+ تعود معرفتي بنيافة الأنبا باخوميوس إلى بداية السبعينيّات من القرن الماضي، وبالتحديد عندما انتقل أبي للعمل -كمهندس لمحطّات الطلمبات بوزارة الريّ مصلحة الميكانيكا والكهرباء- بمركز المحموديّة في أواخر عام 1972م.

+ مركز المحموديّة يبعد حوالي 18 كيلومترًا شمال شرق مدينة دمنهور، وكانت تلك المنطقة فقط (بين دمنهور والمحموديّة) قبل خمسة قرون إيبارشيّة كبيرة مملوءة بالمسيحيّين،
تُسَمّى بمنطقة "مِيصيل"، قبل الإبادة التي حدثت للمسيحيّين في القرون من السادس عشر إلى الثامن عشر. أمّا حين ذهبتُ هناك، فكانت الكنائس الموجودة في كلّ إيبارشيّة
البحيرة لا تتجاوز العشرين كنيسة، منها كنيسة السيّدة العذراء الأثريّة بالمحموديّة، بينما كان في مدينة دمنهور كنيستان فقط.. وكان عدد الأسر المسيحيّة في المحموديّة حوالي ستّين أسرة.
+ ما أعرفه وشاهدته ولمسته بنفسي عن نيافة الأنبا باخوميوس على مدى أكثر من خمسين سنة، لا تكفيه كتب كثيرة لتسجيله، لكنّي سأكتفي فقط في هذا المقال بذكريات بسيطة معه، كلّها كانت في بكور حبريّته المباركة، قبل عام 1980م.
+ كانت خدمة الكنيسة بالمحموديّة مقتصرة على إقامة القدّاس الإلهي أيام الأحد والجمعة؛ ولم يكُن يوجد في الكنيسة خادم واحد لمدارس الأحد، لذلك كان نيافة الأنبا باخوميوس يُرسِل اثنين من أبنائه الخُدّام من
كنيسة الملاك ميخائيل بدمنهور في صباح كلّ يوم جمعة، يحضران معنا القدّاس الإلهي، ويقومان بخدمة مدارس الأحد لنا، فكانت بركة كبيرة لنا. وكان عددنا في ذلك الوقت لا يزيد عن عشرين، كأولاد وبنات مرحلة ابتدائي وإعدادي!
+ كان الأنبا باخوميوس يزور كنيستنا ويصلّي معنا القدّاس ويعظ على الأقل ثلاث مرّات في السنة؛ وفي تلك المرّات، لم يكُن الخُدّام يَحضِرون، إذ كان سيّدنا هو الذي يقوم
بخدمة مدارس الأحد لنا.. فقد كُنّا نجتمع حوله بعد القدّاس في فناء الكنيسة، ونرتّل بعض ما نحفظه من ترانيم، ويسألنا أسئلة، ويحكي لنا قصّة من الكتاب المقدّس، ويوزّع
علينا صلبان صغيرة كهدايا، ولا أنسى أنّه كان يتباسط معنا ويداعبنا كثيرًا.. فقد كان خلف منظره الذي يبدو مهوبًا بلحيته الكثيفة، شخصيّة طيّبة جدًّا تتمتّع بروح الفكاهة!
+ أثناء زيارته في إحدى المرّات، وكنت أجلس بجواره، أشار أحد الأشخاص إليّ، وقال لسيّدنا: إنّ "فلان" يحفظ لحن "قبّلوا بعضكم بعضًا الكبير أسباذيستيه"، فما كان من سيّدنا إلاّ أنّه التفت وقال لي: ممكن تقولها لنا؟ فقلتها كاملةً، وقد استغرقت حوالي ستّ دقائق، وهو منصت. وفي النهاية شجّعني بفرح وقال لي: لك عندي هديّة كبيرة. وبالفعل أرسل لي هديّة قيّمة.
+ في عام 1975م، كنت ذاهبًا معه في سيّارته الميكروباص الفولكس إلى "المزرعة"، التي هي حاليًا "كرمة دمنهور" وصار بها كنيسة مارمرقس. فسألني: هل أنت تخدم؟ فتعجّبت، لأنّي كنت لا أزال ولدًا صغيرًا في مرحلة إعدادي، وأخذ يشجّعني على الخدمة!
+ كان الأنبا باخوميوس ينتهز فرصة يوم عُطلة 23 يوليو من كلّ عام، ليُقيم يومًا روحيًّا لخُدّام الإيبارشيّة، وذلك بكنيسة رئيس الملائكة الجليل ميخائيل بدمنهور. كان اليوم يبدأ بالقدّاس الإلهي، ويتبعه إفطار ثمّ كلمات روحيّة
وترانيم وأسئلة طوال اليوم. وأتذكّر أنّه دعا نيافة الأنبا بنيامين (بعد سيامته مباشرة) عام 1976م، ونيافة الأنبا رويس (بعد سيامته مباشرة أيضًا) عام 1977م، ونيافة الأنبا يوأنّس.. كما كان يدعو أيضًا آباء كهنة للحديث في هذه الأيّام
الروحيّة مثل القمّص إشعياء ميخائيل، والقمّص بيشوي وديع، والأرشيدياكون رمسيس نجيب.. وأتذكّر أنّه كان يعلّمنا بنفسه بعض الترانيم الجديدة بصوته الجميل، مثل "بك ومنك أمتلي، يا روح قدس الله العلي" و"فوق المذبح صينيّة"..
+ كان نيافة الأنبا باخوميوس يهتمّ بتنشيط الخدمة في كنيستنا "العذراء بالمحموديّة"، فهي أهمّ وأقدم كنيسة للسيّدة العذراء بالإيبارشيّة، فكان يحضر معنا عشيّة عيد العذراء في
أغسطس من كلّ عام، ويسهر معنا في الصلاة؛ وكان يحضر معه مجموعة كبيرة من الشمامسة المتميّزين من مدينة دمنهور، صار بعضهم كهنة. والصورة المرفقة في عشيّة عيد العذراء (أغسطس 1977م) أثناء
عمل التمجيد، وكنتُ أمسك له الميكروفون. هذا غير أنّه كان يُرسِل باستمرار بعض الخدّام للوعظ في القدّاسات، بالإضافة إلى خدّام مدارس الأحد، الذين كان يرسلهم اثنين اثنين (كما فعل
ربّنا يسوع في إرساليّة تلاميذه)، وكان أحد أبرز الخُدّام الذين تناوبوا على خدمتنا، وتركوا أثرنا فينا هو الدكتور وجيه صبحي، الذي صار فيما بعد قداسة البابا تواضروس الثاني، حفظ الربّ حياته.
+ في أوائل صيف 1978م، كنت أودّ أن أذهب في خلوة لأحد الأديرة، فذهبتُ لمقابلته في دمنهور لآخُذ منه تصريحًا للخلوة، فرحّب بي جدًّا، ثمّ قال لي: "إنّ الطريق للأديرة لا يوجَد له مواصلات سهلة، فالأفضل
أنّي عندما أكون ذاهبًا آخُذك معي في سيارتي"، فشكرته جدًّا.. ولكن لأنّي كنت أقضي جزءًا كبيرًا من الصيف في الإسكندريّة، فحدث عندما كان مسافرًا للدير أنّه اتّصل بوالدي في عمله لكي يبلّغني
بالحضور، ولكنّي لم أكُن موجودًا وقتها في المحموديّة. وحدث بعد ذلك عندما حضر لزيارة الكنيسة في صوم السيّدة العذراء طلبت منه التصريح مُجَدَّدًا، فأجاب طلبي بكلّ بشاشة واهتمام، وكتب لي تصريحًا في
التوّ، وبالفعل ذهبت لأوّل مرّة في حياتي إلى خلوة بدير البرموس، في أواخر أغسطس 1978م، ولم أكُن قد تجاوزت السادسة عشرة من عمري. وبالطبع كانت هناك مشقّة كبيرة في السفر للدير، بالمقارنة مع حالة ذهابي معه بسيّارته!
+ في عظاته كان فم الأنبا باخوميوس دائمًا يَقطُرُ شهدًا، مثل عروس النشيد (نش4: 11).. فلا أنسى أبدًا أنّه في إحدى المرّات زارنا في الكنيسة بالمحموديّة يوم الجمعة من الأسبوع الرابع
للصوم المقدّس، وكان موضوع إنجيل القدّاس (كما هو معروف) عن المرأة الكنعانيّة.. وأنا كنت قد استمعتُ قبل ذلك إلى عظة جميلة جدًّا عن المرأة الكنعانيّة للقمّص متّى المسكين، وكنت
أنتظر وأتمنّى أن يقول نيافة الأنبا باخوميوس كلامًا حلوًا مُشابِهًا في عظته.. ولكنّني دُهِشتُ أنّه تكلّم في عظته عن المرأة الكنعانيّة بطريقة أخرى، تفوق الوصف في جمالها،
وبأسلوب بسيط وجذّاب، مع تأمّلات غاية في الرقّة والروعة من زوايا متعدّدة، ملأت قلبي بالفرح الغامر.. ووقتها أدركت أنّ الروح القدس غني، ويوزّع المواهب بشكل متنوّع على الخدّام الأمناء!
+ من الأمور الرائعة التي لاحظتها أيضًا في بدايات حبريّة نيافة الأنبا باخوميوس، تحلّيه بالتعامل الأبوي الحكيم والصبور مع الكهنة القُدامى؛ وأيضًا موهبته الجميلة في تشجيع الكلّ على الخدمة، وانتقاء بعض المميّزين وتلمذتهم، ثمّ دعوتهم للتكريس الكهنوتي، لكي يملأ بهم الحقول المتّسعة!
+ بالطبع لا يمكنني في هذه العُجالة إلاّ القول أنّ إيبارشيّة البحيرة قد تنعّمَت زمانًا وافرًا بخدمة هذا المطران الجليل. وهذه الذكريات البسيطة التي انتقيتها هي بمثابة قطرات من لُجّة عظيمة، تَشهَد عن عمل الله في خادمه المبارك الغيور، الذي كان "إناءً للكرامة، مقدّسًا نافِعًا للسيّد، مستعدًّا لكلّ عمل صالح" (2تي2: 21).
الربّ قادر أن ينيّح روحه الطاهرة في فردوس النعيم، ويكافئه نظير محبّته وأتعابه وأمانته بالمجد الذي لا يفنى.
القمص يوحنا نصيف