تفسير الاصحاح الثانى من سفر ملوك الأول للقمص تادري يعقوب ملطى
وصيَّة داود الملك لابنه
كشفت اللحظات الأخيرة من حياة داود عمَّا يحمله في قلبه. فإنًَّه كان يهتم أن يتمِّم مشيئة الرب من جهة إقامة سليمان ملكًا، وأيضًا في تحقيق العدالة الإلهيَّة سواء بالنسبة لمن أساءوا إلى الناموس أو الذين قدَّموا عمل محبَّة.من عادة الآباء أن يقدِّموا النصائح الوداعيَّة حينما يشعرون بقرب رحيلهم من العالم، يقدِّمونها مع البركة، خاصة للابن البكر. والسيِّد المسيح نفسه قبيل صلبه قدَّم لنا حديثه الوداعي الرائع، كما قدَّم صلاة وداعيَّة.
جاءت تدابير داود لابنه لتولِّى العرش في (1 أي 28-29)، تتلخَّص في الآتي:
1. عرَّف رجال القصر بابنه كملكٍ خلَفُه على العرش، مختار من قبل الله.
2. أوصاهم بالطاعة للوصايا الإلهيَّة.
3. حثَّ سليمان والشعب على بناء الهيكل مقدِّمًا له نموذجًا للمبنى مع المواد التي جمعها لتحقيق هذا الهدف.
4. حث العظماء على المساهمة في هذا العمل.
5. قدَّم تسبيحًا وشكرًا لله، كما أقام احتفالاً دينيًا.
6. مسحه في حضرة الرب أمام الشعب (1 أي 29: 22) للمرَّة الثانية، كما حدث مع شاول (1 صم 11)، وداود (2 صم 2: 4، 5: 3)، غايتها هو الاطمئنان ألاَّ يحدث تمرُّد على سليمان بعد موته.
تكشف وصيَّته الوداعيَّة عن شوق داود النبي أن يلتزم خلفاؤه أن يخافوا الرب ويكونوا مخلصين للعهد حتى يتحقَّق الوعد الإلهي بأن تستمر عائلة داود الملوكيَّة على العرش. هذا هو الضمان الوحيد لنجاحهم في كل عملٍ تمتدّ إليه أيديهم.
1. وصايا روحيَّة [1-4].
2. وصيَّة خاصة بيوآب [5-6].
3. وصيَّة تخص بني برزلاي [7].
4. وصيَّة تخص شمعي [8-9].
5. ثبوت مُلك سليمان [10-12].
6. أدونيَّا يحطِّم نفسه [13-25].
7. استبعاد أبياثار [26-27].
8. قتل يوآب [28-35].
9. معاقبة شمعي [36-46].
1. وصايا روحيَّة :
في وقارٍ شديد وجِديَّة قدَّم داود الملك وهو على فراش الموت وصيَّته لابنه سليمان. وقد جاءت وصيَّة داود الوداعيَّة نموذجًا حيًّا لما يليق بالآباء أن يقدِّموه لأبنائهم:أ. نظرته نحو الموت كانطلاق للنفس في موكب جماعي وخروجها مع نفوس آبائه إلى مسكنها الأخير:
"ولما قربت أيَّام وفاة داود أوصى سليمان ابنه قائلاً:
أنا ذاهب في طريق الأرض كلها،
فتشدَّد وكن رجلاً" [1-2].
إنه لم يخشَ أن يسمع عن الموت أو يتحدَّث عنه، بل عبَّر عنه بأسلوب رائع. حسبه طريق الأرض كلها. البشريَّة التي خرجت من الأرض تلتزم بالعودة إليها. الموت هو انطلاق من وادي الدموع (مز 23: 4)، كما في موكب يضم الجميع حتى الأنبياء العظماء والمؤمنين الأبرار، والملوك، لكن بروح الرجاء حيث يعبرون إلى ما وراء الزمن.
+ الموت بالنسبة للذين يفهمونه خلود، أمَّا بالنسبة للبُلهاء الذين لا يفهمونه فهو موت. يجب علينا ألاَّ نخاف هذا الموت، بل نخاف هلاك النفس الذي هو عدم معرفة الله. هذا هو ما يرعب النفس بحق!
+ يستحيل علينا أن نهرب من الموت بأيَّة وسيلة.
إذ يعرف العقلاء هذا بحق يمارسون الفضائل ويفكِّرون في حب الله، ويواجهون الموت بلا تنهُّدات أو خوف أو دموع، مفكِّرين في أن الموت أمرٌ محتم من جهة، ومن جهة أخرى إنًَّه يحرِّرنا من الأمراض التي نخضع لها في هذه الحياة.
القدِّيس أنطونيوس الكبير ب. حثّ الجيل الجديد على العمل بروح القوَّة والالتزام والشعور بالمسئوليَّة:
"تشدَّد وكن رجلاً" [2].
تحمل هذه الوصيَّة الأبويَّة انعكاسًا للوصيَّة الإلهيَّة لكل قائدٍ، بل ولكل مؤمنٍ، إذ يود الله أن يرى في كل أولاده قادة واثقين من الحضرة الإلهيَّة والتمتُّع بالوعود الإلهيَّة وبالقوَّة السماويَّة. فمهما بلغ عمرنا نشعر أنَّنا أطفال، لكن بالرب نصير ناضجين، نحمل روح القوَّة.
"تشدَّدوا وتشجَّعوا، لا تخافوا ولا ترهبوا وجوههم، لأن الرب إلهك سائر معك، لا يهملك ولا يتركك" (تث 31: 6).
"تشدَّد وتشجَّع، لأنَّك أنت تقسم لهذا الشعب الأرض التي حلفت لآبائهم أن أعطيهم" (يش 1: 6).
