ونحن نتأهب للخروج من البيت، سألتُ صغيرى عمر، وأنا أضع له المنديلَ الأخضر فى جيب الجاكيت الأزرق: إنت عارف إحنا رايحين فين يا عمر؟؛ دائمًا ما أفعلُ ذلك لخلق حوارٍ إيجابى معه،
والتأكد من أنه يتابع ما يجرى وما نحن بصدده. أجابنى: نقابة الصحفيين، سألتُه مجددًا: طيب رايحين ليه؟، أجاب من فوره: جائزة. ماما لها جائزة، تلك عادة صغيرى وجميع المتوحدين مثله فى
التقطير بالكلمات، والإيجاز الشديد والاقتضاب فى الحديث؛ عليك طوال الوقت انتزاع الكلمات منهم انتزاعًا. سألتُه: طيب الجائزة دى اسمها إيه يا عمورى؟، وفوجئتُ به يقول: نوبل، وتركنى ومضى.
بالطبع لستُ أدرى لماذا قال هذا، ولا كيف عرف عن جائزة نوبل!!، فمن المستحيل أن تُدرك كيف يُفكّر المتوحدُ، ولا ماذا يدور فى رأسه. لكن الأكيدَ أن تلك الجائزة الجميلة التى حصدتُها بالأمس كانت تعادل نوبل للآداب بالنسبة
لى. السبب فى ذلك هو أننى، والحمد لله، قد كُرّمتُ أدبيًّا فى محافل دولية عديدة، وحصلتُ على جوائزَ عديدة من الصين وأستراليا وأوروبا وكندا وعديد الدول العربية، لكنها المرة الأولى التى أنالُ فيها جائزةً أدبية من
بلدى الحبيب مصر. لهذا فهى تعنى لى الكثير، وسعادتى بها غامرة. عن جائزة: أفضل كاتبة مقال، التى توّجتنى بالأمس فى حفل تسليم جوائز الإعلامية آمال العمدة، والمحاور مفيد فوزى، فى قاعة حسنين هيكل بنقابة الصحفيين المصريين.
وصدق الحديثُ الشريف: إذا ماتَ ابنُ آدم انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له. ورغم أن المبدعين الكبار عَصِيُّون على الموات والنسيان، إذ تبقى أسماؤهم خالدةً فى ذاكرة
الوطن وذواكر الناس، إلا أن الابنة البارة الإعلامية حنان مفيد فوزى قد أردفت ذلك الخلودَ الأدبىَّ والمعنوىَّ لوالديها الكبيرين: آمال العمدة ومفيد فوزى بما يُكملُ الأمورَ الثلاثة التى وردت بالحديث: فهى
الابنةُ البارّةُ التى تتحدث عن والديها طوال الوقت، وتذكرهما بالخير، شأنها شأن كلّ ابن شريف بارٍّ بوالديه. وأما الصدقة الجارية فقد قدمتها نيابةً عنهما حين جمّعت مكتبة والديها النفيسة بكل ما تحمل من
مخطوطات وكتب نادرة وعريقة، يصلُ بعضُها عمرًا إلى 150 عامًا، لتقدّمها هديةً إلى المكتبة المركزية بجامعة القاهرة حتى تفيد الباحثين والطلاب. وأما العلمُ الذى يُنتفعُ به فقد قدمه الراحلان الكبيران فى
منجزهما الإعلامى المشهود الباقى فى ذاكرة المكتبات والصحافة والتليفزيون المصرى. وها هى الابنةُ البارّة تُردفُ هديةَ المكتبة بهذه الجائزة التى دشّنتها تحت اسمى والديها الراحلين لتكريم المبدعين فى مجالات الإعلام والصحافة.
حين اتصلت بى الأستاذة حنان مفيد فوزى لتُخبرنى بفوزى بجائزة أفضل كاتبة مقال، قررتُ من فورى أن أهدى الجائزة إلى بيتى الإعلامى الذى من خلال شُرفته أُطلُّ على الناس وأُعبّر عن آرائى
وأحلامى وهمومى. الجريدة الراقية الرصينة التى لم تحذف لى حرفًا منذ بدأتُ الكتابة بها قبل عشرين عامًا لأنها صحيفةٌ تحترم الرأى الحرَّ الذى يسهم فى بناء الوطن وبناء الإنسان، والتى
تؤمن أن حرية الرأى أحدُ أهم الحصون؛ التى لو تصدّعتْ تصدّعتِ الأوطان. عن جريدة المصرى اليوم أتحدث، وأفخرُ بأنها حصنى وبيتى وصوتى الحرّ. وانتويتُ أن أهدى جائزتى لجريدتى بمجرد
اعتلائى منصّة التكريم، إلا أننى فوجئتُ بأن جريدتى الحبيبة نفسَها قد نالت جائزة أفضل جريدة مطبوعة، تسلّمها المهندسُ المثقف صلاح دياب، فكانت هذه الجائزة المستحقّة بمثابة تتويج آخر لى.
أعودُ إلى صغيرى عمر الذى أطلق: جائزة نوبل على جائزة أفضل كاتبة!، ورغم أن ابنى تحت طيف التوحد، إلا أننى تعودتُ ألا آخذ أفكاره وكلماته الشحيحة باستخفاف، بل أتأملُ كل كلمة ينطقها وكل سلوك
يأتيه لإيمانى المطلق بأن المتوحدين يرون العالمَ عبر منظور مُركّب شديد التعقيد، وليس على النحو المباشر الذى ننظر نحن به للأمور. أدمغةُ المتوحدين لا تشبه تركيب أدمغتنا، بل هم يُفككون
العالم ويُعيدون ترتيبه على نحو تشكيلى فلسفى معقّد؛ لم يستطع العلمُ حتى الآن الوقوف على كُنهه. لماذا قال عمر إنها جائزة نوبل، وهى أرفعُ الجوائز العالمية على الإطلاق؟!. لا شكَّ عندى فى أن
عمر استطاع سبر غورى والنظر إلى أعماقى، فأدرك كم فرحتى بهذه الجائزة التى تأخرت كثيرًا، لكنها جاءت أخيرًا لتتوّج مسيرتى الصحفية والأدبية والوطنية والنضالية الطويلة التى تناهز ربع
القرن. شكرًا للصديقة العزيزة حنان مفيد فوزى على هذا التكريم، وسامحها الله لأنها وضعت فوق كاهلى اسمين ثقيلين فى ميزان القيمة والأثر. وفى مقال قادم سوف أتحدث عن آل مفيد فوزى وبعض تاريخى مع ثلاثتهم.