جاءت أمى للحياة يوم 11 سبتمبر، ورحلت عنها يوم 5 سبتمبر، وبين هذين اليومين عاشت حياة طويلة ملؤها الكفاح والجِدّ والكّدّ والطموح والتعب؛ لكى تجعل من طفليها شيئًا حقيقيًّا يستحقُ الكفاح والتعب.
كانت تردد دائمًا أنها تبنى لمصر هرمين جديدين: طبيبًا، هو شقيقى، ومهندسة هي أنا، وأنها فخورة أنها أمٌّ لأوائلَ سهرت على تفوقهما الليالى وضحّت من أجلهما بكل شىء حتى تَحقَّقَ حلمُها فيهما. كانت
أمى سيدة قوية فوق العادة. على رغم جمالها الأخاذ، إلا أنها بـ 100 راجل، كما يقولون. وكانت حاسمة للغاية فيما يخصُّ التفوق الدراسى. لا شىء في معجمها يعنى 99%، إذْ ستظلُّ تتساءل طوال الوقت عن الدرجة المفقودة!.
ربما يصدُق علمُ الفلك حين قال إن مواليد برج العذراء يتعذبون ويُعذّبون مَن حولهم بهذه السمة الصعبة الـPerfectionism أو نشدان الإتقان. وقد ورثتُ عنها برج العذراء بسماته؛ وأعرفُ كيف يتعذَّبُ صاحبه ويُعذِّب مَن معه. لهذا كان من
العسير إرضاءُ أمى إلا بالدرجات النهائية ودخول الطب والهندسة. في ذكرى رحيلها وفى عيد ميلادها اللذين يفصلهما أيامٌ قليلة، أودُّ أن أشكرها لأنها علّمتنى، أو أورثتنى، المعنى الحقيقى للمسؤولية والتفانى في الكد نُشدانًا للإتقان.
دعونى أحدّثكم عن وجه أمى وكيف ذبحنى اختفاؤه. يوم رحيل أمى وقفتُ أمام جثمانها لحظة الغُسل ورحتُ أتأمل عينيها البنيتين الجميلتين نصف المغمضتين، ولمحتُ فيهما وميضًا كأنما
تنظر نحوى لتعتذرَ لى عن تركها إياى وأنا في أمسّ الحاجة إليها؛ لكى تُكمل معى مشوارى العسير مع ابنى عمر. كنت أنظرُ إليها مُمددة فوق طاولة الغُسل والسيداتُ من حولها يصببن على
جسدها ماء زمزم الذي جلبتُه لها بنفسى من مكّة المكرمة بناءً على طلبها. كنتُ مندهشة من استسلامها لأيادى السيدات، ورحتُ أهمس لها: لماذا تستسلمين لهنّ هكذا يا أمى، وأنتِ
المرأةُ الصعبة التي لا تُساس؟!، صرختُ في وجوههن: اتركن أمى!.. لكنهن هددننى؛ إن بكيتُ أخرجننى من الغرفة. لكن خوفى من صمتك واستسلامك جعل المياه تتكاثف في عينىّ وتسقط كشلال لا يتوقف.
لحظة الكفن كانت أقسى من الغُسل. لم أحتمل مرأى طبقات الكتّان يبسطنها فوق جسدك، فصرخت فيهن: لا!!.. مستحيل أن يغطين وجهَك عنى للأبد!. نزعتُ الكفن عن وجهك. فأخرجننى من الغرفة لأكمل وجعى بعيدًا عنك. وحيدةً مثل زهرة جافة، مرميّة في جدب.
لا أحد يعرف لماذا رفضتُ الكَفن. لكنك تعرفين يا أمى دون شك؛ لأنك تذكرين عُقدتى القديمة. حجبُ وجهك عنى استدعى خوفًا قديمًا لم يبرحنى منذ طفولتى. تذكرين؟، أول يوم لى في المدرسة. تركتِنى في الفصل
بعدما أجلستنى على الديسك وخرجتِ. لمحتُ وجهك من شباك الفصل وأنت تلوحين لى: وداعًا! ولم أستوعب لماذا تتركيننى مع غرباء وترحلين!!. حين اختفى وجهُك من صفحة الشباك صرختُ وركضتُ وراءك. ولم تعرفى ماذا
تعملين مع عنادى وهلعى. استأذنتِ عميدةَ المدرسة ميس لولو أن تسمح لكِ بالبقاء معى حتى نهاية اليوم الدراسى. ورفضوا بالطبع. وبعد توسلاتك وافقوا على أن تجلسى جوار شباك الفصل من الخارج. أنهضُ من
مقعدى في الفصل بين الحين والحين وأنظر إليك فأطمئنُ أنكِ هناك. أولئك القُساةُ يغطون وجهك الآن بالكفن كى يعيدونى إلى تلك اللحظة المُرّة. لحظة اختفاء وجهك من فتحة شباك الفصل. لم أسمح لهم بذلك... لكنهم فعلوا.
في فصل الخريف، تُظهر الأشجارُ كرمَها فتخلعُ ثوبَها القديم، وتُهديه للأرض. فتكتسى الأرضُ السوداءُ بثوب بديع من الذهب، غزلته من الأوراق الصفراء التي أسقطتها أشجار قررت
أن تجدد دولاب ملابسها. أحب سبتمبر الخريفىّ الذي يحمل صوت أجراس المدارس وشقشقة العصافير في الصباح، وهدايا عيد ميلادى. لكنه كما يحمل لى الفرح، حمّلنى سلّة ضخمة من الوجع،
أحيانًا لا أقوى على حملها، فتسقط من فوق رأسى، وأنحنى لأرفعها من جديد، مثل سيزيف يحمل صخرته إلى الأبد. جاءت أمى للحياة في سبتمبر، وأنجبتنى في سبتمبر، ورحلت عنى في سبتمبر.
في مسجد النور بالعباسية، وقتَ الصلاة عليكِ، قالت لى إحدى المُعزّيات: ماما جات وواقفة برا مش قادرة تدخل وعاوزة تشوفك. صرختُ في فرح: بجد، صحيح؟!.. وركضتُ إلى خارج المسجد أبحثُ عنكِ، لكنك لم تكونى هناك. كانت تتكلم عن أمها هي، وليس عن أمى أنا. أمى أنا... ماتت!.
مازلتُ أدقُّ رقم هاتفك، وحين تقول السيدةُ: هذا الرقمُ غير موجود بالخدمة!، أعرفُ أنك رحلت إلى حيثُ ترحلُ الأمهات ولا يعدن. أديرُ سورة غافر بصوت الشيخ محمد صديق المنشاوى، وأنظر إلى وجهك تبتسمين حين يقول: ثم يُخرجكم طفلا، وأنت تمسحين على بطنى وأنا حاملٌ في طفلى. ماما.. وحشتينى وأحتاجُ إليك!.. تعالَىْ!.