"إنَّما كن متشدِّدا وتشجَّع جدًا لكي تتحفَّظ للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها موسى عبدي، لا تمل عنها يمينًا ولا شمالاً لكي تفلح حيثما تذهب" (يش 1: 7).
"أما أمرتك تشدَّد وتشجَّع؟! لا ترهب ولا ترتعب، لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب" (يش 1: 9).
"انتظر الرب ليتشدَّد وليتشجَّع قلبك وانتظر الرب" (مز 27: 14).
لتتشدَّد ولتتشجَّع قلوبكم يا جميع المنتظرين الرب" (مز 31: 24).
"اسهروا اثبتوا في الإيمان، كونوا رجالاً تقووا" (1 كو 16: 13).
+ تحمَّل برجولة النيران التي تُطهِّر شهواتك، وفي شجاعة تلك التي تُطهِّر قلبك. لا تظن أن ما لم تنله بعد لا تحصل عليه. ولا تخور يائسًا مادمت تتأمَّل الكلمات: "انتظر الرب".
القدِّيس أغسطينوس
ج. الالتزام بالإخلاص للعهد الإلهي والطاعة لوصاياه.
"احفظ شعائر الرب إلهك،
إذ تسير في طرقه وتحفظ فرائضه وصاياه وأحكامه وشهاداته كما هو مكتوب في شريعة موسى،
لكي تفلح في كل ما تفعل وحيثما توجَّهت.
لكي يقيم الرب كلامه الذي تكلَّم به عنِّي قائلاً:
إذا حفظ بنوك طريقهم وسلكوا أمامي بالأمانة من كل قلوبهم وكل أنفسهم
قال لا يعدم لك رجل عن كرسي إسرائيل" [3-4].
ما هو السير في طريق الرب إلاَّ التمتُّع بالحضرة الإلهيَّة والاتِّكاء على الذراع الإلهي وحفظ الوصيَّة عِوض السير حسب الفكر البشري والاتِّكاء على القوَّة العسكريَّة والذهب والفضة والمظاهر الخارجيَّة.
إن أراد المؤمن أن يكون ملكًا حقيقيًا، صاحب سلطان على أفكاره ومشاعره وكلماته وتصرُّفاته، قادر أن يطأ كل قوَّات الظلمة يلتزم أن يحفظ فرائض الرب ووصاياه وأحكامه وشهاداته. فإنًَّه إذ يحفظها تحفظه هي، وتهبه من سماتها القداسة والحكمة مع القوَّة والفرح.
في تفسيرنا لسفر المزامير سبق أن عرضنا التمييز بين الفرائض والوصايا والأحكام والشهادات.
إذ يقدِّم الله لنا الفرائض المقدَّسة يودّ منَّا أن نسلك بروح التدبير والنظام لنحمل حياته المقدَّسة فينا، فلا يكون للتشويش موضع فينا. وبوصاياه يشتهي أن نحمل روح الطاعة، فنشارك مسيحنا المطيع للآب سماته الفائقة. وبحفظنا لأحكامه نُعلن ثقتنا في أبوَّته الحكيمة الحانية وقبولنا لإرادته الإلهيَّة حتى في لحظات تأديبنا المُرَّة. وبتمسُّكنا بشهاداته نشهد أمام أنفسنا كما أمام اخوتنا يقيننا بالحق الإلهي، وترقُّبنا لما وعدنا به في الحياة العتيدة.
هكذا يدعو داود النبي ابنه سليمان أن يلتزم كملكٍ بالآتي:
إن كان كملكٍ يطلب خضوع الكل للنظام الذي يضعه من أجل سلام البلد، يلتزم هو بالخضوع للتدبير الإلهي فلا يسلك حسب هواه الشخصي. فإن في داخله مملكة الله التي تشغل السماء كلَّها!
يلتزم الملك بالطاعة لله ولوصيَّته، فيطيعه شعبه ويقبل قوانينه.
يقبل أحكام الله العادلة، فيحمل روح العدالة في أحكامه الخاصة بالدولة.
يشهد لله الأمين في مواعيده، فيصير هو نفسه موضع ثقة شعبه.
هكذا يقدِّم لنا داود النبي مفهومًا حيًّا عمليًّا للنجاح، وهو أن ما نمارسه في علاقتنا بالله أبينا يرتدّ علينا حتى في علاقات اخوتنا بنا. وكما قيل: "كما فعلت يُفعل بك؛ عملك يرتدّ على رأسك" (عو 15). إن صرنا موضع سرور الله، ننال نعمة حتى أمام أعدائنا إن وُجدوا.
أما بخصوص الوعد الإلهي لداود أن لا يُعدم له رجل على كرسي إسرائيل، فقد قدَّمه له الرب في (2 صم 7: 11-16)، وثبَّته لابنه سليمان بعد ذلك (1 مل 9: 5). وكان هذا الوعد مشروطًا، وللأسف لم يوفِ أبناء داود بالشروط، فنُزعت المملكة منهم تدريجيًّا خلال السبيّ الآشوري ثم البابلي. أمَّا الوعد الإلهي بمجيء المسيّا من نسله فلم يكن مشروطًا وقد جاء ربنا يسوع المسيح ابن داود.
بمجيئه تثبَّت الوعد الأوَّل بمفهوم روحي جديد تحدَّث عنه إرميا النبي (33: 14-18). فقد جاء المسيّا "الرب برِّنا"، ووهبنا ذاته برًّا أمام الآب، وصرنا ملوكًا روحيِّين، نجلس على كرسي بيت إسرائيل، نُحسب أبناء لداود الملك، أو بالأحرى لابن داود ملك الملوك.
