبه نصيبًا لهم.
يردّد كل مؤمن حقيقي مع المرتِّل: "الرب هو نصيب ميراثي وكأسي، أنت الذي ترد لي ميراثي" (مز 16: 5)، "صخرة قلبي ونصيبي الله إلى الدهر" (مز 73: 26).
يشتاق الجسد أن يقتني كل العالم ويحتويه، بينما لن تشبع النفس إلاَّ من الله خالقها. هو وحده يملأ كل فراغ فيها، ويهبها كل شبعٍ وفرحٍ وسلامٍ. بامتلاكها للرب إلهها تقتني كل شيء، فتردِّد مع الرسول: "كفقراء ونحن نغني كثيرين، كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء" (2 كو 6: 10)، "إن كل شيء لكم" (2 كو 3: 21-22).
ثانيًا: لم يترك الله للشعب حرِّيَّة العطاء للكهنة حسب كرمهم، إنَّما وضع شريعة تحدِّد نصيبهم.
"وهذا يكون حق الكهنة من الشعب من الذين يذبحون الذبائح بقرًا كانت أو غنمًا.
يعطون الكاهن الساعد والفكِّين والكِرش.
وتعطيه أول حنطتك وخمرك وزيتك وأول جزاز غنمك.
لأن الرب إلهك قد اختاره من جميع أسباطك لكي يقف ليخدم باسم الرب هو وبنوه كل الأيَّام"
[3-5].
يرى كل من يوسيفوس[207] وفيلون[208] والتلمود أن ما ورد هنا [3] لا يقصد به الذبائح في هيكل الرب، وإنَّما ذبح الحيوانات في البيوت للاستعمال الخاص.
أ. في سفر اللآويِّين (7: 32-34) أُعطي للكهنة الحق في الصدر والساق اليمنى، هنا يضيف الفكِّين والكِرش. كان أفضل نصيب من الذبيحة يُقدَّم لله على المذبح الناري، وما هو أقل يُقدَّم للكهنة واللآويِّين، ويكتفي مقدِّم الذبيحة بما تبقَّى. هذا مع استثناء ذبيحة المحرقة فإنَّها تقدَّم بأكملها لله.
كانت مشاعر المتعبِّدين أن الله ساكن في وسط شعبه الذي وهبهم أرض الموعد فصارت ملكًا لهم، وهم يفضِّلونه، فيقدِّمون له أفضل ما لديهم، أمَّا كهنته واللآويون فهم ممثِّلون له، لهذا كان المتعبِّدون يفرحون وهم يقدِّمون من أفضل ما لديهم.
ما هو نصيب المسيحي الحقيقي ككاهنٍ للرب:
· الساعد: يشير إلى الله الذي يسند ساعد المؤمن للعمل لحساب ملكوت الله.
· الفكِّين: تشيران إلى تقديس الكلمات الصادرة من الفم. يري القدِّيس جيروم أن "بيت فاجي" تعني "بيت الفك"، وتحمل رمزًا لبيت الاعتراف (بالفم)، فإن هذا البيت ينتمي للكهنة.
v كانت العادة أن يُعطى الفك للكهنة. قد يسأل أحد: لماذا يتسلَّم الكاهن وحده الفك Siagona؟.. إنَّه جزء من العمل الكهنوتي أن يكون قادرًا علي تعليم الشعب، إذ يقول النبي: "اسأل الكهنة عن الشريعة" (حجي 2: 12). إنَّه من واجب الكهنة أن يجيبوا الأسئلة علي الشريعة، وبالتالي ينالون قوَّة التعبير التي يُرمز لها بالفك، ومعرفة الكتب المقدَّسة التي يُرمز لها بالصدر.
لا نفع للكلمات حيث لا توجد معرفة.
عندما تستلم الفك والصدر عندئذ تستلم عضلات الساعد، التي هي رمز للأعمال[209]. فإنَّه لن تستفيد شيئًا إن كان لديك إمكانيَّة الكلمات والحديث بسهولة، ولا تكون لك معرفة، ما لم تترجم هذه إلي أعمال[210].
القدِّيس جيروم
· الكرش: تكريس الأعماق الداخليَّة الخفيَّة لحساب الرب.
· أول الحنطة: له نصيب في الخبز النازل من السماء.
ب. بكور الفواكه التي تظهر في مواسمها ولا يمكن حفظها لزمن طويل، يبدو إنَّها كانت تُقدَّم للكهنة الذين يعيشون في وسطهم للعمل الرعوي في المدن.
