تفسير الاصحاح الثانى عشر من سفر التثنية للقمص تادري يعقوب ملطى
الهيكل وإزالة كل أثرٍ للوثنيَّة
يحمل هذا الأصحاح خطِّين واضحين:
1. إن كان الله قد قدَّم لهم أرض الموعد كهبة إلهيَّة مجَّانيَّة، فمن جانبهم يلتزمون بإزالة كل أثر للنجاسة فيتمتَّعون بالحياة المقدَّسة. كان إسرائيل في ذلك الحين من أحدث الأمم الناشئة، وكان الشعب الداخل أرض الموعد قد وُلد في البريَّة لا يحمل خبرات الأمم القديمة. لهذا كان الاحتمال كبيرًا أن يُبهر الشعب بما يراه في أرض الموعد من ثقافات وإنجازات. لهذا جاء الأمر الإلهي مشدِّّدًا بهدم كل ما يمت للأوثان.
2. وهبهم الله الأرض المقدَّسة، وفي نفس الوقت طالبهم أن يقيموا له بيتًا مقدَّسًا له، في الموقع الذي يحدده لهم. يعطي الكثير ويطلب منهم ممَّا أعطاهم لتأكيد الحب المشترك بينه وبينهم.
بعد أن تحدَّث موسى النبي عن بركات قبول الوصيَّة الإلهيَّة والتجاوب معها، واللعنة التي تحل بمن يعصاها، تحدَّث عن إزالة كل أثرٍ للعبادة الوثنيَّة. فالتساهل مع الخطيَّة أو ترك آثارها يسحب قلب المؤمن تدريجيًا عن محبَّة الله، ويفسد أعماقه، فلا يجد لذَّة وعذوبة في الوصيَّة الإلهيَّة. هذا وقد أمر بضرورة عدم تقديم ذبائح خارج المكان الذي يحدِّده الرب لإقامة عبادة مقدَّسة، حتى لا يعطي لأحدٍ فرصة أن يقدِّم ذبيحة لغير الله أو يعبد الله بطريقة تشبه العبادة الوثنيَّة. وأيضًا عدم شرب الدم كعادة الوثنيِّين، وعدم السؤال عمَّا كان الوثنيُّون يمارسونه حتى لا ينشغل المؤمنون بما يلوِّث أفكارهم. هكذا حرص الله ألاَّ يتسلَّل أدنى دنس من العبادة الوثنيَّة وعاداتها إلى شعبه الذي اختاره ليكون مقدَّسًا له.
تعبد الكنعانيُّون لآلهة كثيرة، فكانوا يقيمون مذابح في مواضع مختلفة. هنا يثبت فكرة الوحدانيَّة في أذهان الشعب لمنع تقديم الذبائح في غير الموضع الوحيد المختار كهيكل لله [1-14]، حيث يسكن اسم الله [11] . قبل هيكل أورشليم كان مقدس الرب هو خيمة الاجتماع أو تابوت العهد.
الله هو الذي يختار موضع مقدسه، بل ويختار الطريقة التي يُعبد بها، رافضًا أن يتبنَّى شعبه طريقة الكنعانيِّين في العبادة [31]. يرفض ما اعتاد الكنعانيُّون عليه من شرب الدم [15-28]، وأيضًا تقديم ذبائح بشريَّة [29-31].
1. إزالة آثار الوثنيَّة [1-4].
2. إقامة بيت الله [5-15].
3. الامتناع عن شرب الدم [16].
4. الأكل أمام الرب [17-18].
5. الاهتمام باللآوي [19].
6. عدم أكل الدم [20-28].
7. عدم الاستفهام عن العبادة الباطلة [29-32].
1. إزالة آثار الوثنيَّة:
حينما يستريح الإنسان من تجاربه غالبًا ما ينسى الله ويتجاهل وصيَّته، لهذا يؤكِّد موسى النبي لشعبه أنَّهم متى ورثوا الأرض حسب وعد الله لهم وجب عليهم أن يحفظوا الوصيَّة الإلهيَّة.
"هذه هي الفرائض والأحكام التي تحفظون لتعملوها في الأرض التي أعطاك الرب إله آبائك لتمتلكها كل الأيَّام التي تحيون على الأرض" [1].
بقوله "في الأرض" واضح إن الكاتب يشعر بأن دخول إسرائيل إلى أرض الموعد وشيك، هذا ما يسود السفر كله.
يؤكِّد لهم أن الوصيَّة ملزمة للإنسان مادام حيًّا على الأرض. لم تُقدِّم له لكي يسلك بها وقت الشدَّة فقط في البريَّة، وإنَّما يلتزم بها هي بعينها في كنعان. يليق أن يجاهد الإنسان في الطاعة للوصيَّة حتى النفس الأخير.
