تفسير الاصحاح الحادى عشر من سفر القضاة للقس انطونيوس فكرى
إقامة يفتاح قاضيًا
الآيات (1–3): "وكان يفتاح الجلعادي جبار باس وهو ابن امرأة زانية وجلعاد ولد يفتاح. ثم ولدت امرأة جلعاد له بنين فلما كبر بنو المرأة طردوا يفتاح وقالوا له لا ترث في بيت أبينا لأنك أنت ابن امرأة أخرى.فهرب يفتاح من وجه اخوته وأقام في ارض طوب فاجتمع إلى يفتاح رجال بطالون وكانوا يخرجون معه."
كلمة يفتاح = الذى يفتح. إبناً لإمراة زانية = الكلمة كما سبق وقلنا مع راحاب قد تعنى صاحبة فندق، وهى عموماً كنعانية غريبة عن شعب الرب وليست إسرائيلية. وكونه أبن زنا فهذا لا يعيبه فالأبن لا يطالب بخطية أبيه فالنفس التى تخطئ هى تموت (حز 18 : 4).
لذلك فبولس الرسول يحسب يفتاح فى عداد الأبرار (عب 11 : 32). ولكن اجتماعياً فأبن الزنا يعامل معاملة سيئة ولذلك حرمته الشريعة من دخول جماعة، أى من العضوية فى المجمع حتى لا يُعيَّر بكونه أبن زنا لكن كان هذا لا يحرمه من قيادة الجيش والقضاء ولا التمتع بالميراث الأبدى. ولقد طرده أخوته فخسروه بلا ذنب إرتكبه هو.
ونتيجة معاملة المجتمع السيئة لهُ ألتصق بالأشرار وصار زعيماً لهم وربما فى السلب والنهب. وكان جبار بأس. ونلاحظ ان الله لهُ طرق متعددة فى دعوة رجاله وإعدادهم. فهنا لم يظهر ملاك ليفتاح كما ظهر لجدعون ولوالدى شمشون. ولكن الله إستعمل الطريق الطبيعى فالشعب جلس يفكر فى قائد والله أرشده ليفتاح كقائد مناسب. وكان الله قد سمح بكل هذه الظروف التى أحاطت بحياته كأعداد لهُ.
فالله استفاد من كونه جبار بأس طريد عنيف ليقود الجيش الخائر فيحسن قيادته. وككل قاضٍ فهو له رموز للمسيح :
1. إسمه "الذى يفتح" والمسيح هو الذى يفتح ولا أحد يغلق (رؤ 3 : 7).
2. يفتاح كان مطروداً ومرفوضاً من إخوته وهكذا المسيح الذى لم يجد مكاناً يولد فيه وليس لهُ أى يسند رأسه.
3. ويفتاح المطرود قبل أن يخلص من طردوه والمسيح فتح قلبه وبالحب على الصليب ليضم الجميع. وفتح لنا باب الفردوس.
وقد دُعى يفتاج الجلعادى من جانبين :
1. نشأ فى جلعاد.
2. أبيه يدعى جلعاد.
الآيات (4-11): "وكان بعد أيام أن بني عمون حاربوا إسرائيل. ولما حارب بنو عمون إسرائيل ذهب شيوخ جلعاد ليأتوا بيفتاح من ارض طوب.
وقالوا ليفتاح تعال وكن لنا قائدا فنحارب بني عمون.فقال يفتاح لشيوخ جلعاد أما أبغضتموني انتم وطردتموني من بيت أبى فلماذا أتيتم إلى الآن إذ تضايقتم. فقال شيوخ جلعاد ليفتاح لذلك قد رجعنا الآن إليك لتذهب معنا وتحارب بني عمون وتكون لنا رأسا لكل سكان جلعاد.
فقال يفتاح لشيوخ جلعاد إذا أرجعتموني لمحاربة بني عمون ودفعهم الرب أمامي فأنا أكون لكم رأسا. فقال شيوخ جلعاد ليفتاح الرب يكون سامعا بيننا أن كنا لا نفعل هكذا حسب كلامك. فذهب يفتاح مع شيوخ جلعاد وجعله الشعب عليهم رأسا وقائدا فتكلم يفتاح بجميع كلامه أمام الرب في المصفاة."
حيت طُرِد يفتاح من جلعاد استند إخوته على حكم من شيوخ جلعاد. والآن جاء الشيوخ أنفسهم يسألونه أن يكون قائداً. فهو معروف بقوته وجبروته وأنه جبار بأس ومشهور بجرأته كزعيم عصابة. وقالوا له كُن لنا قائداً = كلمة قائد التى استخدمها الشيوخ تعنى فى الحرب فقط ويفتاح لم يقبل أن يكون قائداً فى الحرب فقط بل طلب أن يكون لهم رأساً أى قائد فى الحرب وفى السلم.
ونجده يعاتب الشيوخ على قرارهم السابق بطرده = أما أبغضتمونى. وهم أعلنوا أسفهم على ذلك بقولهم لذلك قد رجعنا الأن إليك. وقد قبل الشيوخ أن يكون لهم رأساً فدخل يفتاح فى علاقة مع الرب فى المصفاة (آية 11) وكأنه تسلم العمل من يدى الرب وليس من أيدى الشيوخ = فتكلم يفتاح بجميع كلامه أمام الرب.
وطالما أرسله الرب فهو ملأه بالروح ونجده قد تغير بعد ذلك تماماً وصارت لهُ حكمة ومواقف إيمان.
آية (12): "فأرسل يفتاح رسلا إلى ملك بني عمون يقول ما لي ولك انك أتيت إلى للمحاربة في ارضي."
ظهرت حكمة يفتاح فى أنه بدأ عمله بروح الحكمة والحوار وطلب السلم وليس بالحرب. وأرسل رسالة عتاب لملك بنى عمون أن لا يحاربه فى أرضه.
آية (13): "فقال ملك بني عمون لرسل يفتاح لان إسرائيل قد اخذ ارضي عند صعوده من مصر من ارنون إلى اليبوق وإلى الأردن فالان ردها بسلام."
إدّعى ملك بنى عمون أن إسرائيل فى صعوده من مصر أخذ أرض بنى عمون وحقيقة الأمر أن الله منع إسرائيل من التعدى على أرض موآب وأرض بنى عمون.
فكلام ملك بنى عمون (تث 2 : 9،19). ولكن الأرض موضع خلافهم كانت فى الأصل لبنى عمون وقد أستولى عليها الأموريون (عد 21 : 26). وبنى إسرائيل أخذوا الأرض من الأموريون وليس من بنى عمون.
الآيات (14-27): "وعاد أيضا يفتاح وأرسل رسلا إلى ملك بني عمون. وقال له هكذا يقول يفتاح لم يأخذ إسرائيل ارض مواب ولا ارض بني عمون. لأنه عند صعود إسرائيل من مصر سار في القفر إلى بحر سوف وأتى إلى قادش.و أرسل إسرائيل رسلا إلى ملك أدوم قائلا دعني اعبر في أرضك فلم يسمع ملك أدوم فأرسل أيضا إلى ملك مواب فلم يرض فأقام إسرائيل في قادش.
وسار في القفر ودار بأرض أدوم وارض مواب وأتى من مشرق الشمس إلى ارض مواب ونزل في عبر ارنون ولم يأتوا إلى تخم مواب لان ارنون تخم مواب. ثم أرسل إسرائيل رسلا إلى سيحون ملك الاموريين ملك حشبون وقال له إسرائيل دعني اعبر في أرضك إلى مكاني.
ولم يأمن سيحون لإسرائيل أن يعبر في تخمه بل جمع سيحون كل شعبه ونزلوا في ياهص وحاربوا إسرائيل. فدفع الرب اله إسرائيل سيحون وكل شعبه ليد إسرائيل فضربوهم وامتلك إسرائيل كل ارض الاموريين سكان تلك الأرض.
فامتلكوا كل تخم الاموريين من ارنون إلى اليبوق ومن القفر إلى الأردن. والآن الرب اله إسرائيل قد طرد الاموريين من أمام شعبه إسرائيل افانت تمتلكه. أليس ما يملكك إياه كموش إلهك تمتلك وجميع الذين طردهم الرب إلهنا من أمامنا فإياهم نمتلك.
والآن فهل أنت خير من بالاق بن صفور ملك مواب فهل خاصم إسرائيل او حاربهم محاربة. حين أقام إسرائيل في حشبون وقراها وعروعير وقراها وكل المدن التي على جانب ارنون ثلاث مئة سنة فلماذا لم تستردها في تلك المدة. فأنا لم أخطئ إليك وأما أنت فانك تفعل بي شرا بمحاربتي ليقض الرب القاضي اليوم بين بني إسرائيل وبني عمون."
كانت حجج يفتاح فى الرد على ملك بنى عمون:
1. ان الأرض التى أستولى عليها إسرائيل هى أرض سيحون وعوج اللذين منعوا إسرائيل من المرور فى أرضهما بل خرجا لمحاربة إسرائيل وهزمهما إسرائيل وأخذوا أرضهما فمطالبة بنى عمون الأن بالأرض هى بدون وجه حق.