لعلَّه يشير هنا إلى الشرائع الخاصة بالملك كما قدَّمها موسى النبي: "لا يكثر له الخيل ولا يرد الشعب إلى مصر لكي يكثر الخيل والرب قال لكم لا تعودوا ترجعون في هذه الطريق أيضًا، ولا يكثر له نساء لئلاَّ يزيغ قلبه، وفضَّة وذهبًا لا يكثر له كثيرًا. وعندما يجلس على كرسي مملكته يكتب لنفسه نسخة من هذه الشريعة في كتاب من عند الكهنة اللآويِّين.
فتكون معه ويقرأ فيها كل أيَّام حياته، لكي يتعلَّم أن يتَّقي الرب إلهه ويحفظ جميع كلمات هذه الشريعة وهذه الفرائض ليعمل بها، لئلاَّ يرتفع قلبه على اخوته ولئلاَّ يحيد عن الوصيَّة يمينًا أو شمالاً، لكي يطيل الأيَّام على مملكته هو وبنوه في وسط إسرائيل" (تث 17: 16-20).
لم يُمنع الملك من أن يركب خيلاً، وإن كان ملك الملوك في تواضعه دخل أورشليم راكبًا على أتان وجحش ابن أتان. لقد مُنع من المبالغة في استخدام الخيول كنوعٍ من المجد الباطل، أو لأنَّه مع كثرة الخيل يعطي أناسًا غير مستحقِّين للكرامة أن يستغلُّوا موقعهم في القصر الملكي. قيل: "قد رأيت عبيدًا على الخيل، ورؤساء ماشين على الأرض كالعبيد" (جا 7: 10).
يري العلامة أوريجينوس أن الخيل تُشير إلي الشيَّاطين التي سقطت من السماء بسبب كبريائها، هؤلاء الذين تبعوا القائل:" أصعد فوق مرتفعات الرب وأصير مثل العليّ" (إش 14: 14).
+ كُتب في سفر المزامير: "باطل هو الفرس لأجل الخلاص" (مز 33: 17)؛ وجاء في موضع آخر في الكتاب المقدَّس: "الفرس والمركبة طرحهما في البحر" (خر 15: 1). كانت الوصيَّة الصادرة لملك إسرائيل ألاَّ يمتطي خيلاً (تث 17: 16)..
أظن أن الخيول هي البشر الخطاة، وراكبيها هم الشيَّاطين التي تمتطي الأشرار.. الذي تحوَّل إلي مُضطهد هو فرس، والشيطان هو قائده الذي يرشقنا برمحٍ. الخيل يجري والشيطان يرشق بالرماح. الخيل مسُوق في حالة هياج بمن يثيره ويهيِّجه بجنون بغير إرادته[1].
القدِّيس جيروم v يمكننا أن نأخذ الفرس رمزًا لأيَّة ممتلكات في هذا العالم، أو لأي نوع من الكرامة نتَّكل عليها في كبرياء، حاسبين خطأ أنَّكم كلَّما ارتفعتم يزداد أماتكم وعلوكم. ألا تدركون بأي عنفٍ سوف تلقون؟! كلَّما ارتفعتم إلي أعلى يكون سقوطكم بأكثر ثقل.. فكيف إذن يتحقَّق الأمان؟ فإنًَّه لا يتحقَّق بالقوَّة ولا بالسلطة ولا بالكرامة ولا بالمجد ولا بالفرس[2].
القدِّيس أغسطينوس
2. وصيَّة خاصة بيوآب :
"وأنت أيضًا تعلم ما فعل بي يوآب ابن صرويَّة.
ما فعل لرئيسي جيوش إسرائيل إبنَيَر بن نير وعماسا بن يثر،
إذ قتلهما وسفك دم الحرب في الصلح،
وجعل دم الحرب في منطقته التي على حقويه وفي نعليه اللتين برجليه.
فافعل حسب حكمتك، ولا تدع شيبته تنحدر بسلام إلى الهاوية" [5-6].
السلوك بروح العدالة استحق يوآب الموت مرَّتين بقتله القائدين العظيمين إبنيَر (2 صم 3: 27) وعماسا (2 صم 20: 10) حسدًا، بغدرٍ وخداعٍ. هذا الأمر لم يحزن داود فحسب، وإنَّما تشكَّك البعض ظانِّين أن داود هو الذي قتل إبنير (2 صم 3: 28، 37). لقد سفك دمًا في وقت السلم، الأمر الذي ما كان يجب أن يحدث، فإنًَّهما لم يكونا عدوِّين له يحاربانه.
بقوله "جعل دم الحرب في منطقته التي على حقويه وفي نعليه اللتين برجليه" يكشف عن روح الغدر والخداع. ففي المعارك يتقابل المحاربون من أجل سلامة دولتهم، فيسيل دم كل قتيلٍ على جسده وثيابه، أمَّا يوآب فقد تظاهر باحتضان أبنير وعماسا، وإذ هما في حضنه قتلهما، فسال الدم على منطقته ونزل إلى نعليه. وكأن هذا الدم البريء قد التصق به.
لقد حسب داود قتل القائدين العظيمين خسارة كبيرة لحقت به هو شخصيًّا، وكأن ما فعله يوآب بهما إنَّما فعله بداود نفسه.
فما يلحق بمحبوبيه كأنَّه يلحق به، وما أصاب شعبه بفقدانه القائدين كإنَّما أصابه هو. إنًَّه كملك ومسئول عن أمَّة دخلت في عهد مع الله لا يليق به أن يترك جريمتين كهاتين دون معاقبة المجرم. لقد أجّل العقاب إلى الوقت المناسب، بعد الانتهاء من الحروب في أيَّامه لتتحقَّق العدالة في أيَّام ابنه سليمان. معاقبة قائد حرب مثل يوآب تطلَّبت الحكمة واختيار الوقت المناسب، حتى لا يحدث تذمُّر في الجيش الذي كان البعض، دون شك، معجبين بالقائد.
3. وصيَّة تخص بني برزلاي :
"وافعل معروفًا لبني برزلاي الجلعادي،فيكونوا بين الآكلين على مائدتك،
لأنَّهم هكذا تقدَّموا إليَّ عند هربي من وجه إبشالوم أخيك" [7].
في (2 صم 17: 27) ذُكر برزلاي الجلعادي وحده، هذا الذي أظهر لطفًا لداود عندما هرب من وجه ابنه إبشالوم وقدَّم له طعامًا. وإذ كان قد بلغ الثمانين من عمره، فبلاشك قام أولاده بمساعدته في تحقيق ذلك. غالبًا ما كان برزلاي قد مات، لذا لم يُشر داود الملك إليه بل إلى أبنائه. بنفس الروح صلى الرسول بولس إلى بيت أنسيفورس: "ليٌعط الرب رحمة لبيت أنسيفورس، لأنَّه مرارًا كثيرة أراحني ولم يخجل بسلسلتي.." (1 تي 1: 16-18).
4. وصيَّة تخص شمعي :
"وهوذا معك شمعي بن جيرا البنياميني من بحوريم،
وهو لعنني لعنة شديدة يوم انطلقت إلى محنايم،
وقد نزل للقائي إلى الأردن،
فحلفت له بالرب قائلاً: إنِِّّي لا أميتك بالسيف.
والآن فلا تبرِّره، لأنَّك أنت رجل حكيم،
فاعلم ما تفعل به، وأحدر شيبته بالدم إلى الهاوية" [8-9].
أظهر شمعي البنياميني نوعًا من الكراهيَّة لداود (2 صم 16: 5-8)، إذ لعنه لعنة مرَّة. وعندما عاد داود إلى أورشليم سقط شمعي عند قدميه ووعده الملك بأنَّه لن يقتله، إذ لم يرد أن يمزج فرح الشعب بعودته إلى عرشه بممارسة أيَّة عقوبة (2 صم 19: 19-24).
لقد غفر له فيما يخصُّه شخصيًّا كداود، أمَّا كونه قد أخطأ في حق مسيح الرب والملك ممثِّل الله، فليس من حق داود التهاون في هذا الحق. لقد جاءت وصيَّة داود الملك لابنه: "لا تبرِّره"، بمعنى ألاَّ تعاقبه عن رغبة شخصيَّة في الانتقام لي ولك، وإنَّما تحكم عليه كقاضٍ عادلٍ لا يبرِّر المذنب. لقد أكَّد داود اتِّساع قلبه بالحب لمقاوميه، فلم يمس شمعي بأذى كل أيَّام حياته، وأكَّد أيضًا خطورة التسيُّب في معاقبة المجرمين لذا طلب من ابنه ممارسة الحق الإلهي.
بقوله "لا تبرِّره" يعني لا تحسبه بارًا لأنِّي حلفت له إنِّي لا أقتله بالسيف، بكونك حكيمًا تصرَّف معه لأنَّه يمثِّل خطورة على المملكة، فهو رجل مخادع وليس بريئًا. إنًَّه قد يستغل حداثة سنَّك فيخطِّط ضدَّك.
5. ثبوت مُلك سليمان : "واضطجع داود مع آبائه، ودُفن في مدينة داود" [10].
لم يكن يُسمح بإقامة مقابر داخل المدن؛ كانت أورشليم مستثناة من أجل العائلة الملكيَّة. دُفن داود في مدينة داود، أي على جبل صهيون، وكان قبره هناك ولا يزال قائمًا حتى أيَّام السيِّد المسيح (أع 2: 29).
يقول يوسيفوس المؤرِّخ بأن سليمان أودع كنوزًا كثيرة مع جثمان أبيه في القبر، وقد بقيت محفوظة 13 قرنًا حتى فتح رئيس الكهنة هيراقانوس Hyracanus المقبرة وأخرج 3000 وزنة قدَّمها لأنطيخوس لكي يرفع الحصار عن أورشليم. كما يقول إنًَّه فيما بعد اعتدى هيرودس الكبير على المقبرة واستولى على كنوزٍ كثيرةٍ.
تحدَّث القدِّيس جيروم عن مقبرة داود بكونها كانت لا تزال قائمة في أيَّامه.
"وكان الزمان الذي ملك فيه داود على إسرائيل أربعين سنة في حبرون،
ملك سبع سنين، وفي أورشليم ملك ثلاثًا وثلاثين سنة".
"وجلس سليمان على كرسي داود أبيه، وتثبَّت ملكه جدًا" [11-12].
كانت حياة داود النبي سلسلة لا تنقطع من الآلام، خاصة أثناء الأربعين عامًا من الحكم، فقد جاهد لتثبيت المملكة، لا لمجد ذاتي، وإنَّما لأجل الله. وقد امتزجت آلامه بروح البهجة والتسبيح غير المنقطع. الآن يتسلَّم ابنه سليمان الحكم، فيجد مملكة مستقرَّة إلى حدٍ كبيرٍ. إنًَّها ثمرة تعب والده، فما انتهى إليه والده من جهاد حسن تسلَّمه الابن الصغير ليتحقَّق الاستقرار في فترة وجيزة.
6. أدونيَّا يُحطِّم نفسه :
"ثم جاء أدونيَّا بن حجيث إلى بثْشَبع أم سليمان فقالت:أللسلام جئت؟ فقال: للسلام" [13].
سؤال بثْشَبع لأدونيَّا إن كان قد جاء للسلام يكشف عن توقُّعها إنًَّه جاء إليها بنيَّة شريرة.
