جاءني هذا السؤال من أحد الأحبّاء:
سمعت في التلفزيون، في إحدى العظات بالكنيسة، مَن يقول:
"الله قَدَّس العذراء مريم، وجعلها مثل حواء قبل السقوط، ليأخذ منها جسدًا مشابهًا لنا، ولكنّه خالٍ من الخطية"
فطالما كان الله يَقدِر أن يُقَدِّس العذراء ويجعلها مثل حواء قبل السقوط، فقد كان يقدر أن يُقدِّس البشر كلّهم، ويجعلهم مثل آدم وحواء قبل السقوط، بغير احتياج للتجسُّد ولا لسفك دم.. فلماذا تجسّد وفدانا؟!
1- الحقيقة أنّ الكلام الذي سمعتَه هو غير سليم.
2- الروح القدس حلّ على السيدة العذراء لكي يطهرها، فيتجسّد منها ابن الله، وليس لكي يغيِّر من طبيعتها.
3- نقول في تسبحة الكنيسة أنّ القديسة مريم العذراء قدّمَت عجينة البشريّة كاملةً لله الخالق (ثيؤطوكيّة الخميس - القطعة السادسة)، لكي يعيد تشكيلها على صورته من جديد، فتصير فيه خليقة جديدة (2كو5: 17).
4- إذا كانت طبيعة العذراء قد تغيّرَت لتكون مثل حوّاء قبل السقوط، فهي قد قدّمَت لله طبيعة مختلفة عن طبيعتنا المحتاجة للفداء والشفاء.. وأيضًا ستصير العذراء غير محتاجة للخلاص.. وكلّ هذه افتراضات خاطئة تمامًا.
5- نحن نقول أيضًا في التسبحة: "هو أخذ الذي لنا، وأعطانا الذي له"، "أخذ جسدنا، وأعطانا روحه القدّوس، وجعلنا واحدًا معه، من قِبَل صلاحه" (ثيؤطوكيّة الجُمعة)؛ فقد أخذ جسدنا الحالي
الذي يعاني من الضعف والحُزن والتعب.. ولكنّ الخبر المُفرِح أنّه قد حدثت مبادلة جميلة داخل هذا الجسد، فقد أخذ عنَّا أتعابنا وأمراضنا، وكأنّه امتصّ من جسدنا هذه السموم وأبادها، ووهبنا
عِوضًا عنها نعمة الحياة والخلود والسلام والفرح والمجد.. هذه هي ثمار اتحادنا به.. لهذا فالتجسُّد كان هو الطريق الوحيد للاتّحاد بالله، وبدونه كُنّا سنظلّ متغرّبين عنه، وتحت سُلطان الموت والفساد.
6- الابن الكلمة الأزلي أخلى ذاته (في2: 7)، وبحسب تعبير بعض الآباء الأوائل "صَغَّرَ نفسه" لكي يأخذ شكل العبد؛ ولكنّه مع اتّحاده ببشريّتنا الضعيفة ظلّ محتفظًا بكمال لاهوته.. لقد اتّحد بِنا لكي يشفي طبيعتنا المريضة
الفقيرة، ويُغنيها بنعمته، كما يقول معلّمنا القدّيس بولس الرسول: "فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ
بِفَقْرِهِ" (2كو8: 9)، وأيضًا يقول البابا ثيؤفيلوس السكندري البطريرك 23، عن ربّنا يسوع المسيح في تجسّده: أنّه "لم يفتقر إلى شيء ينتمي إلى صورتنا، إلاّ الخطيئة، التي لا جوهر لها"، [الرسالة الفصحيّة رقم 17، فقرة 4 - كتبها عام 402م].
7- الخُلاصة أنّ طبيعة العذراء لم تتغيَّر، بل كانت تحتاج للخلاص والشفاء مثلنا بالضبط. والمسيح أخذ منها جسدًا مثل جسمنا تمامًا، بكلّ احتياجاته البشريّة العاديّة، ولكنّه لم يخطئ أبدًا، بل غلَب تيار الخطيّة في هذا الجسد.. لقد أخذ طبيعتنا البشريّة الضعيفة المريضة لكي يشفيها ويقوّيها، ويَبثّ فيها الحياة ويُمَجِّدها..!
القمص يوحنا نصيف