يقدِّمون كل احتياجات الكهنة اللآويِّين العاملين في الهيكل. يقدِّمون لهم بكور الحنطة والخمر والزيت للطعام، وجزاز الغنم للبس. ويقدِّم الكهنة اللآويون من هذه البكور والنذور والتقدمات احتياجات الفقراء والمعوزين.
ثالثًا: إن كان الله قد التزم بتقديم نصيبه لخدَّامه، فيليق بخدَّامه ألاَّ ينشغلوا بنصيبهم بل يقفوا ويخدموا باسمه هم وأبناؤهم كل الأيَّام. تُمتص كل أفكارهم في الشهادة للرب أمام الشعب، وتدريب أبنائهم على الخدمة.
رابعًا: يرى البعض[211] أن كلمة "ذبائح" [3] لا تعني فقط الذبائح الحيوانيَّة التي تقدَّم للرب بل كل ما يُذبح للاستعمال العام. وكأن للكهنة نصيب في كل ما يُذبح حتى وإن كانت ذبائح في المدن للطعام وليس كتقدمة للرب. فالكهنة يشاركون الشعب في طعامهم اليومي.
خامسًا: ينال اللآوي بجوار نصيبه "ما يبيعه عن آبائه" [8]. فإن كان اللآويُّون ليس لهم حق الميراث من أرض الموعد التي قسِّمت على الأسباط بالقرعة، لكن سُمح لهم أن يشتروا بيوتًا وقطعان وحقول كما في حالة أبياثار (1 مل 2: 26؛ إر 32: 7-8).
"وإذا جاء لاوي من أحد أبوابك من جميع إسرائيل حيث هو متغرِّب وجاء بكل رغبة نفسه إلى المكان الذي يختاره الرب" [6].
لقد اختار الله سبط لاوي لخدمة هيكله، لكنَّه لم يجبر أحدًا منهم على الخدمة بل يقول: "وجاء بكل رغبة نفسه إلى المكان الذي يختاره الرب" [6]. الله لا يحطِّم الإرادة البشريَّة لكنَّه يشتاق أن تكون في انسجام مع إرادته، يقدِّسها ويعمل بها.
وخدم باسم الرب إلهك مثل جميع اخوته اللآويِّين الواقفين هناك أمام الرب.
يأكلون أقسامًا متساويَّة عدا ما يبيعه عن آبائه" [7-8].
بقوله "وخدم" [7] يؤكِّد الله أن الكهنوت ليس درجة للكرامة لكنَّها فرصة للعمل والخدمة. مشاركة في عمل السيِّد المسيح غاسل أقدام الآخرين. إنَّه يعمل عمل الرب بروح الله القدُّوس، عمل يبدو كأنه مستحيل لكنَّه مملوء عذوبة وكرامة مقدَّسة.
يردِّد كل مؤمن حقيقي مع المرتِّل: "الرب هو نصيب ميراثي وكأسي، أنت الذي ترد لي ميراثي" (مز 16: 5)، "صخرة قلبي ونصيبي الله إلى الدهر" (مز 73: 26).
يشتاق الجسد أن يقتني كل العالم ويحتويه، بينما لن تشبع النفس إلاَّ من الله خالقها. هو وحده يملأ كل فراغ فيها، ويهبها كل شبع وفرح وسلام. بامتلاكها للرب إلهها تقتني كل شيء، فتردِّد مع الرسول: "كفقراءٍ ونحن نغني كثيرين، كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء" (2 كو 7: 10)، "إن كل شيء لكم" (2 كو 3: 21-22).
كان للآويِّين بيوت، ومع هذا اُعتبروا رُحَّل وغرباء في هذا العالم، إذ لم يكن لهم نصيب في الأراضي التي تورث لأبنائهم.
هنا يؤكِّد الله إنَّه يحب الذين يحبُّون مذبحه المقدَّس. كل اهتمام موجَّه إليهم يحسبه موجَّهًا إليه شخصيًا.
2. لا عائفون ولا سحرة:
إذ يتحدَّث عن الكهنة خدَّام الرب الممثِّلين له، والذين يمثِّلون الشعب أمامه، يحذِّرهم من الالتجاء إلى خدَّام الأوثان أو ما يماثلهم ممَّن يظنُّون إنَّهم يمارسون عملهم الرعوي خلال إجازة الابن أو الابنة في النار خاصة وقت الأزمات لاسترضاء الآلهة (لا 10:18؛ 20: 2-5)، أو العرافة، أو العيافة، أو التفاؤل، أو السحر، أو الرقي (استخدَّام اسم الله في السحر)، أو سؤال الجان، أو التابعة للجان، أو استشارة الموتى.
"متى دخلت الأرض التي يعطيك الرب إلهك
لا تتعلّم أن تفعل مثل رجس أولئك الأمم.
لا يوجد فيك من يُجيز ابنه أو ابنته في النار،
ولا من يعرف عِرافة، ولا عائف، ولا متفائل، ولا ساحر،
ولا من يرقي رقية،
ولا من يسأل جانًا، أو تابعة، ولا من يستشير الموتى" [9-11].
+ القداسة بالنسبة لهم تكمن في تحرُّرهم من العادات الوثنيَّة، لكن الأمر ليس هكذا بالنسبة لنا. يقول الرسول بولس: "لتكون مقدَّسة جسدًا وروحًا" (1 كو 7: 34)[212].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
اشتهر كل من قدماء المصريِّين والكلدانيِّين بفنون السحر، وقد مارس الكنعانيُّون السحر (1 صم 28: 7-10). وكانت الشعوب تتطلَّع إليه بكونه يحمل نوعين: سحر صالح يُستخدم في معالجة الأمراض وحلّ المشاكل ومساندة القادة على أخذ قرارات مصيريَّة الخ، وسحر شرِّير غايته الإضرار بالآخرين كأن تسكنهم الشيَّاطين أو تصيبهم أمراض أو يفقدون سلامهم الخ. وقد جاءت الشريعة الموسويَّة لتؤكِّد أن كل أنواع السحر مهما كانت وسائلها أو أهدافها شرِّيرة واعتبرتها دنسًا ورجسًا.
أراد الله أن يحصِّن شعبه من العبادة الوثنيَّة وكل رجاساتها وعاداتها وخدَّامها. إذ كانوا في خطر الالتجاء إلى كل أنواع السحر وما يشبهه، والالتجاء إلى الشيطان لتحقيق شهواتهم حتى إنَّهم كانوا يقدِّمون أبناءهم وبناتهم ذبائح بشريَّة لملوك الإله الممثِّل للشمس (لا 18: 21). يخشى لئلاَّ يلجأوا إلى الشيطان واتِّباعه في معرفة المستقبل والاستشارة في تحرُّكاتهم وتصرُّفاتهم عِوض الالتجاء إلى الله خلال خدَّامه. لقد وهبهم الله الأرض المقدَّسة لكي تكون لهم شركة معه لا مع عدو الخير.
يورد موسى النبي هنا تسعة تعبيرات عن استخدَّام التنبُّؤ بالمستقبل عن طريق السحر. ربَّما لم تعد هذه الأنواع موجودة الآن كما هي لكن للأسف يوجد ما يشبهها، بل وأشر منها حيث انتشرت حركة "عبادة الشيطان" وما يتبعها من الدعوى بالتنبُّؤ بالمستقبل بوسائل كثيرة.
من الصعب التمييز بين الأصناف التي ذكرها موسى النبي عن أنواع السحر والعرافة في أيَّامه، إذ تختلف في التعبيرات عما يُستخدم حاليًا في ذات المجال.
غالبًا ما يقصد بالعرافة معرفة الإرادة الإلهيَّة خلال تصويب الأسهم كما جاء في (حز 21: 21): "لأن ملك بابل قد وقف على أم الطريق على رأس الطريقين ليعرف عرافة، صقل السهام، سأل بالترافيم، نظر إلى الكبد".
ويُقصد بالعيافة قراءة المستقبل عن طريق السحاب وصنع أصوات غريبة.
التفاؤل هو التعرُّف على الأمور المخفيَّة عن طريق قراءة الكأس كما في أيَّام يوسف. يشير نفس التعبير في السريانيَّة إلى التنبُّؤ عن طريق ملاحظة الطيور والنار والمطر وبعض المظاهر الطبيعيَّة.
أمَّا بالنسبة للسحر فتُستخدم أدوية وأعشاب يعتقد البعض أن لها تأثير سحري. يستخدم البعض كلمات سحريَّة، أو يربطون إنسانًا ويعقدون عقدًا سحريَّة.
في هذه الأنواع نرى كيف يُسيء عدو الخير استخدَّام كل شيء. أساء استخدام الطبيعة التي خلقها الله صالحة ومقدَّسة لأجلنا، كما أساء استخدام حتى أكلنا وشربنا مثل قراءة الفنجان، وأساء استخدام جسد الإنسان نفسه مثل قراءة الكف، بل وحتى بالنسبة لاخوته الراقدين فيدعى الإنسان بقدرته على استدعاء ميتٍ يتنبَّأ عن المستقبل.