"ثم قال: لي معك كلمة.
فقالت: تكلَّم.
فقال: أنت تعلمين أن المُلك كان لي،
وقد جعل جميع إسرائيل وجوههم نحوي لأملك،
فدار المُلك وصار لأخي، لأنَّه من قبل الرب صار له".
في حديث أدونيَّا لبثْشَبع كشف إنًَّه من حقِّه أن يستلم المُلك بكونه أكبر أبناء داود الأحياء، وأن كل الشعب كان مترقِّبًا تحقيق ذلك، ورئيس الكهنة أيضًا كان يتَّجه إلى ذلك، لكن بقي الرب وحده الذي من حقِّه أن يُقيم من يشاء فاختار سليمان [15].
ما نطق به مع أم الملك كان بلا شكٍ امتدادًا لما كان يبثُّه في وسط القصر وبين العظماء، مُعلنًا حقُّه في استلام المملكة. ربَّما لم يكن يُشير إليهم بأن الرب اختار أخاه سليمان.
"والآن أسألك سؤالاً واحدًا، فلا تردِّيني فيه.
فقالت له: تكلَّم.
فقال: قولي لسليمان الملك لأنَّه لا يردُّك أن يعطيني أبيشج الشونميَّة امرأة.
فقالت بثْشَبع: حسنًا أنا اتكلَّم عنك إلى الملك.
فدخلت بثْشَبع إلى الملك سليمان لتكلِّمه عن أدونيَّا،
فقام الملك للقائها، وسجد لها، وجلس على كرسيه،
ووضع كرسيًا لأم الملك، فجلست عن يمينه" [14-19].
اتَّسم سليمان بروح التواضع، فعند دخول والدته قام من على كرسيه وذهب إليها ولم ينتظر حتى تصل إليه، وانحنى أمامها، وسألها أن تجلس عن يمينه، علامة تكريمه لها. الجلوس عن يمين الملك كان علامة التكريم كما جاء في المزمور (110: 1)، وكما كانت العادة لدى ملوك العرب[3] واليونان والرومان[4].
بعمله هذا تمَّم الوصيَّة الخامسة التي تسلَّمها موسى النبي، والخاصة بإكرام الوالدين. وإذ كان والده قد توفَّى لذا كانت الوالدة تجلس عن يمين ابنها تكريمًا لها كأم له، وكمن تمثِّل الوالدين معًا. مع تكريمه العظيم لها أخذ موقفًا حازمًا من أخيه ومعاونيه الذين كانوا لا يزالون يخطِّطون لاستيلاء أدونيَّا الحكم.
"وقالت إنَّما أسألك سؤالاً واحدًا صغيرًا، لا تردُّني.
فقال لها الملك: اسألي يا أمي لأنِّي لا أردُّك.
فقالت: لتعطِ أبيشج الشونميَّة لأدونيَّا أخيك امرأة".
مع أن أبيشج كانت ممرِّضة لكنَّها في نظر الشعب كانت كإحدى السراري. وكان لدى الإسرائيليِّين كما لدى الفارسيِّين[5] أن من يقتني نساء الملك الميِّت يكون كمن تولَّى عرشه (2 صم 12: 8؛ 3: 7-8).
طلبت بثْشَبع ذلك ليس جهلاً منها أنَّ من يقتني نساء الملك يُحسب مستحقًا لنوال العرش، وإنَّما ربَّما لأن أدونيَّا استطاع بكلماته المعسولة أن يقنعها إنًَّه لا يعني هذا، أو ربَّما لأنَّها حسبت أبيشج مجرَّد ممرِّضة وليست واحدة من السراري. كانت شفتا أدونيَّا أنعم من الدُهن، أمَّا قلبه فكان يستعد لحرب داخليَّة مُرَّة. ولعلَّها حسبت أن استجابة هذه الطلبة لأدونيَّا تهدِّئ من نفسه نحو أخيه الأصغر الذي استلم الحكم، فيخضع له. حسبت ذلك ترويضًا له حتى لا يمارس العنف.
"فأجاب الملك سليمان وقال لأمِّه:
ولماذا أنت تسألين أبيشج الشونميَّة لأدونيَّا،
فاسألي له المُلك، لأنَّه أخي الأكبر منِّي،
له ولأبياثار الكاهن وليوآب ابن صرويَّة.
وحلف سليمان الملك بالرب قائلاً:
هكذا يفعل لي الله وهكذا يزيد إنًَّه قد تكلَّم أدونيَّا بهذا الكلام ضدّ نفسه.
والآن حيٌّ هو الرب الذي ثبَّتني، وأجلسني على كرسي داود أبي، والذي صنع لي بيتًا كما تكلَّم، إنًَّه اليوم يُقتل أدونيَّا.
فأرسل الملك سليمان بيد بناياهو بن يهوياداع فبطش به فمات" [13-25].
أشار سليمان إلى أبياثار الكاهن ويوآب مع أدونيَّا لأنَّهما كانا المحرِّضين له لاستلام العرش لكي يحكما من خلاله.
لست أظن أن سليمان يُحسب كاسرًا للوعد الذي قدَّمه لأمِّه إنًَّه يهبها طلبتها. فاهتمام سليمان بسلام المملكة والحفاظ عليها أهم من إيفاء الوعد الخاطئ الذي قدَّمه لأمِّه. يرى البعض لو أن هيرودس لم يقتل القدِّيس يوحنا المعمدان ليقدِّم رأسه لهيروديّا لما حُسب كاسرًا للعهد. فإن التراجع مع الحق أفضل من تحقيق وعد فيه دمار له أو لغيره.