2. لقد إستولى إسرائيل على الأرض منذ حوالى 300 عام فصارت الأرض ملكاً لهم بوضع اليد (آية 26) يفتاح يتكلم غالباً وهو فى القرن الثالث بعد دخول أرض الميعاد ولكنه يقول 300 عام كرقم شامل.
3. ما ناله إسرائيل ليس من يد بنى عمون ولكن من يد الرب عطية إلهية (آية 23) وكأن موضوع الحوار ليس الأرض وإنما مملكة الله فالأرض أعطاها لهم الله فهل يرفضوها، بل كان تراخى فى إمتلاكها يحسب إهانة لله وبنفس الفكر (1كو 6 : 15).
4. أستشهد يفتاح بأن موآب لم تطالب بالأرض كما يفعل بنى عمون الأن (آية 25).
آية (28): "فلم يسمع ملك بني عمون لكلام يفتاح الذي أرسل إليه."
رفض ملك بنى عمون السِلمْ وعرض يفتاح فهو تعود لمدة 18 سنة أن يستغل إسرائيل وهم صامتين والأن يريد أن يلتهمها كلها.
آية (29): "فكان روح الرب على يفتاح فعبر جلعاد ومنسى وعبر مصفاة جلعاد ومن مصفاة جلعاد عبر إلى بني عمون."
كان الروح على يفتاح ليتنبأ بل ليعطيه موهبة قيادة الجيش فالله يعده للعمل الذى أرسله إليه.
الآيات (30-31): "ونذر يفتاح نذرا للرب قائلا أن دفعت بني عمون ليدي. فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عمون يكون للرب واصعده محرقة."
بتأثير الجو الكنعانى الوثنى والأم الكنعانية أعتقد يفتاح أنه يرضى الله بالذبائح البشرية. وهو نذر ليس فيه شئ من الحكمة والله لا يوافق عليه. ولكن الله صمت ولم يمنع تقديم الإبنة كنذر:
1. ليلقن كل المؤمنين درساً قاسياً أن هذا النذر بهذا الأسلوب أى تقديم نفوس بشرية كذبائح هو شئ مرفوض.
2. حتى يتعلم يفتاح الدرس بصفة شخصية سمح الله لإبنته العذراء أن تخرج هى للقائه فصارت القصة مريرة ولكن هل لو قابلته أى عذراء أخرى كان سيشعر بنفس المرارة ؟ هو لن يشعر لكن أهلها سيشعرون إذن هو درس لهُ.
عموماً فالنذر ليس ثمناً فالله يعطيه من محبته مجاناً بدون ثمن ويعطى بسخاء ولا يُعيِّر. ولكن النذر هو تعبير عن شكر. ولكن هذا النذر غير المقبول كان نذراً قاسياً وكان تحقيقه أكثر مرارة. ولا توجد مقارنة بين هذه القصة وتقديم إسحق محرقة.
فالله الذى طلبه ليشرح قصة فداء المسيح لذلك لم يترك إبراهيم يذبحه. ولكن يُحسب ليفتاح ولأبنته إنهما قبلا تنفيذ النذر ولم يتراجعا. فهما بجهل من كليهما أشتاق أن يقدما أغلى ما عندهما لله فقدما شئ لا يوافق الله عليه لكن ما فعلاه كان يعبر عن حب شديد وإخلاص شديد لله.
الآيات (32-40): "ثم عبر يفتاح الى بني عمون لمحاربتهم فدفعهم الرب ليده. فضربهم من عروعير الى مجيئك الى منيت عشرين مدينة و الى ابل الكروم ضربة عظيمة جدا فذل بني عمون امام بني اسرائيل. ثم اتى يفتاح الى المصفاة الى بيته و اذا بابنته خارجة للقائه بدفوف و رقص و هي وحيدة لم يكن له ابن و لا ابنة غيرها.
و كان لما راها انه مزق ثيابه و قال اه يا بنتي قد احزنتني حزنا و صرت بين مكدري لاني قد فتحت فمي الى الرب و لا يمكنني الرجوع.
فقالت له يا ابي هل فتحت فاك الى الرب فافعل بي كما خرج من فيك بما ان الرب قد انتقم لك من اعدائك بني عمون. ثم قالت لابيها فليفعل لي هذا الامر اتركني شهرين فاذهب و انزل على الجبال و ابكي عذراويتي انا و صاحباتي.
فقال اذهبي و ارسلها الى شهرين فذهبت هي و صاحباتها و بكت عذراويتها على الجبال. و كان عند نهاية الشهرين انها رجعت الى ابيها ففعل بها نذره الذي نذر و هي لم تعرف رجلا فصارت عادة في اسرائيل. ان بنات اسرائيل يذهبن من سنة الى سنة لينحن على بنت يفتاح الجلعادي اربعة ايام في السنة."
+