لا يريد الله أن يخفي إرادته الإلهيَّة عنَّا، ولا يريد أن يجعل من المستقبل أمرًا مجهولاً، لهذا فقد أعلن عن إرادته بطرق كثيرة حتى جاء كلمة الله نفسه، الابن الوحيد الجنس ليتحدَّث معنا وجهًا لوجه (عب 1: 1). لكن للأسف كثيرًا ما يفضِّل الإنسان الطرق الخاطئة والمضلِّلة من كل أنواع السحر والعرافة عن الاستماع لصوت الرب نفسه.
خلق الله الإنسان كائنًا يتطلَّع إلى المستقبل، فالحيوانات يمكنها أن تشبع اليوم ولا تفكِّر في الغد، أمَّا الإنسان فبطبعه يميل إلى الغد. هذا الاشتياق يلهب في قلب المؤمن رغبة حارة ولهيبًا متَّقدًا نحو معرفة الحياة العتيدة. إنَّه يتوق أن ينطلق ليرى الله ويرتمي في أحضانه، ويتعرَّف على السمائيِّين ويشاركهم تسابيحهم، ويلتقي برجال الله منذ آدم حتى آخر الدهور. أمَّا وقد فسد القلب تحوَّلت هذه الرغبة إلى حالة قلق واضطراب نحو المستقبل في هذا العالم. هذا ما يدفعه أحيانًا إلى الالتجاء إلى السحر والعرافة.
لماذا يرفض الله التنبُّؤ خلال السحر وما يشبهه؟
أولاً: يضلِّل الشيطان البشريَّة بإحدى وسيلتين تبدوان كـأنَّهما متناقضتان. إمَّا أنَّه يحث الإنسان على إنكار عالم الأرواح، إنكار وجود الله نفسه وملائكته والشيطان وخلود النفس البشريَّة، بهذا يحطِّم رجاء الإنسان في الأبديَّة. وأمَّا السلاح الآخر الذي يبدو معارضًا للأول وهو مع عدم إنكار وجود الله والأرواح المقدَّسة والشيَّاطين إلاَّ أن العدو يوحي للبشر أنَّه صاحب سلطان، يعطي بفيض ما لا يعطيه الله. أذكر في حديثي مع أحد الشبان وقد بدأ يرتبط بعبادة الشيطان أنَّه قال لي: "لماذا لا أعبد الشيطان وهو يعطيني كل ما أطلبه؟" إنَّها ذات التجربة التي أراد العدو أن يجرِّب بها السيِّد المسيح، إذ "أخذه أيضًا إبليس إلى جبلٍ عالٍ جدًا وأراه جميع ممالك العالم ومجدها، وقال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي" (مت 4: 9).
ثانيًا: الالتصاق بأعمال الشيطان يفقد الإنسان قدسيَّته، إذ يمارس الرجاسة مثل سائر الأمم [9]. الله نور، من يسلك فيه يتمتَّع بالنور والحق، ومن يشترك في أعمال إبليس إنَّما يسير في الظلمة ويرتبط بالباطل.
ثالثًا: أعمال إبليس تفقد الإنسان لطفه ورقَّته، فيحمل نوعًا من القسوة أو العنف حتى بالنسبة لأولاده، فيقدِّم أحيانًا أبناءه ذبائح بشريَّة.
يقدِم لهم الأسباب التي تمنع الالتجاء إلى الشيطان واتباعه:
أولاً: هذه التصرُّفات هي رجس عند الرب، مكروهة لديه. "لأن كل من يفعل ذلك مكروه عند الرب" [12]. إذ من يحب الله لا يطيق أعمال الشيطان الرجسة والمكروهة لدى الرب.
ثانيًا: طردت هذه الأعمال الأمم من كنعان، إذ يقول: "وبسبب هذه الأرجاس الرب إلهك طاردهم من أمامك" [12]. فإن مارس الشعب ما قد مارسته الأمم يكون نصيبهم كنصيب الأمم المطرودين أمامهم.
ثالثًا: يشتهي الله أن يميِّزهم عن الأمم فيكونوا كاملين في عينيه في كل شيء.
"تكون كاملاً لدى الرب إلهك.
إن هؤلاء الأمم الذين تخلفهم يسمعون للعائفين والعرَّافين،
وأمَّا أنت فلم يسمح لك الرب إلهك هكذا" [13-14].
بنفس الروح يقول الرسول بولس: "فأقول هذا وأشهد في الرب أن لا تسلكوا فيما بعد كما يسلك سائر الأمم أيضًا بُبطل ذهنهم، وأمَّا أنتم فلم تتعلَّموا المسيح هكذا" (أف 4: 17، 20). يقول أيضًا مع برنابا الرسول: "الذي في الأجيال الماضية ترك جميع الأمم يسلكون في طرقهم" (أع 14: 16). لقد ترك الأمم في طرقهم الرديئة فحطَّموا أنفسهم، أمَّا شعب الله فيسلك في طريق الرب.