جاءت الوصيَّة العظمى صريحة أنَّه لا يوجد ألاَّ إله واحد، يجب أن يعبدوه دون غيره من الآلهة الباطلة. لهذا عندما يدخلون الأرض يمحون كل أثر للعبادة الوثنيَّة.
"تخربون جميع الأماكن حيث عبدت الأمم التي ترثونها،
آلهتها على الجبال الشامخة وعلى التلال وتحت كل شجرة خضراء.
وتهدمون مذابحهم، وتكسرون أنصابهم،
وتحرقون سواريهم بالنار،
وتقطعون تماثيل آلهتهم،
وتمحون اسمهم من ذلك المكان" [2-3].
السواري asherahs هي أعمدة خشبيَّة كانوا يقيمون عليها الأصنام للعبادة.
من العجيب أنَّه يقول للجيل الذي يدخل كنعان لأول مرة "الأرض التي ترثونها" [2] كأنها كانت ملكًا لآبائهم وقد ورثوها عنهم. لقد وعد الله إبراهيم أن يُعطي هذه الأرض لنسله، فحسبها قد صارت لهم حتى ولو لم يكونوا بعد قد وضعوا أياديهم عليها. الآن جاء هذا الجيل لكي يملك ويرث ما هو لآبائهم.
بقوله: "آلهتهما على الجبال الشامخة وعلى التلال وتحت كل شجرة خضراء" [2]. يعلن كما لو أن الآلهة الوثنيَّة بانتشار مذابحها قد احتلت هذه المواقع التي كان يجب تقديسها للرب خالق المسكونة. احتلَّت الجبال والتلال إشارة إلى أنَّها آلهة ثابتة ومرتفعة ليس من يقدر أن يحطِّمها، وتحت كل شجرة إذ كان سكان المنطقة يعتبرون آلهتهم هو مصدر الخصوبة والأثمار.
كان يجب إزالة كل أثر للوثنيَّة في هذه المواقع ليُعلن الشعب أن الله وحده هو حصن شعبه الذي لن يتزعزع. يرفعهم إلى أعالي السموات، ويهبهم لا خصوبة الحيوانات والنباتات فحسب بل وثمر الروح المتزايد.
أولاً: أراد الله إبادة كل أثر للأوثان، لأن الأرض صارت مقدَّسة للرب، فلا يمكن الجمع بين المقدَّسات الإلهيَّة والآثار الدنسة التي تحمل رائحة الرجاسات. لم يقبل أن تستخدم الأماكن الوثنيَّة لعبادة الله الحيّ حتى لا يحدث خلط بينهما. من يلتقي بالله القدُّوس يبغض "حتى الثوب المدنَّس من الجسد" (يه 23).
ثانيًا: إذ اختارهم الله خاصَّته، يعتز بهم ويكرمهم، لهذا يليق بهم أن يختاروا الله دون سواه، فيخجلوا من الوثنيَّة ويرذلونها تمامًا ويبغضونها. وكما يقول الرسول: "كونوا كارهين الشرّ ملتصقين بالخير" (رو 11: 9).
ثالثًا: لم يسمح ببقاء أي أثر للوثنيَّة لئلاَّ تجتذب النفوس الضعيفة في لحظات ضعفهم، فينحرفوا نحوها.
رابعًا: يعلن ملكوت الله في حياة الناس، وأيضًا في المكان المقدَّس، فلا نعزل تقديس الإنسان عن تقديس المكان الذي يعبد فيه إلهه.
خامسًا: أمرهم ألاَّ ينقلوا العادات الوثنيَّة إلى عبادة الله. "لا تفعلوا هكذا للرب إلهكم" [4]. لقد خشي لئلاَّ يحاولوا أن يكرموا الله فيقدِّمون الذبائح على الجبال والتلال وتحت كل شجرة خضراء كما كان يفعل الوثنيُّون. فإن الله لا يطلب هذه الأمور، بل الطاعة له. لا يليق بنا أن نكرمه حسب فكرنا البشري، بل حسب فكره الإلهي.
سادسًا: يقدِّم لنا مبدأ هامًا يمس حياتنا العمليَّة، خاصة الروحيَّة، وهو عدم الخلط بين الحق والباطل، بين الكلمة والنور. فيليق بالمؤمن الذي يود الشركة مع الله النور أن يرفض كل أعمال الظلمة، يلزمه أن يخلع كل أعمال الإنسان القديم ويلبس الإنسان الجديد بكل أعماله وأفكاره. لا يتهاون مع فكر واحد شرِّير بل يحطِّمه تمامًا، متذكِّرًا كلمات يوحنا الحبيب: "إن قلنا إن لنا شركة معه (الله) وسلكنا في الظلمة نكذب ولسنا نعمل الحق" (1 يو 1: 6).