7. استبعاد أبياثار :
يبدو أن سليمان قد عَرف بأن أبياثار الكاهن ويوآب وراء طلب أبيشج زوجة لأدونيَّا، وأنَّهما لا يزالان يخطِّطان لحركة تمرُّد جديدة يقوم بها أدونيَّا [22]. هذا العمل فيه تمرُّد، خاصة وأن الاثنين في مركزين خطيرين ويمثِّلان نموذجين للقادة كما للشعب. إنًَّهما يمارسان خيانة خطيرة متخفِّية!"وقال الملك لأبياثار الكاهن: اذهب إلى عناثوث إلى حقولك،
لأنَّك مستوجب الموت ولست أقتلك في هذا اليوم،
لأنَّك حملت تابوت سيِّدي الرب أمام داود أبي،
ولأنَّك تذلَّلت بكل ما تذلَّل به أبي.
وطرَد سليمان أبياثار عن أن يكون كاهنًا للرب،
لإتمام كلام الرب الذي تكلَّم به على بيت عالي في شيلوه" [26-27].
موقف سليمان الحكيم من أبياثار يكشف عن تحرُّره من كل رغبة للانتقام الشخصي ومن استخدام العنف. اشتراكه في مؤامرة أدونيَّا لاغتصاب العرش يستوجب الموت. لكنَّه اكتفى باستبعاده إلى عناثوث، حيث توجد حقوله. هكذا أعاده في خزي إلى قريته.
لم يحكم عليه بالموت من أجل كرامته كرئيس كهنة، ولأنَّه حمل تابوت العهد، واشترك مع والده في آلامه أثناء اضطهاد شاول لداود أبيه (1 صم 22: 20؛ 23: 8)، وثورة إبشالوم (2 صم 15: 24 الخ).
ما فعله كان تحقيقًا لقول الرب عن بيت عالي الكاهن (1 صم 2: 30-33). بهذا انتقلت رئاسة الكهنوت من بيت عالي إلى صادوق. كان صادوق من عائلة اليعازار، بهذا التغيير عاد الكهنوت إلى قناته الأولى.
8. قتل يوآب :
"فأتى الخبر إلى يوآب، لأن يوآب مال وراء أدونيَّا ولم يمل وراء إبشالوم،فهرب يوآب إلى خيمة الرب، وتمسَّك بقرون المذبح.
فأُخبر الملك سليمان بأن يوآب قد هرب إلى خيمة الرب،
وها هو بجانب المذبح.
فأرسل سليمان بناياهو بن يهوياداع قائلاً: اذهب ابطش به.
فدخل بناياهو إلى خيمة الرب، وقال له:
هكذا يقول الملك: اُخرج.
فقال: كلا، ولكنَّني هنا أموت.
فردّ بناياهو الجواب على الملك قائلاً: هكذا تكلَّم يوآب وهكذا جاوبني.
فقال له الملك: افعل كما تكلَّم وابطش به وادفنه،
وأزل عنِّي وعن بيت أبي الدم الذكي الذي سفكه يوآب.
فيردّ الرب دمه على رأسه،
لأنَّه بطش برجلين بريئين وخير منه وقتلهما بالسيف،
وأبي داود لا يعلم.
وهما أبنير بن نير رئيس جيش إسرائيل، وعماسا بن يثر رئيس جيش يهوذا.
فيرتد دمهما على رأس يوآب، ورأس نسله إلى الأبد،
ويكون لداود ونسله وبيته وكرسيه سلام إلى الأبد من عند الرب.
فصعد بناياهو بن يهويادع وبطش به وقتله، فدُفن في بيته في البريَّة.
وجعل الملك بناياهو بن يهوياداع مكانه على الجيش،
وجعل الملك صادوق الكاهن مكان أبياثار" [28-35].
هرب يوآب إلى خيمة الرب لا إلى خيمة الشهادة، إنَّما الخيمة المقدَّسة في صهيُّون لكي يحتمي بالمذبح. لماذا هرب إلى المذبح؟
+ ربَّما لأنَّه قد علم بأن سليمان قد عرف إنًَّه هو وأبياثار وراء فكرة طلب أبيشج زوجة لأدونيَّا.
+ لعلَّه سمع من رجال الدولة المحيطين بالملك بوصيَّة داود الملك لابنه سليمان، فأدرك أن الوقت قد حان لكي يصدر الحكم.
+ أدرك خطورة الموقف بعد قتل أدونيَّا وطرد أبياثار الكاهن إلى قريته.
+ ربَّما أراد أن يضع سليمان في موقف حرج، فإنًَّه إذ يصرّ على قتله يحسبه البعض إنًَّه قد دنَّس الهيكل بالدم.
+ لعلَّه شعر بالذنب وأدرك أنًَّه يستحق القتل، فلجأ إلى المذبح لكي يموت في بيت الرب، كمن يستظل تحت جناحيّ الله لكي يجد رحمة.
لم يذكر الكتاب أن يوآب أشار على أدونيَّا أن يأخذ أبيشج زوجة، لكن سليمان أصدر حكمه من أجل جريمتي الغدر والقتل للقائدين أبنير وعماسا.
ظنَّ يوآب أن جريمتيه قد نُسيتا مع الزمن وأن ثورة سليمان ضدُّه هي من أجل طلب أدونيَّا أبيشج زوجة له، لذلك التجأ إلى المذبح، واثقًا أنًَّه يدافع عن نفسه بأنَّه لم يُحرِّض أدونيَّا على ذلك. حسب ما ورد في (خر 21: 13-14) لا يحمي المذبح قاتلاً متعمِّدًا وبغدرٍ.