غاية منعنا من هذه الطرق الخاطئة هي شوق الله إلى كمالنا: "تكون كاملاً لدى الرب إلهك" [13]. إنَّه لا يطلب حرماننا من شيء بل يطلب شبعنا به وكمالنا فيه.
اعتمد أتباع بيلاجيوس على الآية [13] في إمكانيَّة الإنسان أن يصير كاملاً بذاته، قائلين أمَّا إن السامعين قادرين على تنفيذ ذلك أو يكون الخطأ ممَّن وضع وصيَّة مستحيل تنفيذها[213]. وقد أجاب القدِّيس جيروم على ذلك قائلاً بأن هذا ما يطلبه الله للجهاد من أجله لكن حتى رسل المسيح أنفسهم لم يكونوا كاملين بعد.
يدعونا الله إلى الكمال، أو إلى النمو الدائم في الحياة الكاملة، لكن يليق بنا أن نميِّز بين الكمال الإلهي المطلق والكمال عمد الإنسان.
+ كما أن نهاية الحياة هي بداية الموت، هكذا التوقُّف في سباق الفضيلة علامة بداية السباق في الشر[214].
+ ما يحمل علامات الحدود فهو ليس بفضيلة[215].
+ من يسعى نحو الفضيلة الحقيقيَّة لا يشترك إلاَّ في الله، الذي هو نفسه الفضيلة المطلقة[216].
+ كما قلت ليس للكمال حدود، حدود الفضيلة هي غياب للحدود. كيف يمكن لشخص أن يبلغ طلب الحدود حيث لا يمكن أن توجد حدود[217].
+ لا يتجاهل أحد أمر الرب القائل: "كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل" (مت 5: 48). فإنَّه في حالة الأمور الصالحة بطبيعتها، فإنَّه وإن كان البشر يدركون عجزهم عن بلوغ كل شيء، لكن ببلوغهم جزء منها ينالون كرامة عظيمة[218].
+ يليق بنا أن نظهر اجتهادًا عظيمًا ألاَّ نسقط من الكمال الذي يمكن بلوغه بل نطلبه قدر المستطاع. إلى هذا الحد لنتقدَّم في هذا الأمر الذي نسعى فيه. فإن كمال الطبيعة البشريَّة يكمن ربَّما في ذات النمو في الصلاح[219].
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص
3. النبي المنتظر:
في كل العصور لأعمال السحر والعرافة وكل أنواع التنبُّؤ جاذبيَّتها الخاصة حتى يومنا هذا، وفي أكثر البلاد تقدُّمًا ومعرفة، لهذا كان لابد من تقديم عمل فائق يشبع احتياجات الإنسان ويكشف عن أسرار المستقبل. لهذا أعلن موسى النبي في خطابه الوداعي عن مجيء السيِّد المسيح الذي وحده يحمل النفس كما إلى السماء لترى الأبواب مفتوحة، وتجد لها موضعًا في حضن الآب. بهذا تستقر النفس وتستريح، وتنتظر في رجاء يوم الرب العظيم حيث يتمتَّع الإنسان بكليَّته بالشركة في المجد الأبدي. وكأنَّه يليق بالمؤمن في العهد القديم أن يكرِّسوا طاقاتهم لمعرفة المستقبل نحو رؤية مجيء المسيا مخلِّص العالم؛ وبمؤمني العهد الجديد بانتظار مجيئه ليحملهم إلى مجده.
جاء "كلمة الله" الذي هو "حكمة الله" لنقتنيه، فنرى المستقبل واضحًا، بل نذوق عربونه بروح الفرح والتهليل.
مع عظمة شخصيَّة موسى النبي الذي احتمل الشعب قرابة أربعين عامًا، ذاق فيها الكثير من غلاظة قلوبهم، حمل قلبًا كبيرًا يتَّسع لكل الشعب، وقد أعطاه الرب صنع الآيات والعجائب بصورة لم يكن ممكنًا ألاَّ يتوقَّع الشعب قيام نبي مثله. لقد وجَّه موسى النبي أنظار الشعب إلى مجيء السيِّد المسيح من وسطهم، وكان من الصعب أن يدرك كمال شخصيَّته، وإن أدركها يصعب أن يقدِّمها للشعب.
"يُقيم الرب إلهك نبيًا من وسطك من اخوتك مثلي، له تسمعون" [15].