هل لا تزال الوصيَّة الخاصة بإبادة الأوثان قائمة اليوم؟
كلُّنا في حاجة إلى إبادة الوثن الذي نقيمه في داخلنا، فكل ارتباك أو انشغال يفصلنا عن الله، ويفقدنا رؤية السمويَّات هو وثن يجب تحطيمه. ليست المادة ولا العمل في ذاته ولا الأحداث المفرحة أو المحزنة هي الوثن بل انشغال القلب والفكر وانحرافهما عن الاهتمام بخلاص الإنسان هو الوثن.
2. إقامة بيت الله:
الله، إله الأرض كلَّها، لكنَّه اختار موضعًا خاصًا يُدعى اسمه عليه: "موضع اسم رب الجنود" (إش 18: 7)، "موضع مسكن مجدك" (مز 26: 8). لقد حدَّد لهم الالتزام بمكانٍ معيَّن يختاره الرب كبيت له، يقدِّمون فيه عبادتهم وتقدماتهم وذبائحهم، لكنَّه لم يكن بعد قد حدَّد موقعه، بل ترك ذلك إلى بعد استلامهم الأرض، فهو يقدِّم الوصيَّة في وقتها المناسب.واضح أن الكاتب لم يكن يعرف موقع الهيكل حتى لحظات الكتابة ممَّا يرجح أن السفر قد كتبه موسى النبي أو بعد انتقاله قبل بناء الهيكل في أورشليم.
ربًّما يظن البعض أن كتاب الشريعة قد بدأ بالجانب السلبي إذ يعلن عن هدم كل ما للأمم، لكن من الواضح أنَّه يهدف إلى الجانب الإيجابي: تأكيد دور الذبيحة والدم في حياتهم الذي لن يتحقَّق مع بقاء العبادة الوثنيَّة.
يربط ما بين تحطيم كل ما للأمم خاصة العبادة الوثنيَّة وإقامة مسكن لله في وسطهم. الأرض التي استخدمت قبلاً للدنس هي بعينها تتقدَّس لتُحسب موضع سكنى الله. لا يريد الله الهدم بل البناء، محوِّلاً طاقاتنا من الشرّ إلى الخير.
لما كان الهيكل هو موضع الذبيحة ومركز حياة شعب الله الداخل في ميثاق مع الله، لذا يؤكِّد هنا أن الله نفسه هو الذي يختار موضعه [5، 11، 18] ليدعى فيه اسمه، وأنه موضع واحد. حقًا إن الذبائح الحيوانيَّة متعددة لتكشف جوانب الصليب الكثيرة، لكنَّها تقدِّم في هيكل واحد، كأنَّها ذبيحة غير متكرِّرة.
لم يسمح الله لشعبه بتقديم الذبائح في أي موضع غير المكان الذي اختاره لنفسه ليكون بيتًا له، وفيه يُقام مذبح له. بهذا يحفظهم من السقوط في تقديم ذبائح للأوثان أو على مذابح وثنيَّة.
"بل المكان الذي يختاره الرب إلهكم من جميع أسباطكم ليضع اسمه فيه،
سكناه تطلبون،
وإلى هناك تأتون.
وتقدِّمون إلى هناك محرقاتكم وذبائحكم وعشوركم ورفائع أيديكم ونذوركم ونوافلكم وأبكار
بقركم وغنمكم" [5-6].
كان تابوت العهد يمثِّل الحضرة الإلهيَّة، وحيث يُوجد ينسب الله المكان إليه، ويحسبه بيته المقدَّس. يحوي التابوت لوحيّ الشهادة، فلا ينال أحد بركة إلاَّ من خلال تابوت العهد الذي يمثِّل تقديم الشريعة أو كلمة الله كما من فم الله نفسه.
أثناء رحلتهم في البرِّيَّة لم تكن خيمة الاجتماع دائمًا منصوبة، ولم يكن ممكنًا تحديد موقع معيَّن لممارسة العبادة. هذا ولم يكن ممكنًا ممارسة كل الطقوس حسب الشريعة، أمَّا بعد بناء الهيكل في الموقع الذي اختاره الرب فقد صار الأمر مختلفًا تمامًا.
استقر تابوت العهد أولاً في شيلوه، ولكن بسبب الشرّ الذي ارتكبه الشعب حلّ غضب الله على الموضع. انتقل من موضع إلى آخر وأخيرًا في أيَّام داود النبي تثبَّت في أورشليم حتى قام سليمان بن داود ببناء الهيكل، وتراءى الرب لسليمان ليلاً، وقال له: "اخترت هذا المكان لي بيت ذبيحة" (2 أي 7: 12). ما فعله سليمان كان عطيَّة من قبل الله له ولشعبه، إذ قال: "وأنا بنيت لك بيت سكني مكانًا لسكناك إلى الأبد" (1 أي 6: 2).