لقد نزع سليمان عن أبيه وبيته سفك الدم البريء، حتى ينزع عن الأرض الدنس كما قيل: "لا تدنِّسوا الأرض التي أنتم فيها، لأن الدم يُدنِّس الأرض؛ وعن الأرض لا يُكفِّر لأجل الدم الذي سُفك فيها إلاَّ بدم سافكه" (عد 35: 33)، "وإذا بغى إنسان على صاحبه ليقتله بغدرٍ فمن عند مذبحي تأخذه للموت" (خر 21: 14).
لم يرد بناياهو أن يتحمَّل مسئوليَّة قتل إنسان في موضع مقدَّس، فلجأ إلى الملك الذي أشار بتطبيق الشريعة: "لا تشفق عينك عليه، فتنزع دم البريء من إثمه فيكون لك خير" (تث 19: 13). ما كان يمكن لبيت داود أن يثبت ما لم يمارس نسله البرّ والعدل كأمر الرب.
لقد أمر سليمان بقتل يوآب ودفنه، فلا يترك جثمانه في عارٍ وخزيٍ، لأنَّه حارب مع والده. دُفن يوآب في بيته شرق بيت لحم في بريَّة اليهوديَّة. كان دفن الإنسان في أرضه أو بيته يحمل نوعًا من التكريم كما حدث مع صموئيل النبي (1 صم 25: 1) وغيره.
هكذا لم ينتقم سليمان لنفسه بل أمر بالقتل طاعة للوصيَّة ولأبيه. وتحقَّق بذلك القول: "أزل الشرِّير من قدام الملك فيثبت كرسيه بالعدل" (أم 25: 5).
9. معاقبة شمعي :
"ثم أرسل الملك ودعا شمعي،وقال له: ابنِ لنفسك بيتًا في أورشليم،
وأقم هناك، ولا تخرج من هناك إلى هنا أو هنالك.
فيوم تخرج وتعبر وادي قدرون أعلمن بأنَّك موتًا تموت،
ويكون دمك على رأسك.
فقال شمعي للملك: حسن الأمر كما تكلَّم سيِّدي الملك،
كذلك يصنع عبدك فأقام شمعي في أورشليم أيَّاما كثيرة" [36-38].
استدعى شمعي ربَّما من بحوريم Bahurim حيث كان منزله (2 صم 16: 5) وأُمر أن يبني لنفسه بيتًا في أورشليم يسكن فيه، ولا يُفارق المدينة تحت أي ظرف وإلاَّ تعرَّض للموت، وأقسم بالرب أنًَّه يطيع. عندما استدعى الملك سليمان شمعي من مدينته وقد عرف ما حلّ بأدونيَّا ويوآب وأبياثار ربَّما ظنَّ أنًَّه قد دُعي لكي يُقتل، خاصة إن كان قد سمع ما أوصى به داود ابنه سليمان. لكن سليمان عرف كيف يميِّز بين الجرائم، فما حكم به على يوآب القاتل غير ما حكم به على شمعي.
استدعاه وحكم عليه بتحديد إقامته لا في منزل بل في المدينة كلَّها، ليست أيَّة مدينة، بل أورشليم التي امتازت بجمال موقعها، مصدر فرح العالم كلُّه في ذلك الحين، المدينة الملوكيَّة، المدينة المقدَّسة. كأنَّه قد سمح له بتحديد إقامته في فردوس أرضي! لقد أراد أن يستبعده عن سبطه حتى لا يخطِّط شيئًا ضدّ المَلك. حقًا لقد أعطاه شيئًا من الحريَّة مع وضعه تحت عينيه، إذ يعلم مدى خطورته. لقد كان الحكم عادلاً يحمل اختبارًا لمدى طاعة شمعي له وأمانته في وعوده.
"وفي نهاية ثلاث سنين هرب عبدان لشمعي إلى أخيش بن معكة ملك جتّ،
فأخبروا شمعي قائلين: هوذا عبداك في جتّ.
فقام شمعي وشدّ على حماره، وذهب إلى جتّ إلى أخيش،
ليفتِّش على عبديه،
فانطلق شمعي وأتى بعبديه من جتّ.
فأُخبر سليمان بأن شمعي قد انطلق من أورشليم إلى جتّ ورجع.
فأرسل الملك ودعا شمعي وقال له:
أمَا استحلَفتك بالرب وأشهدْت عليك قائلاً أنَّك يوم تخرج وتذهب إلى هنا وهنالك اِعلمن بأنَّك موتًا تموت؟
فقلت لي حسن الأمر قد سمعت.
فلماذا لم تحفظ يمين الرب والوصيَّة التي أوصيتك بها؟
ثم قال الملك لشمعي: أنت عرفت كل الشرّ الذي عمله قلبك الذي فعلته لداود أبي فليرد الرب شرَّك على رأسك.
والملك سليمان يبارك وكرسي داود يكون ثابتًا أمام الرب إلى الأبد.
وأمر الملك بناياهو بن يهوياداع،
فخرج وبطش به، فمات وتثبَّت الملك بيد سليمان" [36-46].
عندما غادر المدينة ليُحضر عبديه الهاربين إلى جتّ حُسب شمعي كاسرًا للقسم بالرب، وأصدر سليمان حكمه بموته.
انتقد بعض الدارسين موقف سليمان، وحسبوه عنيفًا. لكن البعض يرى أن شمعي قد أخطأ، فإنًَّه وإن كان من حقُّه أن يستردّ عبديه، إلاَّ أنًَّه ما دام أقسم بالرب أن يُطيع كان يجب أن يُبلِّغ الملك بهروب عبديْه ويطلب ردّ العبدين إليه منتظرًا قرار الملك، وليس من حقِّه كسر القسم بالرب مهما تكن الظروف.
تحقَّق استقرار مملكة سليمان بالكامل بعد ثلاث سنوات [39].