هنا وعد بمجيء "النبي". كاد الشعب أن يعبد موسى النبي بعد موته، لذلك أخفى ميخائيل رئيس الملائكة جسده، وصارع مع إبليس الذي أراد إظهاره لينحرف الشعب عن عبادة الله إلى عبادة موسى. فلو قال موسى أن القادم أعظم منه لظنُّوا وجود إلهين، إذ لم يكن ممكنًا لهم إدراك الأقانيم الإلهيَّة، لهذا قال: "مثلي". بتجسُّده صار إنسانًا، فصار مثله.
أولاً: يقول "من وسطك"، أي من وسط إسرائيل وليس من أمة أخرى كما يحاول البعض ادعاء ذلك. أكَّد السيِّد المسيح ذلك بقوله للسامريَّة: "لأن الخلاص هو من اليهود" (يو 4: 22). ويقول القدِّيس يوحنا: "جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله" (يو 1: 11).
تحدَّث بطرس الرسول مع جمع اليهود بعد العنصرة عن شخص المسيح، قائلاُ:
"ويرسل يسوع المسيح المبشر به لكم قبل.
الذي ينبغي أيضًا أن السماء تقبله إلى أزمنة ردّ كل شيء التي تكلَّم عنها الله بفم جميع
أنبيائه القدِّيسين منذ الدهر.
فإن موسى قال للآباء إن نبيًا مثلي سيُقيم لكم الرب إلهكم من اخوتكم.
له تسمعون في كل ما يكلِّمكم به.
ويكون أن كل نفسٍ لا تسمع لذلك النبي تُباد من الشعب.
وجميع الأنبياء أيضًا من صموئيل فما بعده جميع الذين تكلَّموا سبقوا وأنبأوا بهذه الأيَّام"
(أع 3: 20-24).
وفي خطاب رئيس الشمامسة إسطفانوس الوداعي عن شخص المسيح قال: "هذا هو موسى الذي قال لبني إسرائيل نبيًا مثلي سيُقيم لكم الرب إلهكم من اخوتكم له تسمعون" (أع 7: 37). ويقول الإنجيلي يوحنا: "فلمَّا رأى الناس الآية التي صنعها يسوع (إشباع الجموع) قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم" (يو 6: 14).
ثانيًا: بقوله "نبيًا من وسطك" ميَّزه عن بقيَّة الأنبياء، إذ وُجد في كل العصور أنبياء كثيرون. هنا يقصد "النبي" الذي وحده يستطيع القول: "أنا هو نور العالم" (يو 8: 22)، الكلمة الذي به تكلَّم الآب معنا (يو 1: 1؛ عب 1: 2).
ثالثًا: يقول: "مثلي"، فإنَّه وإن كان رب الأنبياء لكنَّه صار مثل موسى.
· كان موسى يتحدَّث مع الله بطريقة فائقة، إذ قيل عنه: "إن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا استعلن له، في الحلم أكلِّمه، أمَّا عبدي موسى فليس هكذا، بل هو أمين في كل بيتي. فمًا إلى فم وعيانًا أتكلَّم معه لا بالألغاز، وشبه الرب يعاين" (عد 12: 6-8). "ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجهًا لوجه" (تث 34: 10). أمَّا بالنسبة ليسوع المسيح، ابن الله وكلمته، فإنَّه في الآب والآب فيه (يو 14: 10). إدراكه لإرادة الآب كاملة (يو 5: 20-21).
· موسى مقدِّم الشريعة لإسرائيل ومخلِّصهم من عبوديَّة فرعون، والمسيح هو معلِّم البشريَّة ومخلِّص العالم من عبوديَّة إبليس.
· موسى مؤسِّس التدبير الجديد للشعب بآيات وعجائب فائقة، والمسيح جاء إلى العالم ليُقيم العهد الجديد بقوَّته الإلهيَّة الفائقة.
· كان موسى أمينًا لكن كعبدٍ (عد 12: 7)، وأمَّا المسيح فهو الابن الوحيد الجنس. "موسى كان أمينًا في كل بيته كخادم شهادة للعتيد أن يتكلَّم به، وأمَّا المسيح فكابن على بيته، وبيته نحن إن تمسُّكنا بثقة الرجاء وأفكاره ثابتة إلى النهاية" (عب 3: 5-6).