"مبارك الرب إله إسرائيل الذي كلَّم بفمه داود أبي وأكمل بيديه قائلاً: "منذ يوم أخرجت شعبي من أرض مصر لم أختر مدينة من جميع أسباط إسرائيل لبناء بيت ليكون اسمي هناك، ولا اخترت رجلاً يكون رئيسًا لشعبي إسرائيل، بل اخترت أورشليم ليكون اسمي فيها" (1 أي 6: 4-6).
في العهد القديم كان تقديم الذبائح في بيت واحد لله، أمَّا في العهد الجديد فقد صارت الأرض وملؤها للرب ولمسيحه، يقدِّم بخور للرب في كل مكان (ملا 1: 11). كما أعلن السيِّد المسيح للمرأة السامريَّة أن العبادة الحقَّة لا ترتبط بهذا الجبل ولا بأورشليم، بل بالروح والحق أينما وجد المؤمنون الحقيقيُّون (يو 4: 23).
ماذا يفعلون في بيت الرب؟
أولاً: يقدِّمون المحرقات والذبائح والتقدمات [6، 11]، فإنَّه يليق بالمسيحي أن يقدِّم ذبائح الحب لله.ثانيًا: أن يأكلوا هناك أمام الرب: "وتأكلون هناك أمام الرب إلهكم " [7]. إنَّه لا يطلب فقط تقديم عطاياهم التي هي في الواقع جزء من هباته لهم، إنَّما يطلب أيضًا أن يتقدَّموا ليأكلوا طعامًا مقدَّسًا. أنَّه يريد أن يُشبع أعماقهم، يطلب ما لهم، لا ما هو له، لأنَّه غير محتاج إلى شيء. إلهنا يشتاق أن يجلس معنا ونحن معه، يأكل معنا ونأكل معه، على مستوى الصداقة والحب، لذا يقول: "هأنذا واقف على الباب وأقرع، إن سمع أحد صوتي وفتح الباب ادخل إليه وأتعشَّى معه وهو معي" (رؤ 3: 20).
يُريدنا أن نأكل أمامه فيشبع قلوبنا بحبُّه وعقولنا بمعرفته وحواسنا بقداسته، واهبًا إيَّانا شبعًا لكل أعماقنا.
ثالثًا: أن يمارسوا الفرح في الرب في هذا البيت، مؤكِّدًا الالتزام بالفرح [7، 12، 18]. يكرر في هذا السفر الدعوة للفرح أمام الرب (14: 26؛ 16: 11، 14؛ 26: 11؛ 27: 7).
"وتفرحون بكل ما تمتد إليه أيديكم،
أنتم وبيوتكم كما بارككم الرب إلهكم" [7].
لعلَّه يتحدَّث هنا عن الاحتفال بالأعياد الرئيسيَّة التي فيها تقدَّم ذبائح معيَّنة، فإنَّه يود أن يجعل من بيته "بيت الفرح" الذي فيه يجتمع المؤمنون معًا ليحتفلوا بالعيد.
أحد ملامح العبادة اليهوديَّة والحياة هي الفرح (تث 12: 7، 18). ليس شيء يفرِّح قلب الله مثل أن يفرِّح أبناؤه به في بيته، لهذا لم يسر بهم حين غطُّوا مذبحه بالبكاء والصراخ (ملا 2: 13).
يفرح المؤمن بالرب ويسحب قلوب أسرته وعبيده ومن حوله ليحيوا بالفرح في الرب. الإيمان هو دعوة للتمتُّع بالفرح الداخلي السماوي، ننعم به وسط الآلام، ونعيشه حتى في لحظات البكاء وخلال دموع التوبة. فمع مرارة التوبة تختبر النفس فرح الروح وسلام القلب. بالفرح يقبل المؤمن كل الأتعاب ويعبر الضيقات متمتِّعًا بالشركة مع مسيحه واهب الفرح الحقيقي.
+ عذوبة التفاح تُعوِّض مرارة الجذور. والرجاء في نوال ربح يعطي بهجة أثناء مخاطر البحر. وتوقع نوال الصحَّة يخفِّف ما يسبِّبه الدواء من رغبة في القيء. من يرغب في المكسَّرات (لوز أو بندق الخ) يكسر غلافها. هكذا من يرغب في الفرح بالضمير المقدَّس يحتمل بسهولة مرارة التوبة[123].
القدِّيس جيروم يرى القدِّيس أغسطينوس أن سرّ فرح المؤمنين هو تمتُّعهم بجمال الحق الإلهي إذ يقول:
+ الآن تطلَّع يا يسوع الطوباوي من جبلك المقدَّس. انظر إلى مؤمنيك الحقيقيِّين وسط الجماهير، فإنَّهم لا يجدون بهجة إلاَّ في أن يُسألوا ويُقاوموا ويحاورهم الآخرون على الدوام.
