منذ ما يزيد على عام، بدأت سلسلة مقالات مدينة السلام، عارضة تاريخ مدينة القدس، من خلال الكتاب المقدس والأحداث التاريخية التى مرت بها، حتى بَدْء الصراع العربى الإسرائيلى. وقد عرضت المقالة السابقة من هذه السلسلة القرار 61
لمجلس الأمن الداعى إلى سحب القوات وإقامة خطوط هدنة دائمة ومناطق منزوعة السلاح، وقراره فى نوفمبر 1948 بإقرار إقامة هدنة فى كل أنحاء فلسطين؛ ليعقب ذلك أول مفاوضات عربية- إسرائيلية بـرودس بإشراف الأمم المتحدة، فى يناير 1949،
لأجل إقامة اتفاقات هدنة بين إسرائيل والدول العربية مِصر والأردن ولبنان وسوريا. فجاء اتفاق الهدنة المصرى- الإسرائيلى فى 12 مادة، أعقبته هدنتان مع لبنان والأردن فى 3/4/1949. وهٰكذا تقرر الوجود الصهيونى فى فلسطين واستمر حتى اليوم.
وأود أن أؤكد عددًا من الحقائق التى تطرقت إليها المقالات:
أولاً: خراب مدينة أورشليم (القدس) وتشتت اليهود كانا بأمر إلهى: فقد قال السيد المسيح عن أورشليم- وأقصد بها اليهود الذين كانوا يعيشون فيها: يَا أُورشَلِيمُ، يَا أُورشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ
الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلَادَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا!؛ وهذا ما كان سنة 70م على يد تيطس الوالى الرومانى؛ وتشتت اليهود بالفعل بين الأمم.
ثانيًا: صارت القدس تحت حكم عربى امتد إلى قرابة 13 قرنًا، بدأ من سنة 642م، ثم جاء اليهود بعد مرور هذه القرون الطويلة، وبدأوا يدّعون أن القدس مدينتهم وعاصمتهم، وأنهم سيحتفلون بمرور ما يزيد على 3000 سنة... إلخ، وأطلقوا عليها اسم أرض الموعد، مؤكدين أنهم عاشوا فيها بوعد من الله، وهم العائدون إليها لا بوعد من الله، بل بوعد من بلفور!
ثالثًا: وعْد الله بأرض الميعاد اتسم بأحوال وشروط؛ لقد كان يسود العالم قديمًا وثنية وعبادة أصنام، فأراد الله أن يحفظ مجموعة من البشر بعيدةً عن التأثير الوثنى، فكان نسل
إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب (الذى سُمى فيما بعد إسرائيل)، وأعطاهم الله وعدًا أن يعيشوا لكى يحفظوا الإيمان إلى أن يأتى وقت انتشاره فى أرجاء الأرض كلها، وتزول الوثنية وعبادة
الأوثان. فقد كان ذلك الوعد مرتبطًا برسالة روحية تقدم كشهادة عن الله إلى البشرية؛ وارتبطت هذه الرسالة بشرط: إِنْ حَفِظَ بَنُوكَ طُرُقِى: أى إن اتبع هذا الشعب وصايا الله. أمّا
عدم حفظ الوصايا وكسرها فقد أعلن الله عواقبه أيضًا: يَجْعَلُكَ الرَّبُّ مُنْهَزِمًا أَمَامَ أَعْدَائِكَ. فِى طَرِيق وَاحِدَةٍ تَخْرُجُ عَلَيْهِمْ، وَفِى سَبْعِ طُرُق تَهْرُبُ أَمَامَهُمْ.
وفى أيام داوود النبى الذى اتخذ من أورشليم عاصمة للبلاد، يكرر الله كلماته أن ثبات المملكة لن يتحقق إلا بحفظ الوصايا: إِنْ حَفِظَ بَنُوكَ عَهْدِى. أمّا اليهود فلم يحفظوا عهد الله
ووصاياه بل أساؤوا إلى الأنبياء والمرسلين إليهم من الله، ورفضوا التوبة، حتى إن الله غضب عليهم وقال لإرميا النبى الذى رجموه فى مِصر: وَأَنْتَ فَلَا تُصَلِّ لِأَجْلِ هَٰذَا الشَّعْبِ
وَلَا تَرْفَعْ لِأَجْلِهِمْ دُعَاءً وَلَا صَلَاةً، وَلَا تُلِحَّ عَلَيَّ لِأَنِّى لَا أَسْمَعُك. وحُكم عليهم بالسبى مدة 70 سنة؛ وكانت هناك وعود من الله أن يعودوا إلى أرضهم: والقصد
أن يعودوا من السبى إلى بلاد اليهودية؛ وقد تحقق هٰذا الوعد فى عهد نَحَمْيا وعزرا وملكى الفرس كُورَش وأرْتَحْشَسْتا، إلى أن جاء السيد المسيح ليجدهم لايزالون فى عصيانهم وعنادهم فقال:
هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا. وهٰكذا انتهت فكرة شعب الله المختار برفض ذلك الشعب لله وعصيانه إياه؛ فالوعد كان بين طرفين وتضمن شروطًا، وهم أخلَّوا بالشروط فانتهى ذٰلك الوعد.
رابعًا: اتسمت عودة اليهود من السبى إلى أرضهم بعودة تفيض بالسلام، فقد أمر كُورَش ملك فارس بعودة اليهود: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَ السَّمَاءِ قَدْ أَعْطَانِى جَمِيعَ مَمَالِكِ الأرض، وَهُوَ
أَوْصَانِى أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا فِى أُورُشَلِيمَ الَّتِى فِى يَهُوذَا. مَنْ مِنْكُمْ مِنْ جَمِيعِ شَعْبِهِ، الرَّبُّ إِلهُهُ مَعَهُ وَلْيَصْعَدْ. أمّا عودة وعد بلفور، فقد جاءت بإخضاع
الآخرين، وبالتهديد، وبالقوة العسكرية، وهى أمور تنافى طريق السلام. وهكذا أرض الموعد- التى وعد الله بها شعب اليهود أنها تفيض عسلًا ولبنًا- صارت تفيض دماءً ورَصاصًا وقتلاً واغتُيل السلام على أرض السلام!!!
و... والحديث فى مصر الحلوة لا ينتهى!
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى