كتاب أهمية أن نتثقف يا ناس هو مجموعة مقالات للروائي والكاتب القصصي والمسرحي الكبير يوسف إدريس، وقد انتشر هذا الكتاب وذاع صيته، وتُرجم للعديد من لغات العالم، وهو من أعمال يوسف إدريس المقالية والفكرية، وقد سمّى الكتاب
باسم أشهر مقالة كتبها في باب المفكرة في الأهرام أهمية أن نتثقف يا ناس، وكانت المقالة تصف الحالة الثقافية للمجتمع المصري وقت نشرها،وقد أحدثت ضجة كبيرة داخل الأوساط الثقافية، وربما هي أشهر مقالة في تاريخ الكتابة العربية.
وهو في هذا الكتاب يكشف عن أن الوجود المصري في وقته يمر بأعنف أزمة ثقافية، ويتحدث عن أسباب ذلك، ويشير إلى أن الحقبة السبعينية من هذا القرن العشرين أسقطتنا إلى هوه من الصعب
أن نتخيل كُنه أبعادها، وذكر أن هناك مخدرات فكرية وثقافية تُغيِّب من الأبصار وتكاد تُعمي العيون ، نفس المخدرات التي أصبحت تشيع باسم الدين، والدين منها برئ، وهو يرى -وهذا
الكلام في حقبة ثمانينات القرن العشرين - أن هناك مؤامرة وأن شيئاً خطيراً يحدث للعقل المصري بفعل فاعل ، لذلك فهو يتحدث في هذا الكتاب عن الوعي المثقف المزوَّد بالقدرة على
التمييز والإدراك، وعن إنقاذ الوعي المصري، وعن مقاومة تلك الغزوة الرامية لشلِّ عقولنا وإبادة حضارتنا، وتشجيع التسيب في سلوكنا، وإشاعة الفوضى في وجودنا، في بيوتنا، في شوارعنا،
{جاء علينا حين من الدهر كانت كلمة مثقف فيه علامة أن المواطن هو فعلاً صاحب مقام رفيع، كان احترام الثقافة والمثقفين جزءاً لا يتجزأ من قيم شعبنا وتقاليده الراسخة، بحيث إن عامة الشعب حين كانت تريد أن ترفع من قيمة المتعلم أو المثقف تميزه بكلمة أفندي،.
وهذا الحين من الدهر كان مستمراً طوال حياة الشعب المصري حين كان المثقف في العصور الوسطى هو الشيخ أو مولانا أو سيدنا، ومن نفس المشايخ برزت الفئة المثقفة الجديدة مع بداية مصر الحديثة في عصر محمد علي، ومن
رفاعة رافع الطهطاوي إلى محمد عبده وخالد محمد خالد، تلك الكوكبة من العقول المضيئة التي ظل مجتمعنا ينظر إليها كما ينظر إلى مصادر الضوء تُنير له وجوده وحياته ويرفعها إلى مستوى التبجيل العظيم والقيمة الخالدة.
ولا أعتقد أن بلداً من بلاد العالم جُبل شعبه على تقديس الثقافة والمثقفين مثل بلادنا، إن المكانة التي ُرفع إليها طه حسين والعقاد وأحمد حسن الزيات والمازني ومحمود عزمي وسلامة موسى وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ
وحسين فوزي ولويس عوض وأحمد أمين وأحمد زكي وهيكل ومشّرفة وزكي نجيب، المكانة التي رفعنا لها هؤلاء وغيرهم تُثبت أننا بالسليقة شعب يُقِّدس المعرفة والثقافة، شعب في أساسه متحضر وعميق الصلة بالقيم الحضارية العليا.
ماذا إذن حدث فقلب أمورنا رأساً على عقب، حتى أصبحت كلمة أفندي تُقال للسخرية، وكلمة مثقف تُذكر من باب التوبيخ والتريقة، وكلمة ثقافة يتحَّسس لدى ذكرها بعض المواطنين أنوفهم وكأنما هي شيء لا يُطاق؟
ماذا بالضبط حدث؟
ليس فقط للمواطنين وإنما حتى للقيادات الفكرية والفنية للمواطنين، ..
كان كل شيئ يسير على يُرام إلى أن قامت ثورة 1952، وثورة 52 أساساً ثورة الطبقة المتوسطة الصغيرة التي لم تنل من مكاسب ثورة 19 شيئاً، وكل ثورات العالم تنشأ هكذا بهدف إزالة طبقات وإحلال طبقات محلها، ولكن معظم الثورات يقودها سياسيون مثقفون، فإنهم يفرقون بين إزاحة الطبقة واستكمال التراث الثقافي للأمة.
فالثقافة التي أفرزها المجتمع المصري خلال النصف الأول من قرننا الحالي (1900 - 1950م) هي ثقافة الشعب المصري كله وليست ثقافة الطبقة الإقطاعية أو الرأسمالية فقط، فمعظم المثقفين والكتّاب الذين أفرزوا هذه الثقافة
كانوا يأتون أصلاً من صميم الطبقات الشعبية، كانوا أبناء عمال وفلاحين، حتى إن أحداً منهم لم يكن في أصله ابن عمده، والتمسك بتراث الأمة الروحي والثقافي هو جزء لا يتجزأ من مهمة أية ثورة وطنية، لأنه بدون هذا
التراث قد تنتعش المصالح الاقتصادية للعمال والفلاحين والطبقات الشعبية الثائرة، ولكن العمود الفقري الثقافي الذي يحمل تراث الأمة الروحي إذا لم يحافظ عليه يتحلل وتنشأ طبقات عريضة جديدة بدون محتوى روحي أو
ثقافي أو حضاري مثلما حدث عندنا فالثقافة ليست مجرد تحصيل معلومات من كتب الثقافة بل هي الإشعاع الذي يحيل الجماهير إلى كائنات متحضرة منظمة، ويجعلها كلما ارتقت اقتصادياً ترتقي سلوكياً وتعاملياً وإنسانياً وفكرياً
وشكوانا المستمرة من السلبية والفوضى وانعدام الضمير والقيم وتفشي الفساد والمحسوبية، شكوانا من الازدحام الحيواني والهرجله والارتجال في المشروعات والحلول تقريباً كل شكاوانا الخاصة بالإنسان سببها أننا تحولنا إلى مجتمع
جاهل حتى وإن كان بعضه متعلم، مجتمع غير واعٍ أو مدرك أي غير مثقف، مجتمع همه على بطنه. مجتمع ليس له صفوة قائدة مثقفة محترمة تتمسك بالقيم وتدافع عنها وتدعوا إليها، مجتمع نجومه ونجماته أشد ظلاماً وخمولاً من السماء الملبدة بالغيوم.
إننا ننحدر ثقافياً وبالتالي سلوكياً بدرجة خطيرة، والغوغائية - نتيجة لانعدام الثقافة - تسود إلى درجة تُهدد فيها باكتساح وجودنا كله ، ومع وجود هذه الكمية المخيفة من البشر في هذا الحيز الضيق للوجود فإننا ذاهبون إلى كارثة محققة - لا قدر الله - فالثقافة أخطر من أن تكون من كماليات الحياة، فالحياة نفسها هي الوجود المثقف للكائنات} انتهى.
وأخيراً: إن كان هذا هو رأي يوسف إدريس عن وضع الثقافة في الثمانينات من القرن العشرين، فكيف سيكون رأيه عن الحالة التي وصل إليها واقعنا الثقافي المعاصر ؟، وكنت أتمنى أن يكون معنا ونعرف رأيه بخصوص هدم مقابرنا التاريخية.