افتح عن عيونهم أيُّها الرب، فيروك ويندهشون بجمال حقَّك، ويجرون إليك متعبِّدين لك[124].
القدِّيس أغسطينوس رابعًا: أن يفرح معهم اللآوي الذي في أبوابهم [12].
"وتفرحون أمام الرب إلهكم أنتم وبنوكم وبناتكم وعبيدكم وأماؤكم واللآوي الذي في أبوابكم،
لأنَّه ليس له قسم ولا نصيب معكم" [12].
إن كان يبدو أن الذكور وحدهم كانوا ملتزمين بالحضور إلى بيت الرب للاحتفال بالعيد (خر 23: 17)، لكن كان يسمح للنساء أن يرافقوهم في رحلتهم هذه (1 صم 1: 3-23).
كان اللآويون يساعدون الكهنة في أعمالهم الطقسيَّة، كما كانوا ينتشرون في المدن ليعلِّموا الشعب شريعة الله. يليق بنا أن ندعو اللآويين ليدخلوا إلى بيوتنا، ونسمع من أفواههم شريعة الله، ونفرِّح قلوبهم بتجاوبنا مع الكلمة.
كانوا يقدِّمون العشور والبكور للآويين لخدمة الهيكل ولكي يعيش بها اللآويون.
لماذا طالبهم بالعبادة المركزيَّة خاصة في تقديم الذبائح؟
أولاً: لحفظهم من الإغواء بتقديم ذبائح للأوثان أو على مذابح وثنيَّة، فقد كانت الإغراءات تحوِّط بهم من كل جانب، وكان إمكانيَّة السقوط واردة.
ثانيًا: لكي يحفظ روح الجماعة والوحدة، فيلتقوا معًا في بيتٍ واحدٍ، وبقلبٍ واحدٍ. فالهيكل يمثِّل مركزًا للوحدة. في العهد القديم سألهم أن يعبدوا الرب في مكان واحد، خاصة أثناء الاحتفال بالأعياد، حتى يحقِّق وحدتهم كأمَّة واحدة تتعبَّد للإله الواحد، بعيدًا عن العبادات الوثنيَّة. أما في العهد الجديد فعِوض المكان الواحد صار لنا اللقاء في شخص واحد، هو شخص ربنا يسوع المسيح، فيه تجتمع من الأمم والشعوب والألسنة كأعضاء في الجسد الواحد، يحملنا إلى حضن أبيه الواحد، ويُقيم منا كنيسة واحدة مجيدة بلا عيب.
ثالثًا: لتأكيد وحدانيَّة الله، إذ لنا إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس (1 تي 2: 5)، وأنَّّه لا يوجد إلاَّ طريق واحد به نلتقي مع الله أبينا ألاَّ وهو شخص السيِّد المسيح.
رابعًا: إنَّه ليس من حقِّهم اختيار المكان، بل الله هو الذي يختاره.
"لا تعملوا حسب كل ما نحن عاملون هنا اليوم أي كل إنسان مهما صلح في عينيه.
لأنَّكم لم تدخلوا حتى الآن إلى المقر والنصيب اللذين يعطيكم الرب إلهكم.
فمتى عبرتم الأردن وسكنتم الأرض التي يقسِّمها لكم الرب إلهكم وأراحكم من جميع أعدائكم
الذين حواليكم وسكنتم آمنين،
فالمكان الذي يختاره الرب إلهكم ليحل اسمه فيه تحملون إليه كل ما أنا أوصيكم به
محرقاتكم وذبائحكم وعشوركم ورفائع أيديكم وكل خيار نذوركم التي تنذرونها للرب.
احترز من أن تصعد محرقاتك في كل مكان تراه.
بل في المكان الذي يختاره الرب في أحد أسباطك هناك تصعد محرقاتك وهناك تعمل كل ما
أنا أوصيك به" [7-14].
في الوقت الذي فيه يطلب ألاَّ يفعل كل إنسان حسب هواه الشخصي كرَّر هذا الأصحاح تعبير: "احترز لنفسك" ثلاث مرات [13، 19، 30]. إنَّه يحث كل إنسان أن يهتم بما لنفسه، لا بالتمسُّك بأفكاره الخاصة، بل بمراجعته لأعماقه الداخليَّة. بنفس الروح يحث الرسول بولس تلميذه تيموثاوس: "لاحظ نفسك" (1 تي 4: 16). كما يحث أهل كورنثوس قائلاً: "ليمتحن الإنسان نفسه" (1 كو 11: 28).
هكذا يسألنا موسى النبي وأيضًا الرسول بولس أن يحترز كل منا لنفسه، أي يليق بالفكر أن يسلك في الطريق الملوكي ممتحنًا قلبه الداخلي لئلاَّ يكون قد انحرف آلاف الأميال عن طريق الله. ليس له أن يمتحن الآخرين ويدينهم، بل يمتحن نفسه كما بنارٍ لئلاَّ بينما ينشغل بامتحان الآخرين ونقدهم يصير هو شاردًا عن الحق.