· قام موسى وسيطًا بين الله وشعبه كما رأينا في (تث 5: 5)، أمَّا السيِّد المسيح فهو الوسيط الذي وهو واحد مع الآب في ذات الجوهر حملنا أعضاء في جسده، وصالحنا مع أبيه. "لأنَّه يوجد إله واحد، ووسيط واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح، الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع" (1 تي 2: 6-7). لكن شتَّان ما ين الوساطتين، الأول وسيط لنوال العهد الإلهي خلال خدمة الظلال وشبه السمويَّات، أمَّا الثاني فدخل بنا إلى السماء عينها. وكما يقول الرسول بولس: "الذين يخدمون شبه السمويَّات وظلِّها، كما أوحى إلى موسى وهو مزمع أن يصنع المسكن، لأنَّه قال اُنظر أن تصنع كل شيء حسب المثال الذي أُظهر لك في الجبل، ولكنَّه الآن قد حصل على خدمة أفضل بمقدار ما هو وسيط أيضًا لعهدٍ أعظم فقد تثبَّت على مواعيدٍ أفضل" (عب 8: 5-6).
· امتاز موسى النبي عن بقيَّة الأنبياء إنَّه تحدَّث مع الله فمًا لفمٍ (عد 12: 6-8)، أمَّا المسيح فهو في حضن الآب نزل إلى السماء يخبرنا عن الآب (يو 1: 18؛ 3: 13).
· موسى النبي صنع آيات وعجائب فائقة باسم الرب، أمَّا المسيح فصنع آيات كثيرة بأمرٍ منه، يشهد القدِّيس يوحنا عن العجز عن حصر أعمال المسيح خاتمًا إنجيله بالقول: "وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة" (يو 21: 25).
· قام موسى النبي بدور الملك والقائد، وجاء المسيح ملك الملوك ورب الأرباب (رؤ 19: 16؛ 1 تي 6: 16).
· لم يوجد في تاريخ البشريَّة كلَّها من قدَّم الشريعة الإلهيَّة سوى موسى النبي والسيِّد المسيح. تسلَّم موسى الشريعة حينما اضطرب الشعب وخافوا بسبب النار والجبل الذي يُدخِّن، أمَّا السيِّد المسيح فجاء يهب نعمة فوق نعمة، مقدِّمًا الحق والنعمة معًا (يو 1: 14).
رابعًا: يقول: "واجعل كلامي في فمه، فيكلِّمكم بكل ما أوصيه به" [18]. مع أن السيِّد المسيح هو بعينه كلمة الله، لكنَّه إذ تجسَّد خضع بالطاعة ليتمِّم إرادة أبيه عنَّا، التي هي واحدة مع إرادته. لهذا لا نعجب إنَّه إذ قالوا: "كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلَّم؟ أجابهم يسوع وقال: تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني. إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله أم أتكلَّم أنا من نفسي؟ من يتكلَّم من نفسه يطلب مجد نفسه، وأمَّا من يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم" (يو 7: 15-18). إذن قد تحقَّق هذا الوعد العظيم وجاء "النبي"، يسوع المسيح العظيم مخلِّص العالم!
لا يمكن أن تنطبق العبارات التي نطق بها العظيم في الأنبياء إلاَّ على شخص السيِّد المسيح، إذ قيل عنه إنَّه مثله، وقد قيل عن موسى: "ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجهًا لوجه، في جميع الآيات والعجائب التي أرسله الرب ليعملها في أرض مصر بفرعون وبجميع عبيده وكل أرضه، وفي كل اليد الشديدة وكل المخاوف العظيمة التي صنعها موسى أمام أعين جميع إسرائيل" (تث 34: 10-12). فإن كان لم يقم نبي مثل موسى ولا يقوم فكيف يقيم الله نبيًا مثله، إلاَّ بمجيء ذاك الذي هو ربُّه وصار مثله؟!
يقدِّم تحذيرًا من الأنبياء الكذبة، فبعد مجيء المسيح أيضًا يأتي أنبياء كذبة، ويطالبنا بعدم الخوف من النبي الكذَّاب [20-22].
+ يتحدَّث موسى النبي عن المسيح قائلاُ: "يقيم لك الرب إلهك نبيًا من وسطك من اخوتك مثلي، له تسمعون" [15]. لهذا فمن لا يطيعه يعصى الناموس[220].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
+ توقَّعوا إنَّه سيأتي نبي خاص إذ يقول موسى هذا هو المسيح، لذلك لم يقولوا (ليوحنا): "أأنت نبي؟" قاصدين بهذا إنَّه واحد من بين الأنبياء العاديِّين بل جاء التعبير: "ألنبيْ أنت؟!" (يو 1: 21). بإضافة أداة التعريف، قاصدين بذلك: "هل أنت هو النبي الذي سبق فأخبرنا عنه موسى؟" لهذا لم ينكر إنَّه نبي إنَّما رفض أن يدعى "ذاك النبي!" [221].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
+ إنَّه يشبهه، بمعنى من جهة الجسد، وليس من جهة سموّ العظمة. لذلك دعي الرب يسوع "النبي"[222].
