من أجمل بنود قانون الضمير المصرى القديم، الذى عُرف بـقانون ماعت البالغ عدده 84 بندًا، جملةٌ مخيفة تقول: أنا لم أتسبّب فى دموع إنسان، يقولُها المتوفَى أمام قُضاة الحساب، لكى يدفعَ أمام عدالتهم باستحقاقه
الخلود، أى البعث والعودة إلى الحياة بعد الموت، وفقَ المعتقد المصرى القديم. هذا الانبعاثُ من الموات يكافئ فى معتقدنا الإسلامى: الفوز بالجنة والنجاةَ من جهنم. وصفتُ الجملةَ بالـمخيفة، إذ نتصوّرُ أن
مصيرَ الإنسان الأبدى رهنُ دمعةٍ عابرة ذرفها إنسانٌ فى لحظة قهر أو ظلم أو كسر خاطر!. أبديةُ الإنسان مرهونةٌ بالرحمة وطيب الطويّة، وليس وحسب بالصلاح والتقوى والسلوك القويم. سَلْ نفسَك: هل تسببت فى دموع إنسان؟.
غدًا، يحلُّ علينا اليوم العالمى للتضامن الإنسانى الذى أقرّته الأمم المتحدة يوم 20 ديسمبر من كل عام، لتذكير البشر بوحدة الأصل الإنسانى رغم التنوّع فى الأعراق، ورفع مستوى الوعى العام بحتمية التآزر والتكافل، وتشجيع مبادرات القضاء على الفقر والجوع والمرض. إنها الرحمةُ التى لو اختفت من قلوب الناس لصار العالمُ صحراءَ قاحلةً موحشةً لا نبتَ فيها ولا ماء ولا وجوه طيبة.
قبل يومين كنتُ فى زيارة الباسلة الساحرة بور سعيد، وتشرفتُ بلقاء سيادة اللواء أ. ح. محب حبشى، محافظ بور سعيد المثقف، لأهديه بعضًا من كتبى. وتطرّق بنا الحديثُ إلى رحمات الله ببنى الإنسان، بوصفها طوق النجاة
الذى نتوقُ إليه كلما ضاقت بنا السُّبلُ وغُلِّقت فى وجوهنا الأبوابُ. ومن أجمل ما قاله لى اللواء/ محب تأمّلُه فى عبقرية البسملة! لماذا أُضيف نعتُ الرحيم إلى نعتِ الرحمن فى وصف لفظ الجلالة؛ رغم اتفاقهما فى
الاشتقاق اللغوى من الجذر ر- ح- م؟! لماذا لا نكتفى بأن نستهلَّ الآيات القرآنية بالتسمية بالربِّ الرحمن (أو) الرحيم، بل نجمعهما معًا كوحدة لا تنفصم؟ تعالوا للتأمل اللغوى: الرحمن على الوزن الصرفى فَعلان،
وتدلُّ هذه الصيغةُ على: الشمول والشساعة، لكى تؤكد: سعةَ الرحمة وعمومَ مِظلّتها بحيث تشملُ جميعَ الخلق دون استثناء. ورحمتى وسِعَت كلَّ شىء (الأعراف 156). أما الرحيم: على الوزن فَعيل، فهى صيغةٌ تدلُّ على:
الثبوت والاستمرار والديمومة. ولهذا؛ فحين نستهلُّ أمرًا بقولنا: بسم الله الرحمن الرحيم، فكأنما نكرّسُ اطمئنانَنا، ونؤكدُ لأنفسنا أن باب الرحمة الإلهية: شاملٌ، ودائمٌ، ففيم الجزعُ، وممَّ الخوفُ، وعمّ التساؤل والقلق؟!
هكذا الرحمةُ الإلهية المعجزة التى لا يحدُّها مكانٌ ولا زمانٌ، تُظلّل جميعَ الخلق دون تمييز. وهكذا وصفَ اللهُ نفسَه بأن سِعة رحمته لا حدودَ لها، ودوامَها لا مُتناهٍ. فكيف
والحالُ هكذا، نقسو على مَن رحِمَ اللهُ؟ وكيف نطلبُها من الله بقلب واثق، ونحن لا نتراحمُ فيما بيننا؟!! يقول المأثورُ: فاقدُ الشىء لا يُعطيه، ولكن الأدقَّ أن نقول: فاقدُ
الشىء لا يُعطاه، أو لا يستحقه. لهذا يقولُ الحديثُ الشريفُ: الراحمون يرحمُهم الرحمنُ، ارحموا مَن فى الأرض يرحمكم مَن فى السماء. ويقول الكتابُ المقدس: طوبى للرحماءِ لأنهم يُرحمون.
والحقُّ أن فكرة التضامن الإنسانى ليست وليدة العصر الحديث، ولا هى ابنة عام 2005 حين نبهت إليه الجمعيةُ العامة للأمم المتحدة خلال المؤتمر العالمى للتنمية الاجتماعية، فأفردت يوم 20 ديسمبر يومًا
عالميًّا للتذكير به. إنما هى أصلٌ راسخٌ فى وجدان الإنسان منذ بدء الخليقة. فالإنسان، بفطرته، كائنٌ اجتماعى يتوق إلى التآزر مع الآخر لكى يحتمى كلاهما بأخيه من عسف الحياة وقسوة الطبيعة، وكذلك
من أجل زراعة الأرض وتشييد العمران. وفى الملاحم القديمة، والأساطير التى تناقلتها الأجيال، كان العيشُ الرحيم بين بنى الإنسان هو فلسفة الوجود ومحور الحياة وطوق النجاة من المخاطر والأهوال. وفى
جميع الديانات نرى التضامن الإنسانى ركنًا أصيلًا فى الرسائل العقدية؛ حيث يُوصَى الإنسانُ بأن يكون عونًا لأخيه، بغض النظر عن اللون أو العرق أو الدين. ولكن فى ظلّ حال الشتات الذى تحياه
البشريةُ وشرارات الحروب التى تبرقُ فى العيون، بين الحين والحين، وفى ظل عالم مزّقته الانقساماتُ والمطامعُ والظلمُ، وطحنته الأزماتُ الاقتصادية والمجاعاتُ والجوائحُ والكوارث، بات الإنسانُ
يتوقُ إلى قبسٍ من نورِ التراحم والتكافل والتضام لينجو من الأثرة والانكفاء على الذات؛ لئلا تزدادَ الفجوةُ بين بنى الإنسان اتساعًا وتصحُّرًا. ما أحوجنا اليوم لنُذكِّر بعضنا بحتمية التراحم،
ونُطوّبَ القلوبَ النبيلة التى ترحمُ، فتكون مستحقة لرحمات الله تعالى. ومن الخطورة بمكان أن نتذكّر التضامن الإنسانى فى يوم واحد من أيام السنة، فى حين يجب أن يكون أسلوب حياة ومراسًا يوميُّا لا استثناء فيه.
وصدق الشاعرُ الحافظُ زين الدين العراقى حين قال: إن كنتَ لا ترحمُ المسكينَ إن عَدِمَ/ ولا الفقيرَ إذا يشكو لكَ العَدَمَ/ فكيف ترجو من الرحمنِ رحمتَه/ وإنما يرحمُ الرحمنُ مَن رَحِمَ. كلَّ عامٍ ونحن رحماء.