عملنا أن نحب الآخرين ونطلب خلاصهم ليُشاركونا المجد الأبدي، لا أن ندينهم وننتقدهم!
يرى البابا أثناسيوس الرسولي أن الله قد أمر ألاَّ تقدَّم ذبائح خارج مدينة أورشليم وخارج الموضع الذي اختاره الله، وذلك حتى متى تدمَّرت المدينة يدرك الكل أن الظلال قد انتهت ولم تعد هناك حاجة إلى الذبائح الحيوانيَّة الرمزيَّة[125].
+ الآن ما هي المحرقة الروحيَّة؟ "ذبيحة التسبيح" (مز 50: 14 LXX]. في أي موضع نقدِّمها؟ في الروح القدس. من أين تعلَّمنا هذا؟ من كلمات الرب نفسه: "إن الساجدين الحقيقيِّين يسجدون للآب بالروح والحق" (يو 4: 23) [126].
القدِّيس باسيليوس الكبير
"ولكن من كل ما تشتهي نفسك تذبح وتأكل لحمًا في جميع أبوابك.
حسب بركة الرب إلهك التي أعطاك،
النجس والطاهر يأكلانه كالظبيّ والآيل" [15].
لم يكن اللحم طعامًا معتادًا يوميًا عند الشعب، بل كانوا يأكلونه عند التقدمات أو وقت الأعياد.
في أثناء الرحلة في البرِّيَّة كانت الحيوانات التي تذبح للأكل مثل الثيران والماعز والحملان تُذبح كتقدمة سلامة عند دار الخيمة، ويُرش دمها، ويُحرق شحمها على المذبح. وكان ذلك يتم خشية أن يقدِّم أحد ذبائح للأوثان، أمَّا بعد دخول أرض الموعد وانتشار الأسباط على تلك المساحات الشاسعة فقد ترك لهم حق الذبح للطعام في مدنهم وبيوتهم. سمح لهم بذبح بعض الحيوانات التي لا يجوز تقديمها ذبائح للرب (لا 17: 3)، تُذبح في بيوتهم للأكل وليس كتقدمات للرب، وذلك مثل الظبي والآيل، بشرط أن يتم ذلك "حسب بركة الرب".
3. الامتناع عن شرب الدم:
"وأمَّا الدم فلا تآكله على الأرض تسفكه كالماء" [16].
لماذا جاءت الوصيَّة في العهدين القديم والجديد تمنع شرب الدم؟
أولاً: يرى البعض أن بعض الوثنيِّين كانوا محبِّين لسفك الدماء، لهذا ظنُّوا أن آلهتهم محبَّة لسفك الدماء، لذا كانوا يشربون الدم كطقس ضروري في العبادة، لكي يبهجوا الشيَّاطين. وكما يقول المرتِّل داود: "تكثر أوجاعهم الذين أسرعوا وراء آخر، لا أسكب سكائبهم من دم، ولا أذكر أسماءهم بشفتيّ" (مز 16: 4). كان شرب الدم يُعتبر شركة مع الشيَّاطين[127].
مع كل وجبة طعام يليق بنا أن نشعر بالحضرة الإلهيَّة، وبالجوع إليه.
ثانيًا: حمل هذا العمل رمزًا لدور السيِّد المسيح الخلاصي الذي جاء ليُحطِّم مملكة إبليس تمامًا.
ثالثًا: كان يُنظر إلى الدم بكونه يحمل حياة الإنسان، فسفك الدم أو شربه يعتبر ذبيحة، لا تُقدِّم لإنسان ما، ولا يجوز له أن يأكل الدم أو يشربه.
رابعًا: لأنَّه إلى وقت قريب كان الإنسان في عنفه، خاصة عند الأخذ بالثأر يقتل ويشرب من دم القتيل كنوعٍ من التشفي، لهذا منعت الوصيَّة شرب الدم بوجه عام.
+ السبب لمنع أكل الدم أنَّه مكرَّس ليقدِّم لله وحده. أو لعلَّ المنع كان لأن الله أراد أن يصد الناس عن الاندفاع إلي سفك الدماء البشريَّة. فمنعهم من أكل دم الحيوانات لئلاَّ يحملهم هذا علي السقوط تدريجيًا في خطيَّة سفك دماء البشريَّة. سبق فقلت إنَّنا كثيرًا ما نسمع خصمًا يهدِّد خصمه، قائلاً: "سأقتلك وأشرب من دمك"[128].
القدِّيس يوحنا ذهبي الفم
4. الأكل أمام الرب:
"لا يحل لك أن تأكل في أبوابك عُشر حنطتك وخمرك وزيتك،
ولا أبكار بقرك وغنمك،
ولا شيئا من نذورك التي تنذر ونوافلك ورفائع يدك.
بل أمام الرب إلهك تأكلها في المكان الذي يختاره الرب إلهك أنت وابنك وابنتك وعبدك
وأمتك واللآوي الذي في أبوابك
وتفرح أمام الرب إلهك بكل ما امتدَّت إليه يدك" [17-18].
في البرِّيَّة حيث لم يكن قد استقر تابوت العهد في موضعٍ ثابتٍ كان يُسمح لهم بتقديم ذبائح للرب والأكل منها أينما وجدوا. لم يكن يوجد احتمال أن يشتركوا مع الوثنيِّين في الذبائح للعبادة الوثنيَّة، أمَّا وقد استقرُّوا في أرض الموعد فإنَّه صار الاحتمال قائمًا، لذلك جاءت الوصيَّة مشدَّدة أنَّه لا يجوز أن يذبحوا للرب في غير بيت الرب، ولا أن يأكلوا من هذه الذبائح في بيوتهم.
لقد سمح لهم أن يأكلوا لحمًا في بيوتهم ويذبحوا كما يشاءوا لكن غير ذبائح الرب.
كان للخدم – حتى العبيد الغرباء – حقوق كثيرة وامتيازات وسط الشعب الإسرائيلي. أحد هذه الامتيازات هو اشتراكهم في الأعياد الكبرى وتمتُّعهم بالأفراح (تث 16: 11).
5. الاهتمام باللآوي:
"احترز من أن تترك اللآوي كل أيَّامك على أرضك" [19].
لم ينل اللآويُّون نصيبًا أو ميراثًا في أرض الموعد، لأن الرب هو نصيبهم وميراثهم. لذا يليق بالمؤمنين أن يقدِّموا عشورهم وبكورهم ونذورهم التي للرب لخدَّامه. إن كان يليق بخدَّام الكلمة أن يتفرَّغوا للخدمة والعمل الروحي، فإنَّه ليس بالكثير أن تُقدِّم لهم احتياجاتهم الماديَّة.
6. عدم أكل الدم:
سبق الحديث عنه في الآية [16].
"إذا وسَّع الرب إلهك تخومك كما كلَّمك وقلت آكل لحمًا لأن نفسك تشتهي أن تأكل لحمًا فمن كل ما تشتهي نفسك تأكل لحمًا.
إذا كان المكان الذي يختاره الرب إلهك ليضع اسمه فيه بعيدًا عنك، فاذبح من بقرك وغنمك التي أعطاك الرب كما أوصيتك وكل في أبوابك من كل ما اشتهت نفسك.
كما يؤكل الظبي والآيل هكذا تأكله، النجس والطاهر يأكلانه سواء.
لكن احترز أن لا تأكل الدم،
لأن الدم هو النفس، فلا تأكل النفس مع اللحم.
لا تأكله، على الأرض تسفكه كالماء.
لا تأكله لكي يكون لك ولأولادك من بعدك خير إذا عملت الحق في عينيّ الرب.
وأمَّا أقداسك التي لك ونذورك فتحملها وتذهب إلى المكان الذي يختاره الرب.
فتعمل محرقاتك اللحم والدم على مذبح الرب إلهك، وأمَّا ذبائحك فيسفك دمها على مذبح الرب
إلهك واللحم تأكله.
احفظ واسمع جميع هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها لكي يكون لك ولأولادك من بعدك خير
إلى الأبد إذا عملت الصالح والحق في عينيّ الرب إلهك" [20-28].
"إذا وسَّع الله تخمك" [20]، كان وعد الله لمؤمنيه أن يوسِّع تخومهم (تك 15: 18؛ خر 23: 27-31)، لكي يتمتَّعوا بخيرات الأرض ويأكلوا ما تشتهيه نفوسهم. الآن يحقِّق الله هذا الوعد الإلهي في أرضه المقدَّسة، في الإنسان الجديد الذي يتَّسع قلبه ليأكل من ثمار الروح: الحب والفرح والسلام والصلاح.. عمل روحه القدُّوس أن يوسِّع قلب الإنسان فيجد لذَّة في احتضان إن أمكن كل البشريَّة، حتى المقاومين له، إذ يُشارك بهذا سمات المسيح محب البشريَّة. هذا هو الطعام الذي نشتهي أن نأكله بعمل نعمة الله فينا.
أعطى للشعب الحق في ذبح حيوانات الحقل، وأيضًا صيد بعض الحيوانات كالظبي والأيل، خاصة بالنسبة للساكنين في مناطق جبليَّة، يصطادون ويذبحون ويأكلون في أي موقع.
يوجد تفريق بين "أقداسك" [26] المخصَّصة للمحرقات والتقدمات الدينيَّة وبين ما يذبحونه للطعام فقط [15، 20، 21].
