مَن لم يحظَ بصداقة أو معرفة أو حتى لقاء شخص كردىّ، فقد خسر الكثير. الكُرد من أرقى وأجمل وأصفى البشر، وأكثرهم ثقافةً ورهافةً، وأشدّهم استبسالًا فى الدفاع عن الهُوية والحرية والكرامة.

وأشكرُ اللهَ أن مَنَّ علىَّ بأصدقاءٍ كرد؛ صادقتُهم بعدما صادفتُهم فى مهرجاناتٍ أدبية وشعرية ومؤتمراتٍ فكرية عديدة، سواءً فى مختلف بلاد العالم، أو فى: دَهوك، السليمانية، وأربيل عاصمة
إقليم كردستان العراقية، أحد مواطنهم الأصلية. أقولُها بمرارة: أوطانهم، وليس وطنهم!!، فمن عجائب الأقدار أن الوطنَ أعزُّ كنزٍ لدى الإنسان، لكن ذاك الكنز إذا تعدَّد وصار أوطانًا، كانت
الفاجعة!. ليس كلُّ كنزٍ يُعدَّدُ، فبعضُ الكنوز قيمتُها فى فرادتها. الابنُ أغلى النِعَم، فإن تعدّدَ الأبناءُ باعتدال تعددتِ النِعمُ، لكنّ الأمَّ واحدةٌ، والأبَ واحدٌ؛ لا تعُّدد فيهما. كذلك الوطن.
فما بالك بشعب عظيم مُشتّتٌ بين أربعة أوطان، فى العراق، سوريا، تركيا، وإيران، يطمحون إلى وارفةِ وطنٍ واحدٍ وأرضٍ واحدة!. ذاقوا ما ذاقوا من ويلاتٍ وإباداتٍ جماعية وسَبْى نساءٍ وطغيان، لكنهم
أبدًا لم ينكسروا ولم يهِنوا، ولم تنجح مراراتُ الظلم أن تُبدِّل نفوسهم الطيبة أو تُعتِم أرواحَهم الشفافة، وأخفقت يدُ الطغيان السوداءُ فى إجبارهم على التخلّى عن هويتهم ولُغتهم وأصالتهم، بل
زادهم الظُلمُ قوّةً وبأسًا حتى سجّل لهم التاريخُ شرف انتصاراتهم على داعش السوداء فى معاركَ استثنائية باسلة فى كوبانى، سنجار، الرقّة، والباغوز، نجحوا فى تحريرها من قبضة داعش الدموية، مثلما
أسهمت البيشمركة الكردية الباسلة مع القوات العراقية والحشد الشعبى العراقى فى تحرير الموصل. نساءُ الكرد، اللواتى يمتزن بالجمال الفائق، لم يركنَّ إلى خبيئات الخدور ويتركن المعارك للرجال، بل
كوّنَّ عام 2013 قوةً عسكرية نسائية فى شمال سوريا لمجابهة داعش، أطلقن عليها اسم YPJ وتعنى بالكردية وحدات حماية المرأة، شكّلت صدمةً إيديولوجية هائلة لتنظيم داعش الذى استهان بالمرأة ولم يرَها إلا
طرائدَ وفرائس للقنص والسَّبى والاسترقاق، وكان لهذا الجيش النسائى العظيم دورٌ مشهود فى دحر داعش، فبرغم الشتات بين الأوطان وتباين الرؤى السياسية بين الأحزاب الكردية، توحدت القواتُ الكردية فى
القتال ضد عدو مشترك، ما عزّز بسالتهم فى الميدان وحقق انتصارهم التاريخى على تنظيم الشر. واجه الأكرادُ داعش بجسارة، مدركين أن المعركة ليست مجرد حرب عسكرية، بل صراعٌ من أجل البقاء والهوية والكرامة والحرية.
ليس ثمة جُرحٌ أشدُّ نزفًا من وطنٍ يسكن القلبَ بينما أقدامُ أبنائه معلّقةٌ فى التيهِ. هكذا هم الكُردُ، أبناءُ الجبالِ الشاهقة، وأحفادُ الثوراتِ التى لم تعرفْ للنهاياتِ طريقًا. شعبٌ كُتبَ عليه أن يكونَ طائرًا حُرًّا بجناحٍ مكسور، يحملُ ذاكرةَ الفقدِ والمنفى، ويبحثُ فى جغرافيا العالمِ عن اسمِه المُغَيَّب قسرًا.
لا أنسى وقوفى أمام مقابر الإبادة الجماعية فى مدينتَىْ السليمانية وحلبجة فى إقليم كردستان، حيث أُذيبت أجسادُ المدنيين الكُرد بالكيماوى الحارق فى حملة الأنفال البغيضة، التى تُعدُّ واحدةً من أبشع
وأشنع فصول الإبادة الجماعية فى التاريخ، ولا يزال تأثيرها محفورًا حتى اليوم فى ذاكرة الشعب الكردى العظيم، وفى ذاكرة جميع شرفاء هذا العالم المرزوء بالظلم والويلات، فطوبى للرحماء لأنهم يرحَمون،
والويلُ كلُّ الويل للطغاة الظالمين، فلم يُحرِّمُ اللهُ تعالى شيئًا على جلال نفسه إلا الظلم، حين قال فى الحديث القدسى: يا عِبادى، إنّى حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسى، وجعلتُه بينكم مُحرَّمًا، فلا تظالموا.
والحقُّ أننى لو تكلمتُ عن مدى احترامى وحبى للعِرق الكردى، لن تكفينى مياه البحر مِدادًا، ولا أوراق الدنيا صِحافًا. ولأننى أستسلمُ لقلمى وأخضع له، فقد سار هذا المقال على عكس ما كان له أن
يسير!، فقد انتويتُ كتابته لأهنئ أصدقائى الكُرد برأس السنة الكردية الجديدة رقم 2633 التى بدأت أمس الأول 21 مارس مع عيد النوروز الكردى. وكلمة نه وروز تعنى بالكردية: اليوم الجديد؛ فيُعدُّ
العيدُ رمزًا لانتصار النور على الظلام، والإشراق على العتمة، والحقّ على الباطل. بدعوة كريمة من الدكتور ياسين رؤوف السياسى الكردى البارز ورئيس مكتب الاتحاد الوطنى الكردستانى فى
القاهرة، احتفلنا بعيدهم فى حديقة الجريون. وعبر مقالى هذا أرسلُ ببطاقات تهنئة لجميع أصدقائى الشعراء والأدباء الكُرد فى العالم: د. خالدة خليل، حسن سليفانى، ديارى فريدون، عبدالكريم
الزيبارى، دلشاد عبدالله، آلان عبدالله، أزاد دارتاش، عبدالله طاهر البرزنجى، جنار نامق، عبدالكريم الكيلانى، دلشاد كويستانى، ليان الجبارى، وغيرهم المئات ممن يسكنون قلبى، مثلما تسكن كتبُهم مكتبتى.
سينتصرُ الخيرُ على الشر، والجمالُ على القبح، وسوف تنجو الحياةُ من الموت. ويبقى العِرقُ الكردى المثقف الذى تعرض طوال تاريخه إلى صنوف العذابات والإبادة الجماعية والإذابة بالكيماوى. ستنجو كردستان بشعبها المثقف الذى احتضن بين ربوعه جميع الأعراق، وتحابَّ وتسامح مع جميع العقائد. هابى نوروز.