بقوله "شدَّ على حماره" [40] يكشف إنًَّه خرج ليلاً دون أن يخبر أحدًا حتى من أهل بيته، إذ لم يُعد أحد عبيده الحمار. غالبًا ما خرج ليلاً وسط الظلام حتى لا يكتشف أحد أمره.
فتّش شمعي عن عبديْه وردَّهما إلى بيته، لكنَّه فقد حياته وكل ما يملك، لأنَّه خان العهد. هذا ما يفعله الكثيرون حين يكسرون الوصيَّة الإلهيَّة من أجل خيرات زمنيَّة هي عبيد لخدمتنا، فنفقد حياتنا الأبديَّة وتهلك نفوسنا!
كانت حيثيَّات الحكم الذي نطق به الملك سليمان هي أن شمعي يعرف الشرّ الكامن في قلبه منذ أيَّام والده داود حين سبّ مسيح الرب وقذفه بالحجارة. هو لعن مسيح الرب، فارتدَّت اللعنة عليه، أمَّا داود ونسله فينالون البركة، ويثبت كرسي داود أمام الرب لا الناس.
من وحي 1 ملوك 2
لتثبت مملكتك في أعماقي!+ داود قدَّم وصيَّته الوداعيَّة لابنه سليمان.
وها أنت يا ابن داود تهبني وصيَّتك الوداعيَّة،
لا لتحبس حرِّيتي، بل لتثبت مملكتك في أعماقي،
وتقيم منِّي ملكًا اتَّحد بك يا ملك الملوك!
+ إذ كان داود سالكًا في طريق الأرض كلَّها،
سند ابنه قائلاً: تشدَّد وكن رجلاً!
أراك يا ابن داود سالكًا في طريق فريد،
من أجلي تجتاز المعصرة وحدك،
تصرخ: تشدَّد وكن لي ابنًا ورفيقًا!
من يهبني القوَّة والنضوج إلاَّ روحك القدُّوس؟!
هب لي روحك الذي يُقيم من الموت،
يبعث فيّ روح القوَّة والنصرة والحياة!
+ بك أتشدَّد واحفظ وصيَّتك.
بك تتحطَّم كل قوى الشرّ!
ليدوي صوت وصيَّة أبي داود في أذنيّ:
تشدَّد وكن رجلاً.
احفظ شعائر الرب لكي تفلح في كل ما تفعل.
+ روحك يقودني في طريق الوصيَّة،
فأحفظ فرائضك لكي أحيا بطقس السماء.
وأنحني أمام أحكامك فأُدرك أسرار خطّتك.
وأفرح بشهاداتك، شاهدًا بعملك الفائق معي.
+ ليُقتل يوآب سافك الدماء؛
فلا يحل الدنس بأرض قلبي.
لتَقتل كل عنفٍ قائمٍ في أعماقي.
فلا أحمل سمات إبليس الغادر،
بل سماتك يا أيُّها الحب الحقيقي!
ليقتل كل فكر غدر فيّ، كما قتل سليمان يوآب.
فإنَّه قائد غادر سافك دماء بريئة.
ليته لا يجد الغدر له موضعًا في أعماقي،
ولا يحتل عجلة قيادة إرادتي!
+ لأردّ لبني برزلاي معروفهم معي.
فلا أكون مدينًا لأحد بشيء،
إلاَّ بالحب واللطف المستمر!
علّمني ألاَّ استغل محبَّة اخوتي،
ولا أطلب خدماتهم في أنانيَّة.
بل اشتهي العطاء أكثر من الأخذ.
+ لتهلك شمعي لاعِن مسيح الرب.
فلا أجري معه وراء العبيد فأفقد عهدي معك.
لا أجري وراء العالم الذي خلقته لخدمتي،
وأخسر نفسي التي خلقتها تُشارك مجدك أبديًّا!
بروحك تحجم طاقات شمعي مثير الفتنة ومهدِّد السلام.
من يقدر أن يحبس طاقات الفساد ويهلكها سواك؟
+ ليُطرد أبياثار الكاهن الشكلي في عبادته،
وليَقُم صادوق الكاهن الروحي!
لتَنزع عنِّي كل شكليَّة فأحيا بالروح!
لأطرد كل فكر غريب، حتى إن بدا مقدَّسًا.
لأطرده مع أبياثار الكاهن من أورشليم إلى عناثوت.
فلا يحتل الفكر مكانًا في مذبحك داخلي.
+ هوذا أدونيَّا يتحرَّك ليغتصب مملكتي!
يطلب أبيشج زوجة ليسحب منِّي عرشي!
هب لي بروح الحكمة أن احتفظ بالحكمة عروسًا لي!
هب لي بروح الحزم أن أُحطِّم إبليس المخادع!
ليتحطَّم إبليس وليقم عرشك فيَّ!
+ هب لي ألاَّ أنخدع بحيل أدونيَّا مغتصب الحكم.
فإن عدوّ الخير ينطق بكلمات معسولة، لكنَّها قاتلة.
هب لي حكمة فلا يسحب العدوّ عرشك من قلبي.
لا يحرمني من مملكتي، ويهلك نفسي!
+ بروحك يا رب أتشدَّد ولا أخف.
هو حافظي من أدونيَّا وأبياثار ويوآب وشمعي.
حافظي من الأفكار التي تودّ أن تخدعني بصورتها المعسولة.
لتنزع عنِّي كل خداع ومكرٍ!
أنت محطِّم كل قوى الشرّ.
أنت واهب السلام لمملكتك في داخلي.
المراجع
[1] On Ps. hom. 56.
[2] On Ps. 33 (32).
[3] Eichhorn: Moumen. Antiq. Hist. Arab., p. 220.
[4] Keil, p. 32.
[5] Herodot 3:68.