الظبي والإيل [15] حيوانان يسكنان الجبال، خفيفا الحركة، ولابد أن عددها كان كبيرًا وقت إلقاء الخطاب؛ على أنَّها اعتُبرت ترفًا في المدن بعد ذلك (1 مل 4: 23).
7. عدم الاستفهام عن العبادة الباطلة:
"متى قرض الرب إلهك من أمامك الأمم الذين أنت ذاهب إليهم لترثهم وورثتهم وسكنت أرضهم.
فاحترز من أن تصطاد وراءهم من بعد ما بادوا من أمامك
ومن أن تسأل عن آلهتهم قائلاً: كيف عبد هؤلاء الأمم آلهتهم، فأنا أيضًا أفعل هكذا.
لا تعمل هكذا للرب إلهك لأنَّهم قد عملوا لآلهتهم كل رجس لدى الرب ممَّا يكرهه،
إذ احرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار لآلهتهم.
كل الكلام الذي أوصيكم به احرصوا لتعملوه، لا تزد عليه ولا تنقص منه" [29-32].
لعدم المزج بين الذبيحة المقدَّسة والذبائح الوثنيَّة يحذِّرهم حتى من مجرَّد الاستفهام عن العبادة الوثنيَّة التي كان الأمم يمارسونها، إذ بلغ بهم الفساد والعنف أنَّهم كانوا يقدِّمون أبناءهم وبناتهم ذبائح بشريَّة للأوثان.
اختارهم الله شعبه وأزال من أمامهم الأمم الوثنيَّة، فلا يليق بهم أن يقيموا منهم مثالاً يحتذون به.
أن ما يمارسه الوثنيُّون هو دنس للرب. حقًا الأمر غاية في الخطورة حين تصير الذبيحة التي غايتها تقديس الإنسان دنسًا ونجاسة (أم 15: 8).
لماذا سمح الله بقتل الأمم؟ "إذ أحرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار لآلهتهم" (12: 31). لم يكن هناك طريق لإصلاح البشريَّة إلاَّ بإبادة من تقسَّت قلوبهم حتى قدَّموا بنيهم محرقات!! ارتبط الأمم بالعبادة الوثنيَّة والرجاسات والعنف.
قدّم هذا الأصحاح الخطوط العريضة للعبادة:
1. أين نعبد الرب؟ الله يختار المكان.
2. ما هو جوهر العبادة؟ الحضرة الإلهيَّة، وسكنى الله وسط شعبه [5-11].
3. كيف نعبده؟ حسب الفكر الإلهي لا البشري.
4. من يعبده؟ كل الأسرة حتى الأطفال الصغار.
5. ما هو جو العبادة؟ فرح في الرب.
6. ما هي علاقة العبادة بالخلاص؟ الحاجة إلى تقديس الدم، بدونه لن يتم غفران الخطيَّة.
7. ما هي علاقة العبادة بالحياة؟ حتى في أكلنا نأكل أمام الرب.
8. ما هو دور المؤمنين؟ الإيجابيَّة في كل شيء، فيساهموا حتى في العطاء المادي ونفقات بيت الرب وخدامه.
من وحيّ تثنية 12
لأفرح أمامك!
+ تشتاق أن تحملني إليك،فآكل وأفرح أمامك!
لتهدم كل وثن، ولتخرب كل هيكل فاسد،
وتقم من أعماقي هيكلاً مقدَّسًا مختارًا لك.
اقبل محرقة حبِّي وذبيحة شكري لك.
لتقبل تقدماتي التي هي ممَّا لك أقدِّمها لك.
+ هب لي ألاَّ أمزج عبادتي لك بعبادة وثن،
بل ويكون القلب كلُّه لك وحدك.
أي مكان اخترته لي لأتعبَّد لك فيه
إلاَّ الجلجثة؟
لترتبط عبادتي بصليبك،
فتسكب حبَّك في قلبي،
وتملأ نفسي فرحًا وتهليلاً.
وتتَّسع تخوم، قلبي فيحمل كل بشر فيه!
+ لأهرب من كل موقع رجس،
ولأتحرَّر من كل عادة دنسة!
حرِّرني من كل رجاسة وثنيَّة،
فلا أشرب دمًا ولا آكل مخنوقًا!
لا أحمل قلبًا قاسيًا ولا نفسًا دنسة!
قدِّسني إلى التمام فأنت هو القدُّوس وحدك!
المراجع:
[123] Comm. On th Gospels.
[124] Sermons, 234.
[125] Cf. Paschal Letters, 1:7f.
[126] St. Basil: On the Spirit, 62.
[127] Matthew Henry Commentary.
[128] منشورات النور: مجموعة الشرع الكنسي، لبنان 1975م، ص865.