القدِّيس أغسطينوس
"حسب كل ما طلبت من الرب إلهك في حوريب يوم الاجتماع قائلاً:
لا أعود اسمع صوت الرب إلهي، ولا أرى هذه النار العظيمة أيضًا لئلاَّ أموت.
قال لي الرب: قد احسنوا فيما تكلَّموا.
أقيم لهم نبيًّا من وسط اخوتهم مثلك،
واجعل كلامي في فمه فيكلِّمهم بكل ما أوصيه به.
ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلَّم به باسمي أنا أطالبه.
وأمَّا النبي الذي يطغي فيتكلَّم باسمي كلامًا لم أوصه أن يتكلَّم به أو الذي يتكلَّ باسم آلهة
أخرى فيموت ذلك النبي.
وإن قلت في قلبك كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلَّم به الرب.
فما تكلَّم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الذي لم يتكلَّم به الرب بل
بطغيان تكلَّم به النبي فلا تخف منه" [16-22].
يريد الله أن يلتقي مع كل إنسان شخصيًا ويتحدَّث معه وجهًا لوجه، لكن الإنسان عاجز عن هذا اللقاء، إذ لا يقدر أحد أن يتطلَّع إلى بهاء مجد الله ويعيش. لقد صرخ: "لا أعود اسمع صوت الرب إلهي ولا أرى هذه النار العظيمة أيضًا لئلاَّ أموت"، لهذا كان لابد أن يتحقَّق الإعلان الإلهي للبشر خلال إنسان. لهذا تحدَّث الله مع موسى النبي على جبل سيناء وسط النار من أجل كل الشعب.
هكذا أرسل الله من جيل إلى جيل نبيًا أو أكثر يتحدَّث الله إليه لحساب شعبه حتى يتجسَّد كلمة الله نفسه الذي يظهر كنبيٍ على مثال موسى، وهو رب الأنبياء. عندئذ يستطيع الإنسان أن يلتقي مع الله، ويتحدَّث معه.
كان العالم في حاجة إلى الإعلان الإلهي ليس خلال المسيح فحسب، بل وفيه، لقد تحدَّث مع الجماهير كواحدٍ منهم، ولم يُعلن مجده إلاَّ لقلَّة "بطرس ويعقوب ويوحنا" على جبل تابور في تجلِّيه، وأحضر موسى وإيليا ليشهدا له كممثِّلين للناموس والأنبياء.
من وحيّ تثنيَّة 18
خدَّام الله وخدَّام الشيطان+ في يديك مفاتيح قلبي.
لتفتح ولتدخل ولتُقم في أعماقي.
ليدخل معك خدَّامك الحقيقيُّون.
يعلنون كلمتك ويختفون في وصيَّتك.
يجدون راحتهم في ملكوتك القائم فيَّ!
+ لتغلق أبواب قلبي بمفاتيح الحق.
فلا يدخل نبي كاذب ولا تتسلَّل رجاسة!
لن أسأل آخر غيرك.
ليس للشيطان وملائكته موضع في داخلي!
+ طال انتظار المؤمنين لمجيئك.
انتظرك آدم ومعه حواء،
وترقب الآباء والأنبياء مجيئك!
أخيرًا أتيت إلى عالمنا.
حوَّلت أرضنا إلى سماء.
قدَّمت دمك كفَّارة عن العالم كلُّه!
نعم لتدخل إلى عالم قلبي الداخلي.
ولتُعلن حلولك في أعماقي!
طال انتظاري لك يا مخلِّص نفسي!
المراجع:
[207] Antiqu. 4:4:4.
[208] De Praemiis Sacerdot.
[209] Cf. St. Jerome: Letter 6:1,2 PL 22:608-9; Commmen. On Melach. 2:3,4 PL 25:1554-5.
[210] Cf. St. Jeromeon Mark 11:1-10, hom. 81 (VII).
[211] Adam Clarke Commentary.
[212] In John, hom. 14:2.
[213] St. Jerome: Against the Pelagians, Book 1,14.
[214] Life of Moses, 6.
[215] Life of Moses, 6.
[216] Life of Moses, 7.
[217] Life of Moses, 8.
[218] Life of Moses, 9.
[219] Life of Moses, 10.
[220] Commentary on Galat.2.
[221] In John, hom. 16.
[222] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tract. 15:23.