تحدثنا فى المقالة السابقة عن عيد الغطاس، والنبى السابق للسيد المسيح، الصابغ بماء المعمودية لتوبة الشعب، القديس يوحنا المَعمَدان، الذى عاش فى البرية منذ طفولته الأولى حتى ظهوره ومناداته بالتوبة والعودة إلى الله. وكما ذُكر، فإن هيرودس الملك أمر بسَجن هذا القديس بعد أن عارضه فى أمر زواجه بـهيروديا امرأة أخيه؛ ثم قطع رأسه؛ فصار شهيد الحق.
ومع أن خدمة يوحنا المَعمَدان لم تستمر سوى ستة أشهر، فإنها قد تمكنت بتأثيرها النارى من جذب القلوب وردها إلى الله. ولقد عاش هذا الخادم النارى مكرَّسا لله عازفًا عن الزواج بتولاً. وحين عرَفت مِصر المسيحيةَ
ونشأت على أرضها، نبعت منها أصول حياة الرهبنة التى عرفها العالم كله، وامتدت جذورها فى أرض وادى النيل من الكنيسة القبطية التى أسسها القديس مار مرقس الرسول على أرض الكنانة. كانت الرهبنة هدية الكنيسة
القبطية إلى مصر بل العالم بأسره، فالأديرة المسيحية كافة على تنوعها الجغرافى، نجد جذورها ممتدة- بطريقة مباشرة أو غير مباشرة- من الرهبنة المصرية. لقد زار القديس باسيليوس، منظم الحركة الرهبانية فى آسيا
الصغرى، مِصر سنة 357م، كما زارها القديس چيروم، مترجم الكتاب المقدس إلى اللاتينية، سنة 400م، وترك تفاصيل خبراته بها فى رسائله. وقال بنيديكت، مؤسس أديرة الغرب فى القرن السادس على مثال ما فعله القديس المصريّ
باخوميوس: إن من يبغى الوصول إلى ذُِروة الكمال المَسيحيّ يجد خير نموذج يحتذيه فى حياة وسير الآباء المِصريين. هٰذا إلى جانب زيارة عدد لا نهائيّ من الرحَّالة السُّواح لآباء البرية، فقلدوا طريقة حياتهم الروحية وانضباطها.
ونشأت الرهبنة فى مِصر آواخر القرن الثالث الميلاديّ، وازدهرت فى القرن الرابع. ويُعد القديس أنبا أنطونيوس (251-356م) أب الرهبان وأول راهب مَسيحيّ فى العالم، وقد كان قبطيًّا من صَعيد مِصر. ومع نهاية القرن
الرابع، انتشرت مئات من الأديرة، وآلاف من القلالى والمغائر المحتضنة نُسّاكًا وعُبّادًا ومتوحدين على أرض مِصر. وكثير من هذه الأديرة ما زالت عامرة بمئات من الآباء الرهبان، ويأتيها عديد من طالبى الرهبنة حتى اليوم.
قد نبعت حياة الرهبنة من حياة الكنيسة، بجذورها الممتدة فى العهد الجديد، إذ تحدث السيد المسيح عن أولئك الذين سيقبلون حياة البتولية من أجل الحياة الأبدية فى ملكوت السماوات؛ ما جعل القديس بولس الرسول يمتدح حياة النسك والتكريس لله، التى كان إيليا النبى ويوحنا المَعمَدان نموذجين لها.
وقد سبق ظهور الرهبنة من قلب مِصر عصور من استشهاد مريع شهدتها رُبوعها، وتجرعتها الكنيسة القبطية حتى تخضبت بدماء شهدائها، مقدمة أعدادًا منهم تفوق الحصر!! وكانت الرهبنة هى الخطوة
التالية التى عبّر بها أقباط مِصر على ازدرائهم بمغريات العالم ومباهجه من أجل عظم محبتهم لله، فاستحقت أن تُحسب الابنة الشرعية للاستشهاد أو نوعًا آخر منه: استشهادًا أبيض (دون سفك دم)؛
فبعد أن قدم الشهداء حياتهم من أجل إيمانهم، كرس الرهبان حياتهم تاركين العالم من أجل عظم محبتهم لله، فأمسَت الرهبنة فلسفة ترك: ترك ما للعالم والجسد من أجل الروح ونمو دائم فى الحياة مع الله.
وترتبط حياة الرهبنة بثلاثة نُذور أسياسية: حياة التبتل، والفقر الاختيارى، والطاعة الكاملة؛ فى جهاد روحى مؤسس على كلمات السيد المسيح: يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ: اِذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ
الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِى السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِى حَامِلاً الصَّلِيبَ، إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِى، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ،
وَيَتْبَعْنِى. لذٰلك يلزم حياة الرهبنة أناس ينذرون حياتهم ويقدمون ذواتهم من أجل الله فحسب؛ وكما قال القديس باسيليوس: ينبغى قبل كل شىء للذى يتقدم إلى فضيلة الرهبنة أن يكون له فكر ثابت... لئلا يرجِع إلى
خلف، وأن يكمل الطاعة للرؤساء عليه، ويفحص عما يجب لخلاصه. وينبغى أن يمتحن الإنسان نفسه أولاً ويروضها فى سائر أنواع الجهادات النفسانية والبدنية، قبلما يدخل فى نِير الرهبانية. أما القديس أنبا أنطونيوس فللحديث بقية.
وما زال الحديث فى مصر الحلوة لا ينتهى!.
* الأسقف العام
رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى