قبل أن أخوض في الملف الذي أفتحه اليوم, أود أن أحيط القراء علما بأنني لست أتعرض له كصحفي لا دراية له به, إنما أتعرض له كمهندس معماري تعلم علم الهندسة المعمارية ورضع علي يد فطاحل الأساتذة ومن خلال أمهات الكتب تاريخ العمارة عبر العصور ونظريات الوظيفة والإنشاء والجمال والزخرفة التي أفرزت الطرز المعمارية في مختلف الحضارات والتجارب الإنسانية عبر العصور.
من هذه الخلفية المعرفية والخبرة التراكمية أستطيع أن أزعم أنني أمتلك عينا فاحصة وقدرة نقدية ترصد المباني والمنشآت التي نتردد عبرها في تحركاتنا خلال التجمعات العمرانية الحديثة التي نشأت خارج الكوردون العمراني للقاهرة, وحملت المرجعية التي تنتسب إليها وهي القاهرة الجديدة.
وأيا كانت مكانية هذه القاهرة الجديدة سواء في الشمال أو في الشرق أو في الغرب أو في الجنوب من العاصمة الأم, دعوني أسجل أن هناك طوفانا من المباني يصلح أن يطلق عليه تمردا وانفلاتا علي
سائر الطرز المعمارية المعروفة ـ سواء القديمة أو المعاصرة أو ما بعد المعاصرة أو الحديثة ـ ذلك الطوفان لا يقدم أية معايير هندسية أو إبداعية ترقي لترسيخ طراز جديد, إنما هو يتأرجح بفوضي
عبثية بين سائر الطرز ليلتقط من هنا وهناك أية عناصر ليوظفها في التشكيل المعماري غير مكثرت بالنتيجة الصادمة التي يخلفها والتي لا تتبع أية قواعد إنشائية أو حتي جمالية ولا تخلف سوي القبح.
وأتساءل مستنكرا: أين الأجهزة الهندسية المناط بها مراجعة وإجازة هذه الاجتهادات المعمارية؟.. وهل ينحصر دورها في استيفاء معايير المساحات المبنية والارتفاعات دون النظر إلي المعالجات المعمارية والمواد والألوان والزخارف؟
إن كان الأمر كذلك فلا يمكن إعفاء تلك الأجهزة الهندسية من كونها شريكة فيما نرثه من انفلات وفوضي معمارية تضرب بأسس التخطيط العمراني والتنسيق والتناغم الجمالي عرض الحائط وتفضح الجهل وعدم الدراية بكل ذلك!!
وإزاء ذلك الواقع الكارثي أجدني مدفوعا لأن أطلق صرخة لإعلاء كل الجهود التي بذلت وماتزال تتواصل لإحياء وترميم وتجديد إرثنا المعماري القديم, سواء في العمارة المصرية القديمة الفرعونية أو الإغريقية أو الرومانية أو القبطية أو
الإسلامية وصولا إلي عمارة القاهرة الخديوية ومن بعدها ما يطلق عليه العمارة المعاصرة ـ عمارة خمسينيات القرن العشرين وما بعدها ـ فكل تلك الحقب قدمت نماذج عظيمة للقوة والإتقان والإبداع والجمال وتركت معايير ونسبا متناغمة تحتذي.
وعلي مر العصور وتبعا لمكانية العمارة والخامات المتاحة دأب المهندسون علي إبداع الطرز المعمارية الأصيلة وكان التطوير والتحديث دوما يتأتي من خلال الانتقال من هذا إلي ذاك لكن ما نعاني منه الآن أنه بسبب إفلاس المهندسين عن إبداع طراز جديد استمرأوا الخلط بين هذا وذاك الأمر الذي أفرز الفوضي والعبث الذي نحن بصدده.
كنت أود أن أقدم أمثلة ـ لا حصر لها ـ علي ما أقول, لكن الكلمة وحدها تقف قاصرة عن تسليط الضوء علي المحنة المعمارية للطراز الشيطاني الذي ولد ويترعرع في القاهرة الجديدة ولعل السبيل إلي إدراك ذلك هو أن أكلف فريقا من الزملاء في وطني أن يجوبوا تلك الأنحاء ويسجلوا بعدساتهم نماذج علي ما أقول لننشرها ونحللها ونعكس كيف أساءت للطرز المعمارية الراسخة دون أن تقدم طرازا جديدا
فإلي اللقاء علي صفحات وطني مع سلسلة طراز معماري شيطاني يولد ويترعرع في القاهرة